بمرور ثلاث سنوات زائدة على نصف قرن، تعبر إلينا ذكرى هزيمة حزيران / يونيو 1967، والسجال حولها لم ينقض بعد، ولا مقدراً له أن يفعل في خلال عقود ولربما قرون. والحال هذه باقية ما بقيت معادلات «شرعنة» الكيان الإسرائيلي الأولى، التي استند إليها، قائمة، حيث من المؤكد أنّ المعادلة الأساس لقيام هذا الأخير، استندت أصلاً إلى زرع نسيج متفوّق بكل المقاييس بين ثنايا نسج «متخلّفة»، أو هي تعاني من عطب مزمن بفعل تراكمات تاريخية عديدة. ولذا، لن يكون صعباً على النسيج الأول ــــــــ تبعاً لهذا التقدير الأخير ــــــــ ترويض وإركاع هذه النسج الأخيرة مجتمعة، ووضعها في السياقات التي أُريد لها أن تكون فيها.سال حبر كثيف، منذ أن صمتت فوهات البنادق بعد ستة أيام على بدء القتال، وعبر التراسيم التي جاء عليها ذلك الحبر، كان هناك العديد من الفرضيات والنظريات التي عرضت ـــــــ ثمّ شرحت ـــــــ لأسباب الهزيمة. ومن المؤكد أنّ العديد من أولئك الذين تصدّوا لتلك المهمة، كانوا قد استطاعوا عملياً تقديم صورة شافية تبرر وقوع ذلك الزلزال الذي أصاب المنطقة، ولم تزل هزّاته الارتدادية حاضرة حتى الآن بين ظهرانينا، أقلّه في الذهنية الحاكمة لتصوّراتنا ورؤانا، ومعها مكوّنات الذات المسؤولة عن بناء الإرادة والصمود وتعزيز الثقة بالنفس، فأيّ هزيمة عسكرية ـــــــ أياً يكن حجمها ـــــــ تبقى محدودة في قيمتها، ما لم تؤدِّ إلى إفقاد المهزوم ثقته بنفسه، وإيمانه بغدٍ قادم لا محالة، يكون قادراً فيه على محو صفحاتها، بما يضمن تغيير دفة السفينة عن اتجاهها السابق.
حدثت الهزيمة كنتيجة للاستثمار في لحظة سياسية ــــــــ عسكرية فارقة، تكامل فيها العاملان الذاتي والموضوعي، حتى وصلا حدود التماهي، ولربما كان ذلك وحده ما يبرّر حجم الكارثة التي توضّحت أبعادها في غضون أيام قليلة. ومن المؤكد، اليوم، أنّ حياكة «قماش» هذي الأخيرة، كان قد بدأ في أواخر شهر تشرين الثاني / نوفمبر 1956، عندما تكشّفت المعادلات التي أفضى إليها العدوان الثلاثي على مصر، وهي من حيث النتيجة كانت قد أفضت إلى تكريس زعامة جمال عبد الناصر، الذي برز كقائد يحمل مشروعاً لا يقوم على ضرب مرتكزات الهيمنة الغربية في مصر فحسب، بل على امتداد المنطقة العربية برمّتها.
في 13 أيلول / سبتمبر 1965، انعقدت قمة عربية في الرباط تحت رعاية الملك الحسن الثاني الراحل، وفد كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في لقاء مع شلومو غازيت رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، آنذاك، نُشر في عدد 14 تشرين أول / أكتوبر 2016 أن إسرائيل استطاعت في تلك القمة، عبر تنسيقها مع الاستخبارات المغربية، الحصول على معلومات هي غاية في الأهمية، كان من أبرزها تأكيد قادة الجيوش العربية، في كلماتهم التي ألقوها في تلك القمة، أن جيوشهم لا تزال بعيدة عن أن تكون جاهزة لخوص حرب ضد إسرائيل، والأخطر هو أن القادة العرب ــــــ وفق غازيت ـــــــ كانوا يخطّطون لشنّ حرب ضد إسرائيل، حتى ولو كانت جيوشهم غير جاهزة، في توجّهٍ أقرب إلى أن يكون امتصاصاً لغضب الشارع العربي، أو هو بالمعنى السياسي ركوباً ضرورياً لموجة الجماهير، حفاظاً على استقرار الأنظمة.
