من مفارقات هذه الأيام الحُبلى بكلّ أنواع التناقضات والصراعات، هو إصرار الإدارة الأميركية، وهي التي تواجه ما تواجهه من أزمات على كلّ الصعد، وفي كلّ المجالات، على الضغط على دول العالم وشعوبه كافّة لتطبيق «قانون قيصر»، الذي أقرّه الكونغرس الأميركي في أواخر العام الماضي. ويهدف هذا القانون إلى إحكام الحصار على سوريا وشعبها ودولتها، بذريعة حماية المدنيين في هذا البلد، المعروف باستعصائه على الإملاءات الاستعمارية والمشاريع الصهيونية، منذ أن أصبح دولة مستقلّة...أول هذه المفارقات، هو أنّ الإدارة الأميركية التي ضغطت منذ قيام الكيان الصهيوني قبل 73 عاماً، ولا تزال، على الدول العربية لإلغاء كل قوانين ومكاتب المقاطعة لهذا الكيان، الذي لا ينفكّ عن ارتكاب المجازر والجرائم بحق الفلسطينيين وأشقائهم العرب، بحجّة عدم الخلط بين الاقتصاد والسياسة، هي نفسها الإدارة - وإن اختلفت أسماء الرؤساء - التي تضغط اليوم على دول المنطقة والعالم للمشاركة في الحصار الشامل على سوريا، بذرائع متعدّدة عرفنا مثلها يوم حصار العراق تمهيداً لاحتلاله، ويوم محاصرة مصر وكوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية والصين وروسيا والتي كانت شعوب تلك البلدان قبل حكّامها تدفع الثمن، من دون أن ننسى التصريح الشهير لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، حين سُئلت «هل يستحق الحصار على العراق مقتل مليون طفل عراقي؟»، فأجابت «نعم يستحق»...
وثاني هذه المفارقات، أنّ لبنان الذي يسعى للخروج من نفق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والصحية الخانقة التي يمر بها، بات مطلوباً منه أن يُغلق كل أبوب التعاون مع سوريا، وهو الذي يدرك أنّ طوق النجاة له يتمثّل ببناء اقتصاد مُنتج، كما جاء في الخطة الاقتصادية لحكومته العتيدة. وبات يدرك أيضاً أنّ المفتاح إلى قيام هذا الاقتصاد المُنتج، يكمن في توفير سوق عربية وإقليمية لإنتاجه الزراعي والصناعي وللسياحة فيه، وأنّ البوابة إلى ذلك هي سوريا، التي كانت وستبقى بوابة لبنان إلى أمّته العربية والإقليم.
وثالث هذه المفارقات أيضاً، أنّ الإدارة الأميركية التي فشلت في فرض اتفاقية مشؤومة في17 أيار/ مايو ١٩٨٣ والتي رعاها جورج شولتز وزير خارجيتها في أواسط