يمكن لأي مطّلع على المشهد الفلسطيني، أن يميّز نوعين من الخطاب السائد، أو لنَقُل الأكثر رواجاً: خطابٌ يدور همساً أو وجعاً في الغرف المغلقة، وخطابٌ موزّع في كلّ الاتجاهات يُعلَن على الناس وهو لا يعكس الواقع ولا الحقيقة دائماً، وربّما ينطوي على قدر وافر من التزييف، ومحاولات خداع الواقع. لكنّ هذا لا يعني عدم وجود نوع ثالث من الخطاب، يحمل قدراً كبيراً من الصراحة والوضوح، ولا يشبه الخطابين السابقين في شيء، فهو ليس هامساً ولا مخادعاً.في حوار مطوّل على قناة «فلسطين اليوم»، كشف الأمين العام لـ«حركة الجهاد الإسلامي» زياد النخالة، عن وقائع لقاء جمعه بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو، موضحاً أنّ الوزير الروسي، دعاه إلى ضرورة توحيد الموقف الفلسطيني، وهي دعوة تستبطن القول بالاصطفاف وراء مشاريع التسوية. يقول النخالة إنّه ردّ على الوزير الروسي بالآتي: «قلت له: للأسف، كل الدول العظمى تعمل ضمن السياق أو العقلية الإسرائيلية... نحن كشعبٍ فلسطيني لم تُقدَّم لنا تاريخياً أي مبادرة حلّ، ولكن للأسف كنّا نحن الذين كنّا نقدِّم مبادرات، قلنا عنها مبادرات حل، ولكنّها في حقيقتها تنازل. نحن كنّا نتكيّف ونخضع للموقف الإسرائيلي وللمزاج الدولي، حتى نبدو لكلّ الأطراف أنّنا مرنون. اليوم، هناك مبادرة ترامب... المبادرة الوحيدة التي قدّمها المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني... أنا أتوقّع من روسيا كحليف للشعب الفلسطيني أن تتقدّم بمبادرة تحقّق الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، عندها نحن مستعدّون أن نسمع لكم هذه الاقتراحات... هل تستطيعون تقديم مبادرة بإنشاء دولة فلسطينية في قطاع غزّة والضفة الغربية وتقفون عند ذلك؟ عندها يمكن أن ندخل على المسألة وأن نكون جزءاً من هذه العملية، لكن عندما يطلب منّا المجتمع الدولي أن نذهب في طريق بلا نهاية من مفاوضات لا نهاية لها مع إسرائيل، كما جرى في أوسلو، فهذا ظلم للشعب الفلسطيني». ملخّص اللقاء مع لافروف كما يعرضه النخالة، يمكن أن يلخّص الكثير من وقائع المسار الفلسطيني في التعامل مع التسوية، حتى اللحظة الراهنة. ثمة كلمة سرّ أساسية هي: التكيّف، الذي قام به الفلسطينيون واعتبروا أنّ المطلوب منهم، ليس التمسّك بحقوقهم المطلقة والأساسية، بل التلاؤم مع التصوّرات الدولية، لذلك كان هناك من يبادر إلى تقديم تصوّرات للعدو، تشبه توسّل الضحية حلّاً للجلّاد، وذلك منذ طرح البرنامج المرحلي، وحتى «الخطّة البديلة لصفقة القرن».
في اللقاء المشار إليه، لم تكن تلك هي اللحظة الوحيدة التي خرج فيها الأمين العام لـ«حركة الجهاد الإسلامي» عن الخطاب النمطي السائد في الساحة الفلسطينية، فقد لاحظ أنّ الحلول السياسية المطروحة تعاني من خلل خطير، وهي أنّها بضاعة لا تجد من يشتريها، بل هي تنازلات فلسطينية مجانية، تقوم على وهم السعي إلى إقناع المجتمع الدولي بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيّته، في حين أنّ الحقيقة الساطعة هي أنّ هذا المجتمع الدولي هو الذي أوجد الكيان الإسرائيلي، وهو الذي كرّس وجوده في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وهو الذي يؤمّن له الغطاء السياسي والعسكري، وكلّ أسباب الدعم.

موازين القوى
لا يحضر تعبير موازين القوى بالقدر الكافي في الخطاب الفلسطيني، لكن ثمة من يؤسّس في قراءته لمعطياته القائمة كي يسوّغ الذهاب نحو تنازلات بلا حدود، يفرضها ميزان القوى المختل. هنا، يدعو النخالة إلى رؤية مختلفة. يقول إنّ «الحياة موازين قوى وليست مفاوضات»، مرفِقاً ذلك بالدعوة إلى تعديل الاختلال القائم في موازين القوى، وعدم الرضوخ للمعادلة القائمة، التي يرى البعض معها أنّ السياسة، وفق التعريف الغربي هي فنّ الممكن، فيقول: «نحن نقول إنّ الممكن يمكن تحويله إلى فرصة من خلال الاستعداد لتقديم تضحيات»، ليعيد صياغة المعادلة على أساس مفهوم المقاومة: «نحن نستطيع أن نقلب ميزان القوى لصالحنا إذا امتلكنا القليل من الإمكانية والكثير من الإرادة والاستعداد للتضحية».
هنا لا يتم الاكتفاء بما يمكن وصفه بعبارات تفاؤلية، بل بالارتكاز إلى ما تقوم به المقاومة في غزة، «بالسلاح الذي تصنعه من المستحيل»، و«بالصواريخ الفلسطينية التي هي من صناعة غزة وتصنيع المقاتلين في الميدان»، وبالاستناد إلى ذلك، «لا توجد خطوط حمراء في القتال ضد العدو. نحن نقاتل بكل ما نملك من قوة»، وقد وضعت «غزة معادلة أنّ أي عدوان سيتمّ الرد عليه... وأي اغتيال سنرد عليه».

العودة إلى البديهيات
يرفض النخالة «خداع الواقع باللغة»، ومقابل التبرّع بتقديم الحلول والمبادرات من القتيل إلى القاتل، يدعو إلى العودة بالخطاب الفلسطيني إلى بداياته الأولى والواضحة، فالمعركة هي معركة مع مشروع يريد كامل فلسطين، ويريد أن يقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن يمحو تاريخه، وأن ينهب ثرواته، ويسيطر على مقدساته. في معركة كهذه، لا تنفع المناورات: «ولا يوجد أمامنا خيار سوى القتال أو الاستسلام، والاستسلام يعني الموت. إنّ خلافنا مع العدو هو خلاف على التاريخ والجغرافيا والمقدسات والمستقبل»، ولهذا يجب أن يتوقف «العبث» الفلسطيني، وأن نعود إلى أصل الصراع ونعي طبيعته الحقيقية، «تعالوا لنصيغ برنامجاً وطنياً فلسطينياً على الأسس التي تعيدنا إلى الأصل، لقد انطلقنا على أساس تحرير فلسطين، فلماذا نذهب في صياغات واحتيالات نعتقد أننا نقنع العالم بها؟»، «نحن نحتاج إلى مقاربة جديدة، لأننا أمام معادلة أنّ أرضنا محتلّة، وأنّ واجباتنا ألّا نقبل بالاحتلال وأن نقاومه. وهذا ما توافق عليه في الميثاق الوطني الفلسطيني المؤسّسون لمنظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما ندعو للالتزام به». لطالما كان تعبير «الحد الأدنى» مخرَجاً لتغطية «القبول الموارب» بما يجب أن يُرفض على رؤوس الأشهاد، وهكذا حضر التعبير الذي تتغطّى به القوى تحت عنوان تحقيق التوافق، وصيانة الوحدة، وقد اعتبر النخالة أنّ استخدام هذا التعبير ناتج عن رضوخ الطرف الفلسطيني، وتبرّعه بتقديم تنازلات لا يشتريها منه أحد. «هذه المصطلحات جاءت نتيجة الضعف» الفلسطيني، على أنها تعكس أيضاً حالة من التكاذب والفهلوة، ففي «عشرات الاجتماعات كنا نمارس الفهلوة، فهلوة صياغة بيان، (ونسرُ من) الذي أدخل عبارة تخرجنا من مأزق معين. هذا أسوأ من تدوير الزوايا، هذا هروب من الحقائق بتغيير لغة البيان، وهذا خداع للواقع، (والأسوأ) أنه بعد أن تغادر لا تجد أيّ مفعول للبيان»، لأنّ الأمر كلّه لا يتعدّى لعبة الصياغة.

منظمة التحرير الفلسطينية
يقرّ الأمين العام لـ«حركة الجهاد»، بأنّ «الواقع الفلسطيني لا يحتمل كيانات أو مبادرات جديدة»، ويعتبر أنّ «هناك عقبات كثيرة أمام الفصائل والقوى، فإلى أيّ مدى مثلاً يمكن لليسار الفلسطيني الالتحام في مشروع سياسي يقوم على رفض أوسلو وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس سياسية جديدة؟ علينا أن لا نستسهل الأمر، البعض يقول اعملوا خطوة، لكن هذه الخطوات تستنزف، وإذا بدأت تتلين من أجل التوافقات، فإنك تتنازل بالتدريج».
حسناً، ما دام الواقع لا يحتمل كيانات جديدة، وما دام الفلسطينيون يملكون «كياناً» يتوافقون على أهميته وعلى التمسك به، وهو منظمة التحرير الفلسطينية، فإنّ الأسئلة تبدأ من جديد، حين يتمّ الوصول إلى الحديث عن المنظمة.
يعتبر النخالة أنّ التمسك بـ«منظمة التحرير» ناجم عن «الاعتراف العربي والعالمي بها»، وهو اعتراف لم يتم لأنّ «منظمة التحرير» تقاتل إسرائيل، فلو كانت كذلك «لما اعترف بها العالم، العالم اعترف بها لأنها اعترفت بوجود إسرائيل على 78% من الأرض الفلسطينية مقابل الاعتراف بالمنظمة، وليس الاعتراف بدولة فلسطينية، أميركا عاقبت المنظمة لأنها تريد عنواناً مطيعاً للسياسة الأميركية الإسرائيلية».
مع ذلك، «نحن قلنا إنه لدينا استعداد أن نكون جزءاً من منظمة التحرير، لكن ليس بهذا البرنامج الذي يعترف بإسرائيل، بل بناء على أسس تنظيميّة وسياسيّة جديدة. ولو قبلنا الدخول في منظمة التحرير لما قبل ذلك الطرف الآخر. نحن لا نريد أن نلعب ألعاباً لغوية ونتشاطر على بعضنا بعضاً. يجب أن نعود إلى خياراتنا الأساسية».

المصالحة والوحدة الوطنية
حافظت «حركة الجهاد» على موقف يرفض الانقسام الفلسطيني، ويدعو إلى إنهائه، لكن «قبول» الأطراف بها ناجم عن ابتعادها منذ البداية عن لعبة المغانم السلطوية وابتعادها عن المنافسة على المراكز والوظائف. «نحن لا ننافس على المواقع»، يؤكّد الأمين العام لـ«الجهاد»، وربما أنّ هذا ما يجعل الجميع راضياً، لكنّه يعيّن موقع الحركة ورؤيتها بالقول: «نحن لسنا قوة وسطية في الواقع الفلسطيني. لنا رؤية في الصراع مع إسرائيل، ولدينا رؤية تجاه الواقع الفلسطيني، خطابنا لا يرضي السلطة الفلسطينية، ولدينا مشكلة مباشرة معها، فهي تعتقل المجاهدين في الضفة الغربية وتلاحقهم، وأحياناً لدينا مشاكل مع حماس، ولكن نتغلّب عليها لمصلحة المقاومة في الميدان». ليس جديداً أن يؤكّد النخالة موقف حركته الداعم، وبقوة لأي تقارب فلسطيني ـــــــ فلسطيني، فالموقف «من الوحدة الوطنية موقف إيجابي من دون حدود، وما يعنينا هو الموقف السياسي والبرنامج السياسي».
كعادته تكلّم الأمين العام بمرارة عمّا يسميه البعض «إنجازات» حقّقها اتفاق أوسلو، بينما نتائجه على أرض الواقع كارثية

لكنّ الجديد هو الدعوة إلى مصارحة الشعب الفلسطيني؛ فالنخالة يرى أنّ «السلطة لها غرض من هذا الحوار، وحماس لها غرض آخر. كل يشتغل على أجندته، والعنوان المشترك هو مواجهة خطة الضم. هذا مسموح به للقوى السياسية، وأن توظف كل قوة ما هو متاح لمصالحها السياسية. (لكن) أنا لست مع هذا الأسلوب ولا مع أن نتسلّل تجاه بعضنا البعض، وأن يعتقد كل طرف أنه يمرّر ما يريد، لأنه في الصراع مع العدو الصهيوني لا قيمة لهذه التكتيكات. نحن لسنا أعداء لكي نحتال على بعضنا البعض. نحن نؤيّد المصالحة، وندفع بها باتجاه إزالة كل الخلافات، لكننا يجب أن لا نبني أوهاماً».

ترضية غزة
يلفت النخالة إلى ما يجري العمل عليه تجاه غزة ومستقبلها ومستقبل المقاومة فيها، ملاحظاً أنّ هناك من يسعى إلى «ترضية غزة»، ويعتبر أنّ «المطلوب من غزة أن تهدأ ضمن التفاهمات على أمل أن يصل بهذا الهدوء إلى مرحلة يستطيع فيها أن يتخاطب مع غزة في احتياجات أخرى، إنسانية، وأن يراكم على هذا المسار. العدو الإسرائيلي لا يريد أن يرى غزة مسلحة، وهذا شرط أساسي، لذلك هو يسير في هذه الخطة، فإذا حيّدت غزة سيصدأ سلاحها». وينجح مشروع تحييدها للاستفراد بباقي فلسطين، بينما المقاومة أسيرة الجغرافيا المحاصرة. يرى النخالة أنّ «المقاومة تقوم بعمل كبير في تعزيز قدراتها يومياً، العدو يحلم بأشياء أخرى، وإخواننا العرب يحلمون بأشياء أخرى، لا يريدون حروباً ولا يريدون أن تغضب إسرائيل، ونحن نريد شيئاً مختلفاً، فالمقاومة حالة اشتباك مستمر، وفي حالة غزة سنردّ على أيّ عدوان، ولاحقاً ستتطور الحالة وستمارس المقاومة دورها».

التطبيع والمسؤوليات
لا يتردّد النخالة في انتقاد الدول العربية على عدم توفير شبكة أمان مالية للسلطة الفلسطينية، يقول: «السلطة الفلسطينية، رغم ما تمثل من رؤية سياسية متطابقة متقاطعة مع النظام العربي في مشروع السلام، يضنّ عليها الإخوة العرب بشبكة أمان مالية، في حين تنفق المملكة العربية السعودية مليارات الدولارات في قصف الشعب اليمني المظلوم. فأي مقاربة هذه لهذا الشكل من المشهد العربي؟».
وفي مسألة التطبيع، لا يتردّد النخالة في وصف «الذين يحملون راية التطبيع (بأنهم) يتخلّون عن هويتهم العربية؛ ودورهم أسوأ من علاقاتهم مع العدو الصهيوني على حساب العرب والمنطقة وعلى حساب دماء المسلمين». ومع ذلك، يلفت إلى أنّ مواجهة التطبيع تتطلب العمل فلسطينياً بالدرجة الأولى: «الفلسطينيون هم الذين يصنعون المعادلة، إن كنّا موحدين وقادرين في الميدان سنخلق قناعات بتغيير المواقف في كل المحيط، وإذا كنا ضعفاء ولا نستطيع أن نقاتل إسرائيل، فإن الذي سيطبّع في الإمارات (العربية المتحدة) سيقول إنكم وقّعتم اتفاق أوسلو وتنسقون أمنياً والقيادات الإسرائيلية تزور رام الله، ونحن أين هي مشكلتنا مع إسرائيل، في حين أنّ أبو مازن ينسّق أمنياً مع إسرائيل؟ إن كان موقفنا مختلفاً فبالتأكيد سيختلف الموقف العربي».

خطاب في حيّز الوضوح
ينتمي كلام الأمين العام لـ«حركة الجهاد» إلى حيّز الوضوح، في أول إطلالة له بعد وفاة الأمين العام السابق الدكتور رمضان عبد الله شلح، رحمه الله. وهو أراد القول من دون تأتاة، وبصراحة كاملة: تعالوا بنا إلى فلسطين، لنعيد للقضية رونقها وصفاءها بعيداً عن «الفهلوة» و«العبث» وتزييف الوقائع، والكذب على الناس. نحن أصحاب القضية، ونحن الذين نصنع مستقبلها، وفي أيدينا القدرة على إعادة بناء موازين القوى لصالحنا، بقليل من الإمكانات وبكثير من الإرادة والاستعداد للتضحية، وعندها سنغير الواقع المحيط بنا لصالحنا. وبهذا، فإنّ زياد النخالة سيكون متعباً في صراحته، وفي بساطة رسالته ووضوحها التي تربك الخطاب النمطي.

* كاتب فلسطيني