ما بين عامي 1956 ـــــــ 1967 كانت تل أبيب ترقب بأدق التفاصيل، تموّجات السياسة الحاصلة في كلٍّ من دمشق والقاهرة، وهي تدرك أن التشنّج الذي كان بادياً جيداً في سياسات الأولى، مردّه إلى فقدان الثقة بالمحيط في جوانبه الأربعة، فيما يستمدّ هذا الفعل الأخير مشروعيّته من تجارب كانت في مجملها تغوص عميقاً في الذات الجماعية السورية، فتخرج منها إلى السطح تنّيناً على هيئة قلق من محاولات الابتلاع بمعناه الجغرافي، الأمر الذي كانت ترسيه في تلك الذات مشاريع من نوع «سوريا الكبرى»، ثم «الهلال الخصيب». والمؤكد أن تلك الذات ــــــ أو جزءاً منها على الأقل ـــــــ كانت قد تبنّت نظرة ليست بعيدة عن ذينك المشروعين تجاه الوحدة مع مصر. كان القلق هنا «كعب آخيل» دمشق الذي سيبرز كنزاً لا ينضب، ولسوف يسهل استثماره في سياسات الضغط على أعصاب القيادة السورية، عندما تحين ساعة الاستثمار المُثلى له. وعلى الضفة المصرية، كان الرقيب الإسرائيلي يلحظ تبلور ملامح ازدواجية السلطة بدءاً من عام 1956، حتى إذا لاحت تباشير الأزمة المتولّدة بفعل قرار إغلاق خليج العقبة أيار / مايو 1967، كان فعل التبلور قد اكتمل، حتى بات من السهل على ذلك الرقيب لحظ ملامح «الدولة» و«ظل الدولة» المتساكنَين في القاهرة، ولربما أمكن القول هنا في هذا السياق ــــــ وإن ذلك القول لا يزال إشكالياً ـــــــ إن عبد الناصر لم يكن حاكماً فعلياً لمصر، إلا في المرحلة التي أعقبت هزيمة حزيران / يونيو، التي أدّت من حيث النتيجة إلى غياب «دولة الظل» وتفكيكها.
ما بين عامي 1956 ـــــــ 1967 كانت تل أبيب ترقب بأدق التفاصيل تموّجات السياسة الحاصلة في كلٍّ من دمشق والقاهرة


في الشرط الموضوعي، كانت هزيمة المشروع القومي العروبي النامي في الرحم الناصري، والمهدّد بالتمدد نحو أذرع أخرى فاعلة، ضرورة أميركية ملحّة أوكلت مهمة القيام بها إلى مخفر الغرب المتقدم، الأمر الذي يمكن لمسه بوضوح في تصريح للرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، الذي وصف حرب حزيران/ يونيو بأنها «تنفيذ إسرائيلي لحرب أميركية». كان المطلوب، باختصار، التحطيم الذري لهيولى جنين النهوض العربي مرة واحدة وإلى الأبد.
هذا التلاقي الأميركي ـــــــ الإسرائيلي كان يعتدّ بتلاقٍ آخر مع قوى إقليمية بارزة، من عيار المملكة العربية السعودية، التي كانت تنظر إلى الناصرية كخطر يتهدّد كيانها ووجودها، وليس زعامتها فحسب. يورد الكاتب حمدان حمدان، في كتابه «عقود من الخيبات»، وثيقة مهمة من وثائق مجلس الوزراء السعودي، وهي تحمل الرقم /342/ تاريخ 27 كانون الأول / ديسمبر 1966، ومذيّلة بتوقيع الملك فيصل بن عبد العزيز.
