لسنا في حالة حرب، لكن يمكن القول إننا نخوض حرباً مع الوافد الثقيل على قارات العالم السبع، الذي بدأ يأكل من رصيد الرأسمال الاجتماعي وما تبقّى من شيكات الثقة في بنوك العولمة، مع تصاعد معدلات الانتهازية والتوظيف السياسي، اللذين لا بدّ أن يطفوَا على السطح مع تقلّبات السياسة والمجتمع، التي يقودها رجال الشرفات من تيار الشعبوية، نتيجة لانعدام الأمن والثقة. كلّ ذلك يولّد، بدوره، العزلة والعنصرية والقوميات المتصارعة، ناهيك بالآثار المفترضة، وقائمة الحروب الجديدة التي تنتج منها.
(أركاديو إسكيفيل ـــ كوستاريكا)

وكما عبّر أنطونيو غرامشي عن مرحلة الانتقال من العالم المتحضّر القديم إلى العالم الجديد، قائلاً إنها تمثّل مرحلة انتقالية فاصلة أطلق عليها «الخلوة»، يبدو أنّ هذه المرحلة الانتقالية في عصر الوباء لم تنتظر هذه الخلوة كثيراً، لتُبرز مزيداً من السياسات العقابية والحروب والصراعات والصدامات بأشكال مختلفة. ولم تتّخذ حتى أشكالاً من الهدنة الصورية المطلوبة أمام ما تبقّى من الرأي العام الإنساني، وهو ما تجلّى عبر سلوك الدول تجاه بعضها البعض. لكنّنا، الآن، في عالم السياسة، أمام موجة من فيروس من «العقوبات» المتلاحقة استمراراً لسياسات ما قبل الوباء، في مقابل بعض الوعود و«الحوافز» التي تشبه عمل الكمامات في مواجهة الفيروس القاتل، والتي لا تحمي كثيراً بل تقلّل من نسب احتمالية الإصابة أو انتقال المرض. ولنا أن نفكّر في واقع أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب أضافت ما يقرب من 1000 شخص وشركة وكيان إلى قوائم العقوبات الأميركية، خلال عام 2017، أي أكثر بحوالى 30 في المئة من العدد الذي تمّت إضافته، خلال حكم باراك أوباما.
لم يكن من المتوقّع أن يؤثّر التحدّي العالمي الجسيم، بشكل كبير، على السياسات الخارجية للدول، وأن يجعل النظام العالمي في حالة من الرومانسية السياسية في مساعدة بعضها البعض، لكن على الأقل توقّع البعض إيقاف العقوبات الاقتصادية، أو تخفيفها، ولا سيما أنّها أصبحت تضرب شريان حياة كثير من شعوب العالم. لست هنا في معرض مناقشة المنهج الكوسموبوليتي القائم على العدالة السلوكية ودورها في موضوع الأخلاق في العلاقات الدولية، أو مناظراتها التقليدية بين الدولانية والفردية، بقدر ما تستدعي الأزمة مراجعة لظاهرة العقوبات الجماعية التي تحطّم أي أمل لعلاج حالة الصراع المستدام في عالم موبوء.
فكما ناقش كتاب جوزيف ناي JOSEPH S. NYE الأخير Do Morals Matter، أنّ السياسة الخارجية تتعلّق ببساطة بالسعي غير الأخلاقي للمصلحة الوطنية، فقد أشار إلى أنها فكرة بسيطة للغاية وتحتاج إلى مراجعة، معتبراً أنّ القوة الأميركية ستصبح أقوى إذا تمّ النظر إلى الولايات المتحدة على أنها طرف أخلاقي، وذلك لأنّ الاعتبارات الأخلاقية في العالم تلعب دوراً مهمّاً في صنع السياسة الخارجية، ولأنّ المساءلة الأخلاقية جزء أساس ممّا يعنيه أن يكون إنساناً، رغم أنّ المدرسة الواقعية تؤكد أنّ السياسة الخارجية هي مسألة تكاليف وفوائد، وليس للّاهوت موطئ قدم فيها، كما يقول هنري كيسنجر بأنّ الدولة التي تطلب الكمال الأخلاقي في سياستها الخارجية لن تحقّق الكمال ولا الأمن.
إنّ العقوبات نادراً ما تنجح في تغيير سلوك الهدف الخارجي، وهي السمة المميزة للرد الغربي على العديد من التحديات الجيوسياسية


وإذا كانت فلسفة العقوبات الاقتصادية في قاموس العلاقات الدولية، تعني عملية تسخير العلاقات التجارية والمالية الاعتيادية لأغراض السياسة الخارجية، فهذا الأمر متعدّد المسارات والأشكال. فقد تكون العقوبات شاملة وكلية أو جزئية، وقد تحظر النشاط التجاري في ما يتعلّق بدولة بأكملها، مثل الحصار الأميركي المفروض على كوبا، أو قد يتم استهدافها مع شركات أو مجموعات أو أفراد معيّنين سواء بتجميد الأصول المالية أو القيود المفروضة بشكل عام على رأس المال والعمليات التجارية، وكما يحصل اليوم في موضوع قانون «القيصر» على سوريا. وقد جرت محاولات عدّة لوضع الماكياج السياسي وتجميل هذه العقوبات، بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر، في ما عُرف بالأدبيات السياسية بـ«العقوبات الذكية المستهدفة»، من أجل تقليل معاناة المدنيين، وهدفها الأساس هو إكراه الخصم أو ردعه أو معاقبته. إلّا أنّ البعض من علماء السياسة يصنّف تلك العقوبات على أنها شكل من أشكال التدخّل، وهي بمثابة حالٍ وسط لحرب أقل تكلفة ما بين الحلّ العسكري والدبلوماسية.
إنّ العقوبات نادراً ما تنجح في تغيير سلوك الهدف الخارجي، وهي السمة المميزة للرد الغربي على العديد من التحديات الجيوسياسية، بما في ذلك البرنامج النووي لكوريا الشمالية، وتدخّل روسيا في أوكرانيا. وقد سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى استخدامها وتطبيقها ضد الخصوم في إيران والصين وروسيا وسوريا وفنزويلا.
وقد جاء نظام العقوبات ليكون سلاح ترامب في مواجهة إيران، رغم بيانات دولية عديدة من منظمات إنسانية فضلاً عن أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء الكونغرس الأميركي الذين دعوا إدارته إلى السماح بالتعليق الإنساني للعقوبات. لكنّه ما زال يصر على تشديدها. وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي خطّ رسالته في الماجستير في تخصّص العلاقات الدولية عن «العقوبات في النظام الدولي»، غرّد ردّاً على مقاربة ترامب، بالقول إن الولايات المتحدة انتقلت من «الإرهاب الاقتصادي» إلى «الإرهاب الطبي»، وذلك عبر رفضها رفع العقوبات بعد بداية تفشي الوباء في إيران، ومنع شراء الإمدادات الطبية الأساسية وغيرها من المواد.
كذلك، كتب الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هاس، مع مجموعة من كتّاب آخرين، مقالاً بعنوان «العسل والخل: الحوافز والعقوبات والسياسة الخارجية»، يشير فيه إلى استراتيجية السياسة الخارجية الأميركية التي تعتمد على درجة كبيرة من الحوافز، وما يسمى بالارتباط البنّاء، بينما لا تستبعد العقوبات أو القوة العسكرية. في المقابل، يؤكد نقطة رئيسة مفادها أنّ العقوبات تسفر بصورة دائمة عن صعاب اقتصادية، لكنّ تأثيرها لا يكفي غالباً، أو يعجز عن فرض التغيير السياسي المطلوب في البلد المستهدف. هذا فضلاً عن أنّ العقوبات مكلفة بالنسبة إلى الأبرياء الذين ليس لهم ناقة أو جمل في الصراع. ولهذا، يؤكد الدبلوماسي الأميركي أنّ هذه العقوبات ستكون نتائجها عكسية وبغيضة، وأنّ سياسات العقوبات لن تنفع في عالم ما بعد الحرب الباردة، ويجب الاستعاضة عنها بسياسة الحوافز. ويضرب أمثلة حول الصين وفيتنام والاتحاد السوفياتي سابقاً، في هذا المجال.
في المقابل، ما زال نظام العقوبات غير فعّال رغم أنه لا يزال واحداً من أدوات صنّاع القرار في السياسة الخارجية. وعلى الرغم من كون العقوبات أداة ليست بالجديدة، لكنّها قد تحقق الأثر الاقتصادي المستهدف، مع أنّ ذلك لا يلغي أنها في أغلب الأحيان قد تفشل في تغيير السلوك السياسي. وكما حصل حينما فُرضت العقوبات الاقتصادية على العراق، فقد أثّرت على الشعب العراقي، لكنّها لم تؤثّر على نظام صدّام حسين الذي بقي مستمراً بسياسته في بلد، أدّى فيه 12 عاماً من العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة، إلى مقتل أكثر من 500 ألف طفل، وفق بعض الإحصائيات. والقصة ذاتها في كوريا الشمالية، حيث ساهمت العقوبات في جعل البلاد معزولة وفقيرة، وكذلك في كوبا.
وحتى العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على أفغانستان، في عام 2000، وسبّبت خسائر فادحة، لكنّها لم تدفع حركة «طالبان» إلى تسليم أسامة بن لادن، أو تغيير مقارباتها. لذلك، من المرجّح أن تفشل العقوبات التي تهدف إلى تغيير النظام، أو التي تقدّم للحكومة المستهدفة التبرير اللازم لاستمرار الصراع واستمرار الفجوة الثقافية بين الشعوب، وخصوصاً عندما تكون تلك العقوبات أحادية الجانب.
بعض المؤيّدين لهذه الأداة في السياسة الخارجية، يرون أنّها سلاح قصير المدى، والإفراط فيه قد يعرّض العالم والدولة نفسها إلى مخاطر على المدى الطويل، كما يقول وزير الخزانة الأميركي السابق جاكوب ليو، مشيراً إلى أنه «إذا استمرت واشنطن في إجبار الدول الأخرى على اتباع السياسات التي تعتبرها غير قانونية وغير حكيمة، عبر فرض العقوبات على المستوى الدولي في السنوات الأخيرة عنصراً رئيساً في التنافس الجيوسياسي بين الغرب والشرق، ستكون لذلك آثار سلبية كبيرة على العديد من الصناعات والاقتصادات».
في المقابل، فإنّ نظام الحوافز في الأنظمة الشريكة لتنفيذ هذه العقوبات غير حاسم وجدي، وذلك لإشكاليات تتعلّق بشكل التحديات المقبلة في عالم انكفاء العولمة، وكذلك فقدان الثقة بعدما أصبح العالم يصيح «أنا وحدي»، بدلاّ من «تعال معي» على المستوى الخارجي وداخلياً. وبشكل أكثر تفصيلاً، تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الوعود مصنوعة من الزبد، لكونها تصدر عن الفروع التنفيذية وليس التشريعية، وهو ما يجب على الدول الشريكة مراجعة وضعها فيه، ودراسة نظام الحوافز الذي بات شبكة وهمية من المصالح غير الجدية.
المفترض أن تؤدي جائحة «كوفيد ـــــ 19» إلى إعادة تقييم نظام العقوبات في السياسة الخارجية، نظراً إلى آثاره الضارّة في كلّ العالم، والعمل على صناعة وصياغة استجابة دولية مشتركة. كذلك، يجب العمل على الأقل، من أجل إعادة تقييمه، لكونه فشل في تغيير السياسات، كما أنه يحمل تأثيراً عكسياً في العلاقات الدولية ويؤدي إلى زيادة التوتر وفجوة صراع الهويات.

* دبلوماسي عراقي وباحث أكاديمي