الترابط بين الانهيارات الاقتصادية وانفجار الكيانات السياسية لا يحدث عادة إلّا في البلدان الضعيفة التي تقوم على أهداف وظيفية يستفيد منها الطرف المؤسّس. لبنان واحد من عشرات الدول في الشرق الأوسط التي ابتكرها الاستعمار البريطاني والفرنسي في النصف الأول من القرن العشرين، من دون امتلاكها لأيّ خلفيات تاريخية وسياسية راسخة. لقد صنعها لتلبية وظائف اقتصادية كحال الخليج وليبيا وسلطنة بروناي، أو سياسية كوضع البحرين والأردن ولبنان، والكثير من المناطق الأخرى.فعجائب النفط والغاز والصراعات على النفوذ العالمي أسّست هذه المعادلات التي لا تزال منضبطة في إطار الولاء للغرب، بمفهوم السمع والطاعة، وتؤمّن له الطاقة ومواردها لحاجات أسواقه الاقتصادية والخدمات السياسية، لمنع المتسلّلين من الدول المنافسة من حيازة أيّ نفوذ. لذلك، فإنّ لبنان الذي خرج من استعمار عثماني متواصل لأربعة قرون، أصبح بجهدٍ بسيط مشروع دولة مستقلّة، من صناعة الاستعمار الفرنسي الجديد، بالتعاون مع الكنيسة المارونية.
لقد دعم تأسيس هذه الدولة الجديدة، اهتمام الفرنسيين والبريطانيين ببعثرة سوريا، وامتصاص قوّتها لإضعاف المنطقة بأسرها. وهذا ما طبّقوه بإهداء الإسكندرون المحتل لتركيا، والأردن للهاشميين، وقسم من حوران في الأنبار للعراق، محوّلين لبنان إلى دولة مستقلّة، وفلسطين لليهود بعد طرد أهلها منها.
وللمزيد من اكتساب القوة لمشروعية الدولة اللبنانية، دعمت طبقتُه الدينية والسياسية حركة فبركة التاريخ، والشعر واختلاق حكايات لتميّز لبنان عن الجوار بالحضارة والتكوين والخصوصية. ما أدّى إلى تطوّر لبناني داخلي على وقع خلاف عميق بين فئة من أهله تعتقد بغربية انتماءاته، وبين فئة أخرى تراه مشرقياً منتمياً إلى تاريخها. بالتوازي، أمسك نظام سياسي من قوى سياسية من مختلف المذاهب بالدولة، بدعم من الكهنوت الديني من كامل المذاهب، فاستولى على الإدارة والمال والسياسة، مسجّلاً ولادة طبقة سياسية لبنانية تتّحد فئاتها في وجه الناس، لكنّها تتنافس للسيطرة على السياسة والمال العام. هذا الاستحواذ الداخلي تَواكب مع ارتباط بالخارج الإقليمي والغربي، حتى صار لكلّ مذهب راعيه الخارجي، ما أدّى إلى اكتساب هذه الطبقة السياسية مزيداً من القوة على المواطنين اللبنانيين في الداخل.
يمكن هنا تقسيم مراحل هذه الصيغة التي بدأت بهيمنة مارونية، من استقلال لبنان في عام 1943، إلى مرحلة الاحتلال الإسرائيلي والنفوذ السوري، وأفول الصعود الفلسطيني ومعه أحزاب الحركة الوطنية، إلى أن استقرّت الصيغة الداخلية على «اتفاق الطائف» عام 1989، برعاية سورية كاملة، كانت تتعامل مع كل الطوائف كملحقات لهيمنتها تعطي وتمنع من دون حسيب أو رقيب.
الاستثناء الوحيد في تلك المرحلة، كان حزب الله الذي خاض مقاومة أدّت إلى انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، بعد مقاومة شعبية استمرّت من عام 1982 حتى عام 2000، فانقسم البلد بين صيغة سياسية تقليدية طائفية تنهب لبنان، مقابل حزب الله الذي حرص على الاستمرار في مقاومة الإرهاب والاكتفاء بوجودٍ برلمانيٍّ ووزاريٍّ لاحقاً، لمجرّد مراقبة تحرّكات قوى الصيغة الداخلية في حركة تلبياتها لمصالح الخارج الغربي والخليجي. وازدادت أهمية الحزب، بعد تصدّيه لهجومٍ إسرائيلي كبير في عام 2006، ومشاركته في الحرب على الإرهاب بين عام 2014 وحتى الآن في ميادين سوريا وجبال لبنان الشرقية، مؤدّياً في الوقت نفسه دور الراعي للاستقرار في الداخل اللبناني بالتعاون مع الجيش اللبناني.
بما أنّ قوى التغيير لا تستطيع أداء دور البديل فإنّ حزب الله يفضّل ترميم الصيغة بهدنة جديدة مع قوى الحريرية السياسية


أدّى هذا الوضع إلى استمرار الصيغة اللبنانية، إلى جانب معادلة حزب الله التي لم يشكّل جزءاً مباشراً منها، لكنّه لم يجابهها لأنه لا يمكن محاربة إسرائيل والإرهاب وقوى الفساد الطوائفية في لبنان، في آن واحد. فاختار الحزب الدور الخارجي مقابل إرجاء التعامل مع الداخل إلى مراحل لاحقة، الأمر الذي تطلّب منه عقد هدنة مع الحريرية السياسية، بمشاركة رئيس المجلس النيابي نبيه بري.