الوثيقة عبارة عن رسالة موجهة إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون، جاء في سياقاتها «وممّا عرضناه بإيجاز يتبيّن لكم أنّ مصر هي العدو الأكبر لنا جميعاً، وأنّ هذا العدو إن تُرك يحرّض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً، فلن يأتي العام 1970 (كما قال الخبير في إدارتكم كيرميت رورفلت) وعرشنا ومصالحنا في الوجود». ثم تتوالى المطالب صريحة بوجوب تقديم دعم لإسرائيل، يمكّنها من القيام بهجوم خاطف وساحق على مصر، على أن لا تسلم سوريا من ذلك الهجوم، وبوجوب أن يؤدّي هذا الفعل الأخير على كلتا الجبهتين إلى احتلال أراضٍ من كلا البلدين، كطريقة وحيدة تجبرهما على تغيير سياساتهما تجاه المملكة وانشغالهما عنها.
التلاقي عينه كان حاصلاً أيضاً مع المملكة الأردنية، وإن كانت هذي الأخيرة أكثر حذراً في تبنّي خيارات الأولى بشكل صريح؛ فالملك حسين كان مدركاً جيداً لخطورة معركة سوف يكون خاسراً فيها، كيفما جاءت النتائج التي ستفضي إليها. ومن المؤكد أن الملك كان قد حاول جاهداً تجنّب تلك المعركة بكل ما أوتي من قوة، وعندما التقى الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان القيادة العربية الموحّدة في قصر «بسمان» في عمان، يوم الأول من أيار / مايو، الذي سبق الحرب، كان قد قال له صادقاً، إنه واثق من معلومات توافرت لديه، وهي تؤكد أنّ فخاً يُنصب لمصر لتحطيم جيشها والخلاص من عبد الناصر، لكنّه وجد نفسه ــــــــ والحرب قائمة لا محالة ــــــــ أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، فهو إما أن يدخل الحرب مكرهاً، وإما أن يقرّر الوقوف على الحياد. الخيار الأول كان سيفُضي ـــــــــ وقد أفضى ــــــــ إلى خسارة الضفة الغربية، بالتأكيد، لعدم وجود قوة عسكرية قادرة على الدفاع عنها. أما الثاني، فقد كان سيفضي، بالتأكيد أيضاً، إلى خسارة عرشه في مواجهة مدٍّ ناصري سوف يتنامى لا محالة في حالتي الكسب والخسارة، فكان أن اختار أهوَن الشرّين الذي تمثل في ذهابه نحو الخيار الأول.
إن نظرة متفحّصة للمناخ العالمي، الذي كان سائداً عشية الحرب، من شأنها أن تؤكد أن النتائج ـــــــــ أو تباشيرها على الأقل ـــــــ كانت شبه محسومة، حتى قبل أن تبدأ المعارك على الأرض، من دون أن يعني ذلك انعدام إمكانية التخفيف من حجم الكارثة، فيما لو استطاعت أعصاب الساسة ـــــــ وكذا العسكر ـــــــ المحافظة على هدوئها وتوازنها، حتى بعد «تحطم الطائرات عند الفجر». ففي الصراعات الحديثة، يلعب الجو العالمي المحيط بها دوراً شديد التأثير، بها وبالنتائج التي يمكن أن تفضي إليها، بل إنّ ذلك الجو قد يكون حاسماً في تحديد هذي الأخيرة، قبيل أن تذهب فوهات المدافع إلى إخراج مقذوفاتها معلنة انغلاق دروب السياسة، وهو ما يمثّل استعصاءً لا يمكن حلّه سوى بالقوة العسكرية. باختصار، كان المناخ العالمي المقود برأس حربة أميركي، في تلك اللحظة، شديد الميل باتجاه ترجيح كفة إسرائيل في مواجهة نظيراتها العربية، والراجح هو أنّ التقديرات عند هذه الأخيرة، كانت تؤكد بشكل جازم أنّ الموقف السوفياتي رامَ بثقله كلّه على الضفة العربية، أقلّه انطلاقاً من حسابات لديها ترى أنّ من الصعب حصول تلاقيات سوفياتية أميركية في تلك اللحظة.
