مثّل الصعود الناهض للولايات المتحدة الأميركية، بدءاً من عام 1898، والذي سُجلت فيه خطوة التمدّد الجغرافي الأولى عبر الاستيلاء على بلدين اثنين يقعان خارج الحدود القارية لأميركا الشمالية هما كوبا والفيليبين، خطوة جوهرية ـــــــ من النوع الدالّ على تبنّي أيديولوجيا التوسع الإمبريالي ذي الطابع الجغرافي الذي شاب البدايات، ثم عاد متلوّناً بصبغات عدّة في طبعاته اللاحقة ـــــــ في بناء السياسات الأميركية، تلك التي تختطّ تراسيمها في الدائرة الضيّقة البعيدة عن دوائر التنفيذ الملزمة، عادة، بتسويق تلك السياسات، حيث الدور المنوط بهذه الأخيرة لا يخوّلها بالضرورة الظهور في المشهد إلا بصورة «الناشر» الحصري ذي الحقوق المحفوظة. إلّا أنّ ذلك لم يعتبر في حينه ـــــــ عند الكثيرين ـــــــ سعياً نحو بناء «الإمبراطورية» الأميركية، التي كان يستلزم لانطلاقتها عبور البحار والخروج من «معوّقاتٍ» فرضها قدر الجغرافيا. ووفق هذا التوصيف ـــــــ الذي يتبنّاه العديد من المؤرّخين ـــــــ فإنّ إمبراطورية المغول ــــــ مثلاً ــــــ التي بقي تمدّدها برياً، لا تعتبر إمبراطورية بالمعنى الحقيقي للمصطلح.سيكتب جون باسيت موور، مساعد وزير الخارجية الأميركي، في عام 1898، أنّ ذلك التوسّع هو خطوة متقدّمة «لكنه يبقى، حتى الآن، في ما يخصّ مسألة حيازة أراضٍ جديدة، متوافقاً مع العادة التي ميّزت وجودنا الوطني بأكمله» (ديفيد راي غريفين: المسار الأميركي ملاك أم شيطان؟ ترجمة عدي جوني، دار فواصل للنشر والتوزيع ط 1 2020 ص 47). هذا يعني أنّ حيازة ــــــ حيث الحيازة تعني هنا الاستيلاء بالقوة ــــــ أراضٍ جديدة، هي أمرٌ مرتبط عضوياً بالوجود الوطني الأميركي، أقلّه في ذهنية راسمي الاستراتيجيات البعيدة المدى.
شكّلت الحرب العالمية الأولى، 1914 ـــــ 1918، ضرورة أميركية، لإطلاق القرن الأميركي الذي تبدّى عند صانع القرار ـــــــ الأميركي أيضاً ــــــ طموحاً جارفاً يظهر بوضوح في ذهنية هذا الأخير، عبر الخروج عن مبدأ «مونرو»، عام 1823، والذي أوصى بابتعاد السياسة الأميركية عن مشاكل «العالم القديم» المتمثّل هنا بالقارتين الأوروبية والآسيوية، فيما أعطت الحرب العالمية الثانية، 1939 ـــــ 1945، مشروعية راسخة لذلك الطموح، وأطلقت له العنان استناداً إلى معطيات راحت تتبلور بسرعة ملحوظة. وسيتطلّب ترسيخ تلك المشروعية العديد من التلوّنات اللازمة للتعاطي مع النتائج التي أفضت إليها هذه الأخيرة، والتي وإن نجحت في إطلاق شارة «السطوة» الأميركية، إلّا أنّ هذه الأخيرة لم تكن تشكل انفراداً بالهيمنة على العالم، الأمر الذي كان يتطلّب إعادة إنتاجٍ وتطويرٍ لحقول عديدة ذات طيف واسع، تبدأ بالأيديولوجيا وتطاول عوالم الاقتصاد والثقافة والفكر، مروراً بالمزاج العام السائد في أعقاب الحرب كركيزة لا بديل منها لترسيخ تلك الهيمنة.
يمكن اعتبار الوثيقة الشهيرة، التي حملت الرقم /68/ للعام 1950، البيان الرقم /1/ في إطلاق الحرب الباردة التي بدت تراسيمها تتشكّل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ربيع عام 1945. الوثيقة من إعداد بول نتسه، رئيس قسم التخطيط للسياسات في وزارة الخارجية الأميركية، والتي استند فيها بشكل أساسي إلى رؤيا سلفه في المنصب جورج كينان، التي قالت بضرورة احتواء الاتحاد السوفياتي بعدما اعتبر ــــــ كينان ـــــــ هذا الأخير، دولة تتبنّى أيدلويوجيا «متطرّفة»، وهي تسعى إلى استخدام القوة العسكرية لفرض سلطتها المطلقة على العالم. الوثيقة هيّأت ـــــــ أو هي أرست ـــــــ الذريعة بضرورة مضاعفة الإنفاق العسكري، الذي قفز من 13 مليار دولار للعام الذي صدرت فيه، إلى 50 مليار دولار للأعوام التي تلته، وهو رقم فلكي بمقاييس حجم الاقتصادات القائمة، آنذاك.
في ما بعد سيقوم جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأميركي، بتقديم اللبوس الأيديولوجي اللازم لإضفاء مسحة من «القداسة» على الصراع الناشب مع الاتحاد السوفياتي، الذي كان قد استطاع في تلك المرحلة اللحاق بالجنّة النووية متأخراً بأربع سنوات عن الولايات المتحدة. خرجت «المكارثية» إلى العلن أواخر عام 1950، وهي كانت أقرب إلى سلوك يقوم بتوجيه شتى الاتهامات ـــــــ من دون الحاجة إلى توافر أدلّة ـــــــ بالتآمر والخيانة لمفاصل رئيسة في مؤسسات الحكومة الأميركية. وعلى الرغم من أنّ التحقيقات التي أُجريت، آنذاك، كانت قد أثبتت بطلان اتهامات مكارثي، إلّا أنّ المناخات التي استولدتها كانت كفيلة بخلق مناخ عام معاد لـ«الشيوعية»، بما يكفي لخلق أرضية أيديولوجيّة ساندة لخوض صراع مستدام وطويل مع الاتحاد السوفياتي، انطلاقاً من أنّ عقيدته الشيوعية تسعى إلى «القضاء على المسيحية في العالم».
لا يمكن خوض الصراعات الطويلة الأجل بأدوات القوة العسكرية والإسناد الاقتصادي لها ولا بدّ من دثار أيديولوجي يكون قادراً على شدّ عصب الجبهة الداخلية


ما نريد قوله، هنا، هو إنّ الصراعات الطويلة الأجل لا يمكن خوضها بأدوات تقتصر على القوة العسكرية والإسناد الاقتصادي لها، وهي ــــــ أي تلك الصراعات ـــــــ لا بدّ لها من دثار أيديولوجي يكون قادراً على شدّ عصب الجبهة الداخلية، الذي سيشكّل عامل قوة لا يقلّ أهمية عن قوة العاملين الأوّلين. ووفق هذه المقاييس، يمكن القول إنّ حالة العداء الأميركية لروسيا اليوم، 2000 ـــــــ 2020، تفوق تلك التي كانت قائمة تجاه الاتحاد السوفياتي، 1945 ـــــــ 1991، والتي يمكن توصيفها بأنها كانت حالة «نصف عداء»، انطلاقاً من أنّ هذا الأخير كان يتبنّى «التغريب» كمنهج ناظم لحركة النهوض. أما توصيف «نصف العداء»، فيتأتّى من أنّ ذلك المنهج كان يستند إلى «التغريب» في الحقلين الاقتصادي والتكنولوجي التقني. فقد سعى ذلك المنهج، أيضاً، إلى تحييد الهوية الحضارية المعتدّة بشكل أساسي بـ«السلافية» كعرق ذي خصوصية فارقة للأمة الروسية، في حين عمدت «البوتينية»، منذ انطلاقتها مطلع هذه الألفية، إلى تدعيم تلك الخصوصية العرقية بـ«الأرثوذكسية» كجناح ثانٍ لازمٍ لتمام التحليق. وبذا، فقد بدت كما لو أنّها تشكّل حالة قطيعة شبه تامة مع التغريب.
ما بعد انتهاء الحرب الباردة، عام 1989، وتفكّك الاتحاد السوفياتي، عام 1991، خرجت إلى العلن نظريات عدّة، كان من أبرزها تلك التي جاء بها صموئيل هنتغتون، القائلة بـ«صراع الحضارات»، وهي من حيث النتيجة وضعت «الإسلام» كتحدٍّ جديد، بل ومرشّح لأن يكون خصم المرحلة المقبلة للغرب وحضارته. كانت نظرية هنتغتون تريد القول إنّ الإسلام الذي استطاع أن يؤدي دور «المصهرة» الحضارية لشعوب المنطقة التي نشأ فيها، قادرٌ على الدوام إذا ما توافرت «الحاضنات» الأصيلة، تلك التي تسوس مجتمعاتها على طريق النهوض عبر تلمّس دقيق ــــــ لا يدركه الخطأ ــــــ لطبيعة التوازنات القائمة والسير بها قدماً في طريق يرتسم خطه البياني بدلالة المتغيّرات، ربطاً بثلاثية «الماضي ــــــ الراهن ــــــ المستقبل»، التي إن توازنت برهاتها الثلاث، شكّلت منظوراً صائباً يندر أن يضلّ طريقه. حملت النظرية رؤيا مهمّة من النوع البعيد المدى، وهي تضع في حساباتها إمكانية حدوث تلاقيات مفترضة بين أجنحة الفكر الإسلامي، جلّها أو بعضها الأكثر فاعلية، على الرغم من أنّ واقع الإسلام المحكوم راهناً بتشظيات فكرية عديدة تكاد لا تنتهي، أبرزها التناقض بين مذهبيه الأساسيين «السني« و«الشيعي»، واللذين يبدوان حتى الآن عاجزَين حتى عن «التساكن»، أسوة بما حصل مع مذهبَي المسيحية «الكاثوليك» و«البروتستانت»، بعد حرب دامت ثلاثين عاماً، بين عامي 1618 ــــــ 1648م. هذا الواقع «الإسلامي» الراهن، لا يشير إلى إمكان حدوث تقاربات ممكنة في الخط المنهجي لأسباب عدّة، لعلّ أبرزها غياب المفكّرين القادرين على حلّ المشاغل النظرية القائمة، والتي لا تزال تشكّل العقبة الأولى أمام تلك التلاقيات. لكن ذلك الواقع المتشظّي، كما لم يكن في يوم من الأيام، كانت النظرة إليه في التقييم الأميركي المرحلي على أنّه يمثّل حالة قادرة على العرقلة، انطلاقاً من عدائه القطعي لمنهج التغريب عبر تبنّيه حالة فائقة الخصوصية، وهي موجودة عند كل التشظّيات، تستند إلى تجارب الماضي في النهوض. كان صعود رأس المال الأميركي، هنا، يرى أنّ نجاحه المستدام سيتحدّد، إلى درجة كبيرة، بدرجة نجاحه في تفتيت الهويات الوطنية التي يمثل الإسلام، في هذا الإطار، إحدى ركائزها الأهم. فمن المؤكد أنّ هذا الأخير ــــــ أي الإسلام ــــــ كان من أهمّ العوامل التي أدّت إلى ثبات الهوية الحضارية لشعوب المنطقة، الأمر الذي برز جلياً في ثبات هذه الأخيرة بوجه الهجمات الشرسة، التي تعرّضت لها بدءاً بحملة هولاكو، عام 1258م، ومروراً بالحملات الصليبية التي توقفت، عام 1301م، بعد ما يقرب من قرنَين على نشاطها، ثمّ وصولاً إلى الاحتلال العثماني، بين عامي 1516 ــــــ 1916، ومن ثمّ عودة الغرب مطلع القرن العشرين. والمؤكد هو أنّ حربَي أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، كانتا قد حدثتا في هذا السياق الأخير.
كان إطلاق شعار «العولمة» الفضفاض، منذ بدء عصر الأحادية القطبية مطلع التسعينيات، يعني في العمق محاولة لتعميم نمط الثقافة والتفكير الغربيّين بكل ما لهما من حمولات على ثنائية «السياسة ــــــ الاقتصاد». وفي هذا السياق، برز تحديان كبيران مضافان إلى الحالة السابقة، شبيهان بها إلى حدّ بعيد، هما الصين وإيران.
لم تكن «الماوية» في الصين، استنساخاً تامّاً للماركسية، الأمر الذي كانته «اللينينية» في روسيا السوفياتية. فهذه الأخيرة، قامت من حيث المنهج، على مبدأ يعتمد تغليب «النظرية» على «الممارسة»، وهو ما ظهر في جلّ المحطّات التي مرّت بها التجربة، بعد نجاح ثورة تشرين الأول/ أكتوبر عام 1917. والمؤكد، هو أنّ ماو تسي تونغ، كان واضحاً جداً حين أشار في أدبياته إلى أنّ خياره في حلّ المعضلات التي تواجه ثورته سوف يذهب إلى اعتماد «الممارسة» في مواجهة «النظرية»، إذا ما وجد نفسه أمام ذينك الخيارين. كان هذا يعني من حيث النتيجة، تغليباً للتجربة الصينية ذات الخصوصية الفائقة، في مواجهة نظرية تتبنّى التغريب بكل تأكيد. وعلى الرغم من كمّ التناقضات الهائل ما بين بكين وواشنطن، البادئ بالاقتصاد والتجارة واللامنتهي بالمواقف من الصراعات الدائرة على امتداد هذا العالم، إلّا أنّ التناقض الأساسي الحاكم للعلاقة الأميركية ــــــ الصينية يكمن بالدرجة الأولى، في خصوصية التجربة الصينية التي تنأى بنفسها عن التغريب. كانت الماوية، باختصار، هي «تصيينٌ» للماركسية في بيئة تعتدّ بتراث حضاري يمتد إلى آلاف السنين.
إيران، أيضاً، مثّلت هي الأخرى ما بعد انتصار الثورة الإسلامية، في شباط/ فبراير 1979، حالة شبيهة تماماً بالحالة الصينية السابقة. فقد مثّل هذا الحدث الأخير من الناحية المنهجية، حالة قطيعة تامّة مع نهج التغريب الذي أنتهجته أسرة آل بهلوي (1925 ــــــ 1979)، والمؤكد هو أنّ واشنطن ظلّت تنظر إليه على أنّه ضربة موجعة لمشروعها في المنطقة الرامي إلى تغريبها.
وفق هذه السياقات السابقة، فإنّ إمكان حدوث تلاقيات كبرى ما بين الولايات المتحدة من جهة وبين الصين وإيران، رفقة أو كلّ منهما على انفراد، يبدو أمراً من الصعب حدوثه. قد تحدث تلاقيات مرحلية تفرضها حالة سياسية معيّنة، أو مصالح تستولدها فترة زمنية محدّدة، إلّا أنّ ذلك لا يعني على الإطلاق كبحاً للصراع الذي سيظلّ جمره متّقداً تحت الرماد، بل ولا حتى ثبوته عند سقف معيّن. فالتحولات والتحالفات الكبرى، تتحدّد فقط وفق تلاقيات منهجية تنضوي تحت لوائها عناوين عدّة من نوع الثقافة وتقارب الرؤى والمزاج العام، فيما تقارب المصالح أو المنفعة بشتى أنواعها، لا يشكّل أكثر من حالة داعمة لهذه الأخيرة، ناهيك عن أنّها غالباً ما تكون ظرفية تزول بزوال موجباتها.

* كاتب سوري