الوضع في أوكرانيا وروسيا يزداد تعقيداً، ويذهب باضطراد نحو التصعيد. هذا ما تظهره الوقائع، وهي في حالة شبه جزيرة القرم كثيرة جداً، وتكاد تجبّ أيّ تحليل منطقي للمسألة. لم يعد الصراع هنا متعلّقاً بموقع أوكرانيا الجيوسياسي، أو بأهميتها بالنسبة إلى الغرب وروسيا، بل أضحى صراعاً على ماهية الدولة نفسها، وما إذا كانت لا تزال دولة فعلاً.
■ ■ ■


في العادة تكون وظيفة الدولة وأجهزتها هي الجباية من المواطنين لقاء تقديم خدمات عامّة وأساسية لهم، وللحفاظ على هذه الوظيفة أنشئت الأجهزة التي تحتكر العنف، وتحظر على الناس ممارسته بنفسها. يدخل مفهوم السيادة أيضاً في هذا النطاق ويصبح مع الوقت غطاء تتذرّع به الدولة لبسط سيطرتها على المجال العام. ولهذا يقال عن الأجهزة الأمنية أو الشرطة والجيش بأنها جهات سيادية (يستخدم هذا التعبير في مصر كثيراً). على النقيض من هذا التعريف تقريباً يقف مفهوم الاحتجاج، أو هكذا يبدو لنا، فهو منذ البداية يصطدم بالأجهزة السيادية المنوط بها حماية عملية الجباية، ولاصطدامه هذا مبرّرات لها علاقة بتعطّل العملية من أساسها. في الاقتصاد السياسي يسمّى ذلك التعطيل بالنّهب، وتلقى المسؤولية عنه مباشرة على الدولة، فهي التي تجبي الأموال وتوزّعها لاحقاً على الطبقات الاجتماعية، ومن غير المعقول أو الممكن أن يتحمّل أحد سواها المسؤولية حين تتعطّل العجلة، ويتوقّف ضخّ الأموال إلى الناس. علماء الاجتماع خارج الحقل الماركسي لا يشاطروننا رأينا في الشقّ الاقتصادي من الأمر، ويذهبون إلى القول بأنّها أبعد من عملية توزيع للثروة أو نهب لها، فهي تعبّر من وجهة نظرهم عن عقد اجتماعي بين طرفين، وهذا العقد لا يتوقّف على ما تفعله الدولة وحدها. بالطبع ليس مستغرباً من الليبراليين (وليس فقط النيوليبراليين) تحميل الطرف المنهوب من الدولة دائماً عبء الفوضى التي تحلّ بالمجتمع حال الإخلال بالعقد ذاك. فالرأسمالية هي الصنو الفعلي لعنف الدولة، وهي التي تبرّر دائما تدخّلها - أي الدولة - للجباية من الناس ونهبهم بالإكراه. وحين يعترض هؤلاء على نهبهم لا يفعلون ذلك ضدّ الدولة وأجهزتها فحسب، بل أيضاً ضدّ الرأسماليات والإمبرياليات الدولية التي تبيح هذا النسق من العنف وتبرّر استعماله في مواجهة الاحتجاجات. بهذا المعنى تتأكّد الحاجة إلى «نقض وظائف الدولة»، ويصبح أيّ احتجاج يندلع في العالم مشروعاً ومبرّراً في ذاته، فهو يكتسب معناه بمجرّد أن يقع ولا يحتاج بالتالي إلى أيّ محدّدات من خارج منطقه. السياق فقط هو من يضع المحدّدات لاحقاً، وفي وضعنا الحالي يتعيّن السياق بمواجهة السلطة - الدولة التي تنهب الثروات وتحرم مواطنيها من حقّهم في الوصول إلى الخدمات العامة التي «كفلتها» لهم الدساتير الليبرالية. قد لا تكون حقوقهم اقتصادية بالضرورة، ولكن مصادرتها على هذا النحو العنيف تحصل بغرض منعهم من الاحتجاج الذي تخشى منه السلطة على امتيازاتها، وخصوصاً إذا ما تطوّر وأخذ أشكالاً أكثر جذرية. وما يحصل الآن بفعل الانسداد الذي وفّرته الدولة الليبرالية الفاسدة والنهّابة هو اقتران هذه الجذرية بالعنف، وبالتالي اصطدام الاحتجاج مباشرة بالدولة، وإحداثه بفعل الاستمرارية والتصميم اللذَين يبديهما المحتجّون شروخاً وتصدّعات داخل أجهزتها المسمّاة بالسيادية. وهذا ليس جديداً على «الثورات» عموماً، ولكن وتيرته تتزايد حالياً، وتدفع باتجاهات من المحتمل أن تشلّ الدولة نهائياً وتقعدها عن العمل. لا يطاول ذلك إذا حصل أجهزتها ومؤسّساتها فحسب، وإنما يطاولها أيضاً كمفهوم وكتعريف للسيادة وتنظيم العملية الاجتماعية. ومن تجاربنا في المنطقة نعلم أنّ هذا «قد وقع بالفعل»، خصوصاً في مصر التي صدّعت الاحتجاجات المتوالية (والأهمّ من تواليها هو عنفها الشديد والموضعي) أجهزة الدولة فيها، وأجبرتها مرّات عديدة على التراجع والإذعان لمطالب الناس. لنتذكر أنّ في كلّ مرة من هذه المرّات كانت المطالبات بهيكلة الأجهزة تلك تتزايد، فبالنسبة إلى الثوريين تعتبر الدولة وليس فقط السلطة، مسؤولة عن عمليات القتل التي تواجَه بها الاحتجاجات، ويتعيّن عليها بالتالي أن تضع حدّاً لتغوّل أجهزتها الأمنية والعسكرية قبل أن تزداد الشروخ داخلها، وينتقل الانقسام إلى داخل بنيتها الصلبة (ما يسمّى هناك بالدولة العميقة، أي تحالف الجيش والبيروقراطية الحكومية).