هذه الصيغة اللبنانية التقليدية تسبّبت بإفلاس البلاد، فإذا كانت الهيمنة المارونية أمسكت بلبنان أكثر من ثلاثة عقود، فإنّها لم تتسبّب حتى بقسم ضئيل من الأضرار التي ارتكبتها قوى الصيغة اللبنانية برعاية الحريرية السياسي. ففي مرحلة 1992 ـــ 2019، بلغ الدَين العام اللبناني أكثر من 93 مليار دولار، ولا وجود لكهرباء ومياه ورفع للنفايات، مع سطو على الإدارات والتحاصُص والتفاعلات الاقتصادية المنهوبة المقدرة بـ250 مليار دولار في عشرين عاماً. كانت الطبقة السياسية التي ارتكبت هذه الجرائم المتواصلة، تعتقد بأنّ المزيد من الديون تغطّي على سرقاتها أو اكتشاف كميات تجارية من الغاز والنفط. فلا قروض جاءت ولا وقود جرى اكتشافه.
وتزامن هذا الوضع مع سيطرة جائحة «كورونا» على العالم، والإقفال شبه الكامل للمرافق الاقتصادية. هذا بالتزامن مع تراجع إنتاج النفط وانهيار أسعاره، وتوقُف شركة «توتال» عن التنقيب عن الغاز قبالة بحر المتن في البلوك رقم 4، لأنها اكتشفت أنّ الكميات فيه ليست تجارية. إنّ اجتماع هذه العوامل، أصاب الصيغة اللبنانية في قلبها، وجعلها تناشد صندوق النقد الدولي و«مؤتمر سيدر» لإقراض لبنان ما يسمح لصيغته السياسية بالاستمرار لعامين فقط، والمفاوضات مستمرّة إنما ببطء لا تتحملّه الأوضاع الاقتصادية اللبنانية.
هناك ملاحظات عدّة لا بدّ من ذكرها، وهي أنّ الفساد طوائفي ولا يقتصر على مذهب واحد، بل شاركت فيه كل المكوّنات المذهبية داخل الصيغة الطوائفية الحاكمة، بالإضافة إلى أنّ حكومة حسّان دياب لا تمتلك أدوات قوة للإنقاذ إلّا من خلال عناصر التأثير الخارجية التي تحمي الصيغة اللبنانية. يمكن التأكيد، أيضاً، أنّ الانتفاضة اللبنانية لا تشكّل حالياً بديلاً للصيغة، لأنها لا تزال قيد التشكّل وتحتاج إلى وقت طويل حتى تمتلك عناصر قوة حاسمة.
لذلك، يتكوّن المشهد اللبناني من قوى الصيغة التي لا تزال تعتقد بقدرتها على الاستمرار، بأسلوب المواربة أولاً وبالعودة إلى مواقعها بعد وقف الانهيار الاقتصادي ثانياً. هناك أيضاً حزب الله ذو الدورَين اللبناني والإقليمي، اللذين يريد المحافظة عليهما، وهذا لا يكون إلّا من خلال تهدئة الأوضاع اللبنانية ودفعها نحو هدنة فعلية.
وبما أنّ قوى التغيير لا تستطيع أداء دور البديل، فإنّ حزب الله يفضّل ترميم الصيغة بهدنة جديدة مع قوى الحريرية السياسية، إنّما على أساس إدارة البلد مرحلياً بواسطة حكومة حسّان دياب. فهل هذا ممكن؟ إنّ متابعة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تشبه أفضل مركز استطلاع متقدّم لمراقبة ما تريده القوى الخارجية من لبنان في هذه المرحلة. فهل تتّجه إلى تأييد الهدنة أم ترفضها بإرجاء منح قروض للبنان حتى إشعار آخر؟ هذه هي الإشكالية التي تضع الصيغة اللبنانية التقليدية في وضعية تاريخية غير مسبوقة، تهدّد بتشتّت قواها نحو السياسة والنأي الجغرافي، وقد يكون هذا التشتّت الطوائفي جزءاً مقصوداً من الضغط الغربي على حزب الله، في حركة لاستهداف دوره السوري بالتحديد. وهذا لا يكون بإقراض لبنان مالاً، بل بالضغط على صيغته التقليدية والدفع بها نحو كونفيدراليات جغرافية سياسية تؤدّي تلقائياً إلى تحويل ساحات لبنان ومحافظاته إلى دوائر منفصلة كلعبة الشطرنج.
لذلك، بدا الهمس بالتقسيم الكونفيدرالي يزداد من قوى سياسية محسوبة على الغرب، بشكل يتبعثر فيه لبنان بين مناطق سنية ومسيحية ودرزية وشيعية، ما يؤدي إلى إقفال الحركات الاستراتيجية لحزب الله في الهجوم والدفاع، ووضع معوّقات جغرافية في وجهها. فهل بدأت مرحلة تفكيك صيغة الطائف 1989 واتفاق الدوحة 2008، لمصلحة تقاسم مذهبي للجغرافيا البشرية، وبالتالي السياسية، فتصبح إسرائيل أكثر قوة وسوريا أقلّ نفوذاً وإيران لا مكان لها، مقابل عودة الدور الأميركي إلى صعود عمودي؟
هذا ما يريده الأميركيون، لكنّ إمكانية تنفيذه شديدة الصعوبة، مع تحالفات نجحت في إلحاق الهزيمة بالمشروع الأميركي في سوريا والعراق واليمن وإيران، وتسبّبت بهزيمة إسرائيل مرّتين في لبنان، من دون مساندة قوى الصيغة اللبنانية التقليدية، التي وصلت في تلك المرحلة إلى حدود تأييد إسرائيل. لذلك، فإنّ مشروع الكونفيدرالية ذاهبٌ إلى خسارة، إنما على أساس إعادة تأسيس صيغة تقليدية تؤكد مرة أخرى أنّ عصر التغيير العميق في لبنان لن يبدأ قبل إلغاء الطائفية السياسية وبناء دستور على قاعدة الانتماء الوطني للبنانيين.

*أستاذ جامعي