لا توجد أدوار محجوزة لأيّة دولة بإرث التاريخ وحده.ولا توجد أدوار تستجيب لفوائض الثروة، أو ادّعاءات ملء الفراغ إذا ناقضت السياسات الاستحقاقات.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الأفريقية، وتقدّمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود في حرب السويس عام 1956، بعدها لا قبلها.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأي زعم آخر تجديف في الوهم.
المشروع القومي العربي لا يلخّصه رجل ولا تنفرد به دولة.
لم يخترع جمال عبد الناصر الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها، ولم يخترع مطلب الاستقلال الوطني والاستعداد للتضحية في سبيلها، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعي، ولم يؤلّف دور مصر في المنطقة، حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه.
الأفكار الرئيسية لعبد الناصر كلها، تقريباً، كانت موجودة في الجو السياسي والثقافي العام قبل ثورة يوليو.
ولم تكن مصادفة أن سوريا، بالذات، هي البلد الذي احتضن الفكرة العروبية في مواجهة «التتريك»، ونشأت فيها، قبل غيرها، الحركات ذات التوجه القومي العربي.
بحكم موضعها في المشرق العربي فهي عاصمته الطبيعية.
وبحكم اتصال الأمن القومي المصري بها فهي توأمه.
وبحكم حدودها مع الدولة العبرية فهي طرف في صراع وجودي.
وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسط فهي مركز استراتيجي.
وبحكم اتّصالها بشبه الجزيرة العربية، حيث موارد النفط فهي تحت بصر المصالح الغربية.
كانت الوحدة المصرية ـــ السورية عام 1958 خطوة متقدّمة أكّدت قدرة العالم العربي على ملء الفراغ بنفسه من دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية ضد مصالحه ومستقبله.
في 28 أيلول/ سبتمبر 1961، تم فصم الوحدة المصرية ـــ السورية بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأميركية، وموّلته المملكة العربية السعودية، وشاركت فيه الأردن، وآزرته تركيا، وهلّلت له إسرائيل.
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية ـــ السورية، وكلّها ثابتة في وثائق وشهادات واعترافات، إلّا أنها سقطت من داخلها قبل أيّ فعل خارجي، وتسببت أخطاء جوهرية بصميم التجربة في تسهيل الانقلاب.
على مدى عقود طويلة نُشرت آلاف الدراسات عن الوحدة وأسباب الانفصال.
قيمة عبد الناصر أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قوياً معها فتتضاعف قوتها


باليقين فإنّ عبد الناصر يتحمل جانباً من المسؤولية، لم يكن عبد الحكيم عامر مؤهلاً لإدارة دولة الوحدة من دمشق والانقلاب حدث من داخل مكتبه.
كما أن عدم تغييره بعد الانفصال كان خطأ جسيماً أفضى ـــ ضمن أسباب أخرى ـــ إلى الهزيمة العسكرية في يونيو بالحجم الذي حدثت به.
رغم ذلك تتبدّى الوحدة في الذاكرة العامة كحلم يستعصي على محاولات الإجهاز عليه، فمصر ـــ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ـــ مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكّرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.
قيمة عبد الناصر في التاريخ ليست أنه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كله يستحق المراجعة بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيرة. قيمته أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قوياً معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجيء تاريخياً لمصر إلّا ربع ساعة كلّ مئة سنة ـــ بتعبير الكاتب الصحافي الراحل محمود عوض.
التعبير مجازي لكنه يعبّر، بصورة أو أخرى، عن حقيقة لا يمكن تجاهلها، هي أن قوة مصر في عالمها العربي والخروج منه يفضي إلى عزلتها وتقويض ثقتها في نفسها، كما يفضي إلى إضعاف العالم العربي واستباحته.
أرجو، أولاً، ألّا ننسى أن الفكرة العروبية الحديثة نشأت في المشرق العربي الذي يتعرّض الآن لتخريب لمقدراته وتلوح فوق الخرائب خرائط التقسيم، لمناهضة سياسات «التتريك»، كما أنها دمجت المسلمين والمسيحيين في نسيج فكري وثقافي وسياسي واحد على نحو غير معتاد من قبل، وأحد الأسباب الجوهرية الماثلة حالياً لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أيّ مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.