■ ■ ■


في أوكرانيا أيضاً ثمّة أجهزة تتصدّع، وثمّة انقسامات لم يعد ينفع إخفاؤها، فالغضب الذي أبداه الناس في الشوارع ارتطم بكلّ ما تواطأت الدولة بشقّيها («الشيوعي» والرأسمالي) على إخفائه طيلة الأعوام الماضية. تقريباً أصبح كلّ جهاز حكومي أو إداري أو أمني هناك محلّ انقسام، وخصوصاً في الأماكن التي تتصاعد فيها الاحتجاجات. قبل الموجة الحالية التي تجتاح القرم والمناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، كان الشلل من نصيب الأجهزة المحسوبة على روسيا وحليفها يانوكوفيتش. فبالنسبة إلى محتجّي ميدان الاستقلال لا تعبّر هذه الأجهزة عن شرعية تُذكر، ولا تمثّل أحداً داخل الدولة أو خارجها، طالما أن هذه الأخيرة قد تفكّكت عملياً، وانتقل ولاؤها إلى «الميدان».

من يصدّق أنّ أميرة الغاز يوليا تيموشنكو تريد توزيعاً فعلياً للثروة داخل أوكرانيا؟


على هذا الأساس اقتيد أفراد القوّة الخاصة بمكافحة الشغب (بيركوت) إلى ميدان الاستقلال وأجبروا على الركوع والاعتذار من الناس هناك، فهم لم يعودوا يحوزون التغطية اللازمة لممارسة العنف واحتكاره، بل أصبحوا في مرمى العنف الاعتراضي. وهو من منظور الحركة الاحتجاجية عنف محمود، لأنّه يحظى بخلاف «بيركوت» بتغطية شعبية واسعة، وبالتالي لا يعبّر عن الانقسامات التي تعبّر عنها هي. ليس لهذه الواقعة سوابق كثيرة في الميادين الحالية، ولذلك تعتبر سابقة بحدّ ذاتها، ونقطة ارتكاز يمكن الاستناد عليها في أيّ عمل ثوري مقبل. التعبئة المرافقة لسابقة كهذه ضرورية لتأمين استمرارية الفعل الثوري، غير أنّها تصبح بلا جدوى في غياب مرجعية أخلاقية تضبط الشارع وتمنع انزلاقه إلى ممارسة الأفعال الثأرية أو الإجرامية. وفي حالة ميدان الاستقلال بالتحديد غابت هذه المرجعية، وتُرك الحبل على غاربه لأمثال ديمتري ياروش متزعّم حركة «القطاع الأيمن»، كي يعيدوا تقسيم المجتمع الأوكراني على أساس الهويّة القومية فحسب. بالنسبة إلى ياروش وأمثاله من النازيّين الجدد لم يكن استهداف «بيركوت» موجّهاً ضدّ ذراع السلطة التي قمعت الاحتجاجات، فهو من موقعه القومي لا يعترف بالانقسامات الطبقية أو السياسية والتي هي الغاية من أيّ فعل احتجاجي، ولا يقيم وزناً لأيّ شيء يتعدّى الطابع الهويّاتي لتحرّكه. والخطورة هنا، أنّ هذا الرجل كان مؤثّراً في الميدان، ولم يكن بالهامشيّة التي توقّعها البعض، ولأنّه كذلك أضحى الإجماع الذي دعت إليه الاحتجاجات بعد إسقاط السلطة في خبر كان. صحيح أنّ وجود يانوكوفيتش الفاسد والمرتشي في السلطة قد فاقم الانقسامات داخل أوكرانيا، إلا أنّ ذهابه بهذه الطريقة «لم يكن هو الحلّ الأمثل». الدولة هنا ضحّت برأس واحد كي تحافظ على سيطرتها وتمنع الاحتجاجات من الوصول إلى الامتيازات والاحتكارات و... إلخ، الأمر الذي يضع علامة استفهام على المسار الاحتجاجي برمّته.
لا شكّ في أنّ المحتجين كانوا أصدق من قياداتهم الفاسدة والمرتشية بدورها (من يصدّق أنّ أميرة الغاز يوليا تيموشنكو تريد توزيعاً فعلياً للثروة داخل أوكرانيا؟)، فهم ضحّوا بالفعل وسقط لهم شهداء في المواجهات مع الشرطة الخاصّة (بيركوت). وفوق كلّ ذلك وجدوا من يقنعهم بأنّ ذهاب الأجهزة التي لا تعبّر عن الشعب ولا تمتثل للحظة التي يعاد فيها إنتاج الوعي الجمعي سيفتح الطريق أمام كلّ (وأشدّد هنا على كلمة كلّ لأنها السبب وراء اندلاع الاحتجاجات في شبه الجزيرة القرم) المعترضين على انحيازات «الدولة القديمة».
ليس ضرورياً أن يعبّر الانحياز هنا عن وعي طبقي، فمحتجّو كييف ينتمون في معظمهم إلى اليمين، وهو أمر معوّق لجذريّة الفعل الاحتجاجي، لكنه ليس شرطاً لممارسته والشروع به. وما يحدّد كونه احتجاجاً من عدمه هو الممارسة الفعلية وعدم التعرّض للعناصر التي يشكل المسّ بها إيذاناً بانحراف «الثورة» أو الانتفاضة عن مسلكها الرئيسي. والحال أنّ هذا المسّ قد وقع بالفعل غداة الانتهاء من السلطة الموالية لموسكو، فبمجرّد استيلاء اليمين على السلطة وهروب يانوكوفيتش خارج العاصمة كييف بدأت العناصر التي يعبّر عنها ياروش تجاهر بعدائها للروس واليهود والأقلّيات السياسية الأخرى داخل البلاد. وترافق ذلك مع اعتداءات متكرّرة على مصالح هؤلاء، فلم يقتصر الأمر كما كان يعتقد كثيرون على القوّات الخاصة التي اقتحمت الميدان بأوامر مباشرة من يانوكوفيتش، بل تعدّاها إلى الاقتصاص من كلّ الذين يمتلكون حساسية تجاه السلطة الجديدة. في إحدى المرّات أجبر أحد المحافظين الذين لم يمتثلوا تماماً لليمين الحاكم حاليّاً على الركوع أمام حشد شعبي، وقد قوبلت مقاومة الرجل لمحاولة ربطه بالحبال وجرّه إلى الحشد المتجمّع أمام مبنى المقاطعة بالضرب الشديد. بالإمكان تفهّم هذا الفعل في حالات أخرى كحالة «بيركوت» مثلاً، لكنه هنا لا يعبّر إلا عن رغبة محمومة بالتسلّط، وبالتالي تهميش كتلة اجتماعية لم تعد تجد في النظام القائم من يعبّر عنها. ولأنّ التهميش هو عنصر من العناصر التي تنال من شرعية أي دولة، فقد وجدت السلطة الجديدة في كييف نفسها إزاء حالة تشبه حالة يانوكوفيتش وزبانيّته تماماً: احتجاجات تعمّ شبه جزيرة القرم قوامها سكّان شبه الجزيرة من أصل روسي، وموضوعها الاعتراض على النيل من اللغة الروسية وتحميل سلطة كييف المسؤولية عن أيّ مكروه يحدث للسكّان المتحدّرين من روسيا. هكذا بدأت الأمور قبل أن تتحوّل إلى مطالبات صريحة بتدخّل روسيا «لحماية الناس هناك» من النازيين الجدد في كييف. مظاهر التسلّح والتطوّع في ميليشيات وقوّات حماية محلّية أخذت طريقها إلى الظهور أيضاً، وأصبحنا نسمع عن محاصرة هذه المجموعات للقوّات الأوكرانية الموجودة في القرم ، وتخييرها بين الانشقاق أو الرحيل عن البلاد.
كلّ ذلك كان موجوداً في كييف، وعدّ الأمر بمثابة ثورة على النظام فلمَ سيختلف التعاطي معه في القرم؟ هناك لم تتمرّد شبه الجزيرة على السلطة وحدها، بل على الدولة برمّتها، وهذا معطى جديد يؤكّد أنّ تنظيم هذه الأخيرة للعملية الاجتماعية قد تعطّل بالكامل، الأمر الذي سيفتح المجال في المستقبل على أشكال أخرى من الاحتجاجات. لا يتعلّق الأمر فقط باحتكار الثروة وتوزيعها على من يثبت ولاؤه، بل يتعدّاه إلى نسق السيطرة الرأسمالية الذي لم يعد يسمح في الأطراف بتطوّر اجتماعي من أيّ نوع. وبالإضافة إلى عدم سماحه بذلك فهو غير قادر أصلاً على حلّ التناقضات التي تنشأ بين الناس هناك بمعيّة «المسألة القومية»، وهذا أمر لا يقتصر على طرف بعينه، وإنّما يشمل معظم الأطراف الرأسمالية التي تدير النظام الدولي الحالي، بما فيها روسيا. الاحتجاج الآن يطرق أبواب هؤلاء جميعاً، ويهدّد بفرط الصيغة التي قامت على أساسها الدولة الليبرالية المسمّاة بالدولة - الأمّة.
* كاتب سوري