شاء بعضُهم أن يكون السادس من حزيران، يوم بدء الحرب العربية ـــــ الإسرائيلية على لبنان وفيه، قبل 38 عاماً، يوماً لبدء «حرب» جديدة على هذا البلد، مستغلّاً جوع الناس ورفضهم للفساد والفاسدين والمفسدين، فيضع اللبنانيين مرة أخرى في وجه بعضهم البعض، ويحقّق بالفتنة ما عجزت عن تحقيقه الحرب القديمة التي تكسّرت، أول ما تكسّرت، على أسوار العاصمة، وفي شوارعها المضاءة بدماء الشهداء.ولكن هذا «البعض» أخطأ التقدير مرة أخرى، بل لم يُحسن قراءة الأوضاع الداخلية في لبنان، على تردّيها، ولا حتى الأوضاع الإقليمية والدولية التي تشهد متغيّرات لغير صالح القوى التي تقف وراء هذا «البعض»، وتشجّعه على ركوب موجات عنف انتحارية تستهدف البلد كلّه، بكل مكوّناته ومقوّماته في آن.
فرغم إدراكنا لهشاشة أوضاعنا الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم أجواء الغليان الشعبي الناجم عن تجاوز حال الفساد كلّ قدرة على الاحتمال، وتمادي القيّمين على أمور البلاد في تجاهلهم لمطالب الناس، وعدم تحسّسهم بأوجاعها، إلّا أنّ اللبنانيين بشكل عام، وأهل بيروت بشكل خاص، قد تعلّموا من دروس الماضي، أنّ الوقوع في الفتنة هو أخطر من أي خطر آخر، ووجع الحرب في الشوارع والأزقّة وعلى خطوط التماس أكثر إيلاماً من أي وجع آخر... بل بات اللبنانيون يدركون أنّ مستقبلهم على كلّ المستويات، مرتبط بوحدتهم وبسلمهم الأهلي، وأنّ انتفاضتهم الرائعة في 17 تشرين الأول كانت متوهّجة يوم وحّدت اللبنانيين حول مطالب اجتماعية واقتصادية محدّدة، وأنّها فقدت بريقها يوم حاول البعض إحياءها على قاعدة شعارات تؤجّج الانقسام بين اللبنانيين.
ومن «يحلم» في الداخل أو الخارج، في هذا الفريق أو ذاك، أنّه قادر على إعادة لبنان إلى أجواء السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، «واهمٌ» جداً، وغير مدرك لحساسية غالبية اللبنانيين، ورفضهم لأيّ محاولة لإعادتهم إلى أجواء «الحرب الأهلية»، التي تزيد وجعهم وجعاً، وجوعهم جوعاً، وخسائرهم خسائر، وفساد القيّمين على أمورهم فساداً، وطائفية نظامهم ومذهبيته طائفية ومذهبية.
هذا «الحالم» بفتنة جديدة، مستغلّاً هتافاً مسيئاً إلى رموز محترمة عند كلّ لبناني، وليس فقط عند أهل طائفة أو مذهب، لا يُدرك أنّ هناك حقائق باتت راسخة في واقع لبنان وحياة اللبنانيين:
أولى هذه الحقائق، أنّ الحرب كرقصة التانغو تحتاج إلى راقصين اثنين، إذ إنّ «راقصاً» واحداً لا يكفي، فكيف إذا كان هذا الراغب بـ«الرقص» عاجزاً عن إشعال حربٍ، فيما القادر على إشعالها غير راغب بـ«الرقص» الدموي أصلاً. وهذه معادلة أكدنا عليها، منذ ظنّ بعضهم أنهم قادرون على استجرار البلاد إلى «فتنة» جديدة، بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل 15 عاماً.
وثانية هذه الحقائق، أنّ في البلاد جيشاً وقوى أمنية، موحّدة القيادة والقرار، ومصمّمة على التصدّي لأي عبث أمني، وأن ثقة المواطن إلى أي فئة انتمى، بهذا الجيش والقوى الأمنية تزداد يوماً بعد يوم، على عكس ما كان عليه الأمر عام 1975، حين أدّت بعض الانزلاقات إلى انقسام في الجيش وحوله، فيما هناك ما يشبه الإجماع على جيشنا الوطني وقوانا الأمنية.
وثالثة هذه الحقائق، أنّ القوى الخارجية، إقليمية كانت أم دولية، الراغبة في الضغط على لبنان لصالح العدو الإسرائيلي، الساعي بكلّ السبل إلى تجريده من قوّته المتمثّلة بمعادلة «الشعب والجيش والمقاومة»، تشهد تراجعاً داخل بلادها، كما باتت بدورها عاجزة عن تمويل حرب طاحنة في لبنان، كما هو الأمر في سوريا واليمن وليبيا، بل كما كان الأمر في لبنان نفسه خلال سنوات الحرب اللعينة، فكلّ هذه القوى تدرك حجم التكاليف المالية والبشرية، التي أنفقتها في هذه الحروب، وهي عاجزة في ظلّ الشحّ المالي الذي تعانيه عن تكرار إنفاقها في لبنان.
طبعاً، هذا لا يعني أنّ هذه القوى، الإقليمية والدولية، قد نفضت يدها من لبنان تماماً، لكنّها تسعى إلى إبقاء سيف الضغوط الإقليمية والمالية مصلتاً على الدولة والمجتمع في لبنان، مع بعض التوترات الأمنية «هنا وهناك»، لكي توحي بأنّ لبنان ليس مستقرّاً.
وقد جاءت أحداث «السبت الفتنوي»، مستغلّة هتافات مسيئة إلى رموز دينية، وهي هتافات مرفوضة من كلّ لبناني، بهدف إشعال نار الفتنة في أكثر من شارع في العاصمة وفي المناطق الأخرى، لكنّ الموقف المدين والمستنكر لهذه الهتافات للمرجعيات الدينية والسياسية المعنية، ووعي المجتمع الذي ذاق الأمرّين من مرارة الصراع الطائفي والمذهبي، والحضور القوي للجيش والقوى الأمنية، عطّلت الألغام التي كانت مزروعة وتعطّلت «أحلام» من كان ينتظر تفجيرها.
المهم أن تقوم القيادة الحكيمة الحاضرة، في أكثر من فريق، بمراجعة جريئة وصادقة للأداء وللخطاب السائد وللثقافة المعتمدة، كما تقوم بمحاسبة كلّ من يتثبت تورّطه في فعل فتنوي وإنزال أقصى العقوبات فيه، سواء بإطلاق هتاف أو فبركة فيديو، أو تحريض شارع.
يكفي لبنان ما فيه من أوجاع، فلا تضيفوا إلى أوجاعه وجعاً جديداً. ولكن، رغم كلّ شيء، يبقى لبنان أقوى من الفتنة، وأصحاب الفتنة إلى أيّ فريق انتموا!

* كاتب وسياسي لبناني