باحتلال العراق عام 2003 بدا المشرق العربي كلّه تحت القصف تفكيكاً وتخريباً، وكان ذلك نقطة تحوّل مفصلية أفضت إلى مزيد من الضعف والإنهاك والتراجع في العالم العربي كله.
وأرجو، ثانياً، ألّا ننسى أن التيار القومي في اندفاعاته الأولى ناهض مشروع الجامعة العربية عند نشأتها منتصف أربعينيات القرن الماضي، اعتقاداً أن الهدف منها الحفاظ على واقع التجزئة في العالم العربي، وحتى تكون «الدول الإقليمية» حاجزاً نهائياً ضد «الدولة العربية الواحدة».
في اتفاقية «سايكس بيكو» (1916)، قسمت دول واصطنعت أخرى، وبدت الجامعة العربية حاضنة سياسية لما جرى من تجزئة وتقسيم.
كان الدعم البريطاني لمشروع الجامعة العربية بذاته داعياً للشكوك والريب في أهدافه. وكان صراع الأفكار والسياسات قبل يوليو، هو من أعطى زخماً ميدانياً للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
الآن قمة المنى الحفاظ على حدود «سايكس بيكو»، وصيانة الدول الإقليمية من احتمالات التقسيم حتى لا يضيع كل أمل في أي مستقبل.
بقاء الجامعة العربية على قيد الحياة أصبح بذاته أملاً، إذا ما تهدّمت فإنّ نظاماً إقليمياً جديداً سوف ينشأ، وسيكون العرب هم الطرف الأضعف فيه.
المشكلة الحقيقية أن الدول التي تتحكّم في قرارات الجامعة العربية أوصلتها إلى ما يشبه الموت العيادي، فإذا كان ذلك هو مفهومها للقيادة فإن خلط المفاهيم يكون قد وصل إلى مرحلة انتحار المنطق.
وأرجو، ثالثاً، ألا ننسى أن نكبة فلسطين عام 1948، كانت دافعاً رئيسياً للفكرة العروبية وطلب الوحدة.
تحت الصدمة جرت مراجعات رئيسية لما جرى، وما قد يجري أفضت تداعياتها إلى ضخ دماء فوارة بالغضب والأمل معاً في شرايين الفكرة العروبية.
بات اعتقاداً جازماً لدى جماعات عديدة، ونخب واسعة، أن الوحدة العربية طريقنا لتحرير فلسطين، وجرى الربط بينها وبين قضية التنمية والعدل الاجتماعي، بهذا المعنى الواسع أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، فكلّ فكرة تبدأ وتنتهي عندها.
وقد أدى تفكيك القضية الفلسطينية مرحلة بعد أخرى إلى تفكيك إحدى أقوى الروابط العربية وأخذ التحلل يضرب كل شيء. إذا كان هناك من يتطلع في العالم العربي للعب دور حقيقي وتاريخي فإن القضية الفلسطينية قبل غيرها موضع الاختبار.
وأرجو، رابعاً، ألّا ننسى أنه بعد حرب أكتوبر (1973)، عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة على فصل مسارات التسوية، واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما يسمى بوحدة الموقف العربي.
عندما خرجت مصر من الصراع العربي ـــ الإسرائيلي بحلّ منفرد في اتفاقية «كامب ديفيد»، همّشت أدوارها في العالم العربي، كما في أفريقيا والعالم الثالث بأسره الذي أخلينا مواقعنا فيه وتنكرنا لمعاركنا السابقة التي أكسبتنا وزناً استثنائياً في معادلاته وحساباته.
علت أصوات، هنا في مصر، تشكّك في عروبتها والمعارك التي خاضتها في يوليو، وتدعو إلى الحياد مع قضايا العالم العربي. قيل إن مصر لن تحارب حتى آخر جندي مصري من أجل فلسطين. كان ذلك تدليساً على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أي شيء آخر.
جرى تكريس الانكسار كأنه كلمة التاريخ الأخيرة، غير أنه في نهاية المطاف سوف تعلن الحقائق عن نفسها، فهناك أمة عربية واحدة، لكنها ممزقة ومهانة. وعروبة مصر حقيقة لا خيال!
عندما صعدت أدوار مصر في عالمها العربي تحملت المخاطر ودفعت الأثمان كاملة.
هذه حقيقة لا يجب نسيانها، فلا أدوار بلا أثمان.

* كاتب وصحافي مصري