كشف المؤرّخ الأميركي مايكل أورين، في كتابه «ستة أيام من الحرب»، عن وثيقة أفرجت عنها الإدارة الأميركية، في عام 2001، ومفادها أنّ الاتحاد السوفياتي كان يخطّط، منذ منتصف الستينيات، لتوجيه ضربة للسلاح النووي الإسرائيلي الذي كان يرى فيه ركيزة أساسية داعمة للولايات المتحدة، في صراعها الدائر معه إبان الحرب الباردة التي كانت في أوج استعارها آنذاك. ومن أجل ذلك ـــــــ تضيف الوثيقة ـــــــــ أرسلت موسكو إلى مصر طاقم طائرات حديثة، مع طاقم طيارين قادر على أداء مهمّة تدمير مفاعل ديمونا في صحراء النقب، إلا أنّ حافز الهجوم كان قد تناقص ـــــــ ثم تلاشى ــــــــ عند المصريين الذين وجدوا فيه مغامرة غير محمودة العواقب.
هنا ـــــــ ولا نزال في معطيات الوثيقة ـــــــــ بات السعي السوفياتي متمحوراً حول تدفيع القاهرة ثمن تراجعها السابق الذكر، بعدما قرأت موسكو فعل الانكفاء المصري على أنّه وقوف في منتصف الطريق ما بين موسكو وواشنطن. وفي هذا السياق، كان تمرير معلومة إلى القاهرة مفادها أنّ الأقمار الصناعية السوفياتية قد رصدت حشوداً إسرائيلية على طول الحدود السورية ـــــ الفلسطينية. وعندما أصدرت تل أبيب نفيها القاطع لتلك المعلومات، عاودت موسكو من جديد تأكيد معلوماتها السابقة، وعندها أدرك الإسرائيليون المرامي السوفياتية من وراء تسريب المعلومة، ثم إصرارهم على تأكيدها، فمضوا نحو استثمار اللحظة بعدما تأكّد لديهم أنّ المصلحة السوفياتية الراهنة تتمثل في توجيه ضربة ساحقة لمصر وإلحاقها بنظيرة مماثلة لسوريا، بعد تمام الأولى ونجاحها.
يصح اعتبار هذي الوثيقة الأخيرة حلولاً لكلمات متقاطعة كانت عصيّة على الحل قبل خروجها إلى العلن، فقد كان المناخ الدولي برمّته مهيّئاً لحدوث ما حدث فجر الخامس من حزيران / يونيو من ذلك العام، وهي تثبت أنّ الموقف السوفياتي لم يكن ببعيد كثيراً عن نظائره الأميركية والأوروبية والسعودية والأردنية، في دعم هزيمة عربية من شأنها أن تحدث انعطافة كبرى في الشارع العربي، الذي سينفضّ ولا شك عن عبد الناصر ومشروعه القومي، بعد أن يكون بنيان هذا الأخير قد تداعى لصالح بروز قوى كان الغرب يراها ليبرالية، تتبنّى نهجاً أقرب إلى الواقعية السياسية، ويراها السوفيات مقدمة لزوال أنظمة «متطرّفة»، لا يستطيع السيطرة على قرارها، مثل نظام صلاح جديد في دمشق، الذي كان يتبنّى مفهوم «حرب التحرير الشعبية»، المستمد عنده ـــــــ ربما ـــــــ من أدبيات ليون تروتسكي، والمستنير أيضاً ببعض من أفكار ماوتسي تونغ. والراجح، هو أنّ قرار القيادة السورية الانسحاب من مرتفعات الجولان، صبيحة العاشر من حزيران/ يونيو، كان أقرب إلى أن يكون رسالة أريد إيصالها إلى موسكو، وهي تريد إخبار هذي الأخيرة بأنّ الموقف السوفياتي، وفق تراسيمه الراهنة، سوف يضع نفسه في خانة الخاسرين، بل سيؤدي إلى اقتلاع النفوذ السوفياتي من المنطقة برمتها.

*كاتب سوري