يذهب بيار بورديو في كتابه «عن الدولة» إلى تفكيك مفهوم الدولة وكيفيّة سيلانه بين الجمهور والطبقات المختلفة متحرّراً بذلك من التعريفات السائدة لها والتي طُرحت في علم الاجتماع والسياسة ليقدّم مفهوماً انتروبولوجياً جديداً لها يمتدّ ليشمل مناحي الحياة المختلفة للناس، فليست الدولة من حيث مفهومها مجموعة من المؤسّسات أو الميكانيزمات السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة فقط، بل هي بنية معرفيّة في الأساس تظهر في العديد من السلوكيّات اليوميّة العامّة والفرديّة بحيث يُمكن لنا أن نشبّهها بالضغط الجويّ ـــ ونستعير التعبير هنا من الدكتور علي الوردي ـــ الذي يضغط كواهل الناس بحيث يعتادون عليه ولا يشعرون به إلّا عند خروجهم من إطاره، فالدولة تنشئ إطاراً معرفيّاً وتُعيد إنتاجه بما يرسّخ البنى الطبقيّة والتوزّعات الاجتماعيّة القائمة على أفكار تستوطن اللاوعي واللاشعور الجماهيري.الدولة إذاً ذات بنية فوقيّة وتحتيّة، لا كبنية ماركس الفوقيّة والتحتيّة، حيث يرى الصراع القائم على وسائل الإنتاج بنية تحتيّة لكلّ تمظهرات الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة بل والفكريّة لدى الشعوب والجماهير، بل الأمر على العكس ـــ كما يرى بورديو ـــ حيث إنّ الثقافة وما أسميناه بالبنية المعرفيّة المعقّدة التي يُعاد إنتاجها بشكل يوميّ ودوريّ هي البنية التحتيّة لكلّ التفاعلات الاقتصاديّة والسياسيّة التي تظهر في الصحف والإعلام ووسائل التواصل المتعدّدة.
من هنا نرى أنّ من الخطأ تفسير الدولة بما لها من احتكار للعنف الماديّ والفيزيقيّ الذي يتمثّل في مؤسّسات الجيش والقوى الأمنيّة ونحوها، بل لها عنف رمزيّ يتمثّل في إعادة إنتاج التصنيفات والترتيبات ذاتها، وبعبارة أخرى، إنّ كينونة الدولة قائمة على الخضوع والطاعة، وعدم الخروج عن القانون، وهذه الأمور قبل أن تكون سلوكيّات هي في الأصل رؤية معرفيّة لماهية الطاعة ومشروعيّتها وكذلك مشروعّية المطاع.
إذا أردنا البحث عن المؤشرات التي تُظهر كيفيّة ممارسة الدولة للعنف الرمزيّ والاعتباريّ ـــ التي هي كيان معرفيّ له ظهورات مادية ورمزية ـــ نجد أنّها تتمثّل بالتعليم والخطابات الدينيّة والسياسيّة وشتى الأساليب التي تصنع «الذهنية» و«اللاشعور الاجتماعي والسياسي»، وسيكون مصبّ الكلام في هذا المقال عن تأثير نماذج الخطاب اللسانيّ الذي ينتهجه الزعماء لإعادة ترسيخ البنى المعرفيّة التي يقوم عليها الفعل المعرفيّ للجمهور.
يكتب غوستاف لو بون في كتابه الشهير «سيكولوجيا الجماهير»: «من خلال دراسة خيال الجماهير، رأينا أنّها معجبة فوق كل شيء بالصور. هذه الصور ليست متوافرة دائماً، لكن من الممكن إثارتها في مخيّلة الجماهير عن طريق الاستخدام الحكيم للكلمات والعبارات» (دار الرافدين، بيروت، الطبعة الثانية، 2020، ص 138). ذلك أنّ الكلمات والخطابات والتغريدات تحتوي على عنصر الصورة التي تثيرها في مخيال الناس: فاستعمال كلمة «الديمقراطية» مثلاً أو «اليسار» أو «الإرهاب» أو «التطرّف» أو غيرها، ليست استعمالات بمعناها اللغويّ الذي نجده في المعاجم العربية، بل وحتى المعاجم السياسيّة والفلسفيّة، بل هي بالنسبة إلى السياسيّين عبارة عن كود (أو تعبير مشفّر) عن صور ومواقف وإفرازات وترتيبات اجتماعيّة وسياسيّة وطائفيّة في بعض الأحيان. عندما خرج بوش في يوم من الأيام للإعلان عن نشر الديمقراطية، فإنّ إعلانه هذا ترافق مع تصريح بأنّه بدأ بحرب صليبية جديدة. لكن في الوقت عينه قد تجد مثقّفاً ليبراليّاً إسلاميّاً عربيّاً يتلقّف «الفتوحات الأميركيّة الديمقراطية» وكأنّها مجرّدة عن الحواضن التي نشأت منها. إنّها لعبة الكلمات والمصطلحات.
شعار «حب الحياة» في لبنان جاء نموذجاً لـ «العنف الرمزي» (حسب دريدا) الذي يقدم المقاومة كنقيض للحياة


وكذلك قد ترى أنّ مفاهيم كالحرب على الإرهاب أو التطرّف أو الإسلاموفوبيا وغيرها التي تتلبّس لبوس القيم والإنسانية مفاهيم تتكرّر وتتوكّد حتى تصبح حقيقة لا يُمكن النزاع حولها، ولكنّها في العمق ليست إلّا مفاهيم تُعيد إنتاج الهيمنة الأميركية على أوساط صار «الإسلاميون» هم الأعداء بعدما كان «السوفيات» مثلاً.
في الحقيقة إنّ الصراع العالميّ يُنتج مفاهيم تفرضها حيثيّات الصراع وتُصاغ عبر كلمات وتعبيرات تُعيد بها إنتاج التصنيفات السياسيّة للقوى. ففي المشهد الاقتصادي نجد العالم في الأدبيّات الإعلاميّة والسياسيّة ينقسم إلى «شمال وجنوب»، أمّا في المشهد السياسي ـــ خصوصاً» قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ـــ فإنّه ينقسم إلى «شرق وغرب»، ناهيك بانقسامه إلى «أبيض وغير أبيض» في زمن سحيق، انبعث بسحر ساحر بعد اندلاع العنف ضد العنصرية في الولايات المتّحدة إثر جريمة مينيابوليس الأخيرة. وكيفما كان، فإنّ الكلمات التي تعبر القارات والأذهان وتصبح لغة يومية بين المثقّفين والإعلام والناس هي صنيعة الصراع القائم بحيث تهدف لإعادة إنتاج ترتيبات وتصنيفات الصراع.
إذا كان الأمر كذلك على مستوى الصراع العالميّ وبين الدول، فإنّ الأمر ذاته بين قوى الدولة الواحدة، فتكرار مفهوم «حب الحياة» الذي انتشر يوماً ما في لبنان من قِبل فريق معيّن مقابل «سلاح المقاومة»، ليس إلّا عنفاً رمزياً يختزل ثنائية عنفية كذلك ـــ كما يسميها جاك دريدا ـــ بحيث صارت المقاومة على نقيض الحياة، مع أنّ الفلاسفة والأدباء عبر التاريخ اعتبروا أن القتل في سبيل الكرامة والقيم طور أعلى من أطوار الحياة الماديّة، لكن بسحر الكلمات المكتنف بالتصنيفات والمصالح السياسيّة تم تجاوز جميع هؤلاء الفلاسفة. مجدّداً إنّ لعبة الكلمات في السياسة ليست بالأمر الهيّن بالنسبة إلى صناعة مخيال الجمهور.
كذلك الأمر بالنسبة إلى مصطلح التكنوقراط الذي غزا الأذهان في الأمس القريب في لبنان، لم يكن ذا مساس بمعناه المُعجميّ بقدر ما عبّر عن حاجة لمخرج مفاهيميّ جديد لطبقة سياسيّة بُغية إعادة إنتاج نفسها بما يُرضي الجمهور ـــ جمهوراً معيّناً بالطبع ـــ فالتعريف المعجمي استناداً إلى الموسوعة السياسية للتكنوقراط هو أن «الحكومة التكنوقراطية مختلفة عن الحكومة الديمقراطية التقليدية في اختيار الأفراد المنتخبين لدور قياديّ من خلال عملية تؤكّد مهاراتهم ذات الصلة وأداءهم المثبت، في مقابل ما إذا كانوا يملكون مصالح الأغلبية للسكان أم لا. وتستند القرارات التي يتخذها التكنوقراطيون إلى معلومات مستمدّة من المنهجيّة العلميّة بدلاً من الرأي العام». ونجد في هذا التعريف عزلاً تامّاً للرأي العام وهو ما نجد نقيضه في التداول المفهوميّ له في لبنان.
وبعبارة جامعة «إن الصور المُثارة من قبل الكلمات مستقلّة عن معانيها، فهي تختلف من عصر لآخر ومن شعب لآخر، رغم تطابق الصيغ التعبيرية. إنّ كلمات معيّنة ترتبط بصور معيّنة بشكل مؤقت، فالكلمة ليست زر الاتصال الذي يجعل الصورة تظهر» (غوستاف لو بون، المصدر السابق، ص 139).
من هنا، فإنّ أوليات التحليل السياسي للخطاب ينبغي أن تنطلق أولاً من الحس النقدي للكلمات والمفاهيم، وعدم التسليم بالنتاجات التعبيرية التي تلقي الكلام على عواهنه دون تمحيص وتدقيق، وهذا التحليل إذا ما كشف اللعبة ينبغي أن يعيد إنتاج الصياغات الخاصّة المناسبة للصراع أو المنافسة أو الموازين. نحن في لعبة أذهان قبل أن نكون في لعبة القرارات والسياسات الضيقة، ومن دون تحريرها ستبقى الجدالات العقيمة تدور في حلقة تعيد إنتاج نفسها بشكل يومي خلف الشاشات والندوات وطاولات الحوار والمنصّات الافتراضيّة.
* باحث في الانتروبولوجيا