الخطوة التي أقدمت عليها السلطة، حين سحبت ترخيص عدد من شركات التحويل التي تتعامل بسعر الصرف الموازي أتت بمفعول عكسي، لأنّها لم تحسب حساب ردّة فعل السوق على هذا الإيقاف المفاجئ للتدفُّقات الآتية من الخارج بالدولار. أتى الردّ سريعاً بزيادة أسعار السلع، إلى الحدّ الذي يسمح بإلغاء كلّ المفاعيل التي ترتّبت على التدخّلات السابقة للجم الارتفاعات المتوالية في سعر الدولار. انهيار القدرة الشرائية بهذا الشكل، عجّل في عودة الطلب عليه، ليس فقط كردّ فعل على قلّة عرضه بعد حصر التحويلات بالقنوات الرسمية، بل كذلك كجزء من آلية باتت معتمدة إثر تحوِّله إلى السلعة الرئيسية للمضاربة، وبالتالي فقدان أيّ قيمة مضافة أخرى غير تلك التي يتدخّل هو في تسعيرها.
محدودية المقاربة التجارية
جاءت الخطوة في سياق الاستماتة الحكومية لحصر المعروض من الدولار في القنوات الرسمية. الدولة، هنا، في حاجة لهذا المعروض لأنّه قناة أساسية لتمويل الإنفاق في ظلّ تراجع الإيرادات على صعيد عملية الإنتاج والتبادل مع الخارج، فضلاً عن الحاجة المجتمعة إليه كبديل من الادّخار التقليدي، إثر تراجع قيمة الليرة، وانصراف الناس عن الادّخار بها في القنوات المصرفية، سواءً الحكومية أو الخاصّة. الطلب عليه لم يحوّله إلى السلعة الأكثر تداولاً فحسب، بل تسبّب أيضاً في تغوُّل السوق الموازية له، فازدادت عمليات المضاربة أضعافاً مضاعفة، ومعها تزايدت أعمال الاحتكار في سوق السلع، ما انعكس ارتفاعاً جنونياً في الأسعار. على هذه الخلفية، اتُّخذت الإجراءات الخاصّة بتجريم التعامل به علناً بغية الحدّ من تأثير المضاربة به في السوق السوداء على الأسعار، ولكن المحاولة فشلت، تماماً كما فشلت من بعدها كلّ المحاولات للتأثير على السوق انطلاقاً من عملية التبادل التجاري نفسها. لا تستطيع السلطة منافسة التجّار في مجال يحتكرونه منذ عشرين عاماً، إثرَ انسحابها الكامل منه. وحتى مع «إلغاء السوق السوداء» بمرسوم، سيبقى تأثير هذه الإجراءات محدوداً لأنّ المشكلة ليست في التبادل بحدّ ذاته، بقدر ما هي في النقد وعملية الإنتاج، وبالتالي في طبيعة النظام الاقتصادي نفسه. الخلل بهذا المعنى لم يبدأ مع الحرب، ولكنّها سرّعت من وتيرته مع تزايد الانهيار النقدي، ونشوء «الأشكال الجديدة» من التبادل التي حدّت من قدرة الدولة على التحكُّم بأدواتها النقدية والمالية.

تحديد وجهة الاقتصاد
التخبُّط في معالجة أزمة الدولار، نتاج أزمة في تحديد هويّة الاقتصاد نفسه. تأثير العقوبات الشديد، وآخرها نفاذ قانون «قيصر»، بدأ يدفع السلطة إلى الاعتراف بهذه المشكلة على نحو غير مباشر. حصول ذلك على مستويات متعدّدة، تبدأ بالنقد ولا تنتهي بالمقاربة التجارية، يؤكّد فداحة الخطأ الذي وقع حينما حصل الانتقال قبل عشرين عاماً من بقايا «النظام الاشتراكي» إلى الهياكل الإنتاجية والتجارية التي يملكها ويديرها القطاع الخاص. حالياً، وبسبب الطابع التجاري ـــ النقدي للأزمة، لا يزال التدخّل محصوراً في هاتين القناتين، ولكن سرعان ما ستُدرك السلطة مع العجز المتزايد لأدواتها في مواجهة الانهيار الحاصل، أنّ الوقت قد حان لمراجعة شاملة، ليس لأنماط الإنتاج والاستهلاك والتبادل والادّخار فقط، بل كذلك لهياكل الاقتصاد القائمة منذ عشرين عاماً، لجهة الملكية والإدارة وكلّ ما يتّصل بعملية الإنتاج نفسها. على أنّ التعثّر الذي تلقاه القنوات الرسمية لدى انتقالها من جبهة إلى أخرى في لململة الأزمة، سيبقى في الأمد المنظور محصوراً بالتبعات، لأنّ التخلّي عن الهياكل القائمة في هذه المرحلة يعني ترك الاقتصاد بدون بنية إنتاجية في مواجهة العقوبات والريع المتزايد على شكل دولارات، وهذا يُبقي المشكلة من دون حلّ جذري على المدى البعيد. الحرب بهذا المعنى، ومعها نظام العقوبات، عجّلتا إظهار عجز البنية القائمة للاقتصاد عن تلبية مصالح الفئات التي بقيت في البلاد، حيث بدأت الأزمة كأزمة سعر صرف على نطاق ضيّق، ثم لم لبثت أن تحوَّلت مع تصاعد وتيرة الحصار والعقوبات إلى أزمة في كلّ قطاع من قطاعات الاقتصاد على حدة. هكذا، أظهَرَ الانتقال من تجريم التبادل بالدولار إلى التداول به «كسلعة أساس»، خلال أقلّ من سنتين من بدء الحرب كلّ مساوئ البنية القائمة، وكيف تحوَّلت من تلبية مصالح الأكثرية خلال «الحقبة الاشتراكية» إلى تسخير كلّ ما يُنتَج حالياً لمصلحة الأقلّية التي أفرزها النزاع.
الحرب ومعها نظام العقوبات عجّلتا بإظهار عجز البنية القائمة للاقتصاد عن تلبية مصالح الفئات التي بقيت في البلاد


لمصلحة من ننتِج؟
سؤال الوجهة هو الذي يجعل من ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو فقدانها واحتكارها، وخصوصاً منها المنتَجة في الداخل، بمثابة تكثيف لكلّ مشكلات النموذج الاقتصادي القائم. فهذه السلعة التي لا يدخل الدولار في تركيب قيمتها ولا في كلفة إنتاجها، يُفترَض ألا يجري تبادلها أو تسعيرها بالطريقة نفسها التي تُسعَّر أو تُتَبادَل بها السلعة المستورَدة أو المنتَجة بكلفة مدولرة. ولكن عملياً ما يحصل هو العكس، وهذا يجعل من السؤال أعلاه محورياً، بمعنى أنّ المسؤولية عن ذلك هي مسؤولية القطاعات المنتِجة، قبل أن تكون مسؤولية الجهات التي تتولّى عملية التسويق والبيع والإتجار. التسعير الأوّلي للمنتَج المحلّي، يبدأ من هناك كحصيلة عامّة أو معادل نقدي لعملية الإنتاج قبل أن تُضاف إليه بعد البيع للتجّار كلفة الشحن والنقل والتخزين و...إلخ. القيمة المضافة الفعلية بهذا المعنى، تذهب إلى الصناعي، وعلى ضوئها يتحدّد لاحقاً سعر هذا المُنتَج أو سواه في السوق. هكذا، تحصل عملية التراكم عادةً في شكلها الأوّلي، وحين يحصل خلل فيها لاحقاً على مستوى التسعير أو انفصال القيمة المتداولة في السوق عن السعر الأوّلي للمنتَج، لا يكون ذلك بتأثير السوق وحدها، على اعتبار أنّ الغاية من النشاطين اللذين يوصلان السلعة إلى المستهلك هو الربح، سواءً لناحية الإنتاج أو لجهة التجارة والبيع بالجملة والتجزئة. يتضاعف تأثير هذا الاستلاب المطلق تجاه الربح أو القيمة المضافة، خلال مراحل الانتقال التي يَضعُف فيها تأثير الكوابح التي تضعها الدول، حتى الرأسمالية منها، لعملية التراكم. وحين تكون الدولة غير مشاركة في عملية الإنتاج لناحية الملكية والإدارة، وبالتالي عاجزة أيضاً عن كبح انتقال الثروة بالكامل إلى القطّاع الخاص يصبح تأثير ذلك أكبر بكثير، وتتعرّض الفئات التي لا تصلها ثمار هذا التراكم إلى مزيدٍ من التهميش والإفقار، هذا إذا لم تكن القوى المنتِجة نفسها، والتي يُفترَض أنها وقود هذا الشكل من الربح في طليعة من يجري استغلاله تحت عناوين شتّى.

خاتمة
في السنوات العشر التي سبقت الحرب والتي آلت فيها هياكل الإنتاج بمجملها إلى القطاع الخاص، لم تكن تبعات هذا الشكل من الإنتاج على الناس ملحوظة، لا بل لاقى التوجّه إلى نمط الاستهلاك الذي لا يرتبط بصناعات أو سلع أساسية قبولاً لدى قطاعات كانت محسوبة سابقاً على التوجُّه الاشتراكي. ولا تزال آثار هذا النمط ماثلة، من خلال المولات والمراكز التجارية الكبيرة التي ازدهرت في مرحلة سيطرة القطاع الخاص على كلّ مفاصل الاقتصاد، وخصوصاً الإنتاجية منها. تحوّلات النشاط التجاري، عادةً ما تكون مرتبطة بأنماط الإنتاج حين تنتقل من مرحلة إلى أخرى، وبالتالي حين يغدو إنتاج السلع متركّزاً في قطاعات بعينها، ولمصلحة الطبقات التي يحصل هذا الانتقال لحسابها. وفي حالة سوريا، حدث ذلك في الأعوام السابقة للحرب، لمصلحة الفئات النيوليبرالية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وحتى في الثقافة، وهي على وجه التحديد الفئات التي لم تدفع ثمن الحرب، ولا ثمن الانزياح الحاصل في الاقتصاد على حساب الأكثرية الشعبية والمفقَرة. والحال أنّ الثمن سيبقى يُدفَع بمعزل حتّى عن تبعات قانون «قيصر» الكارثية، لأنّ التغيير في النمط الاقتصادي ككلّ لن يحصل قريباً، ومع بقائه وصعوبة الانتهاء منه أو جعله متناسباً مع مصلحة الفئات الأكثر فقراً ستقتصر المعالجات على الأدوات المعتادة، وسيكون التدخُّل مهما تعدّدت أشكاله النظامية في إطار ما يسمح به النموذج الاقتصادي الهجين الذي أوصلتنا إليه الحرب.
* كاتب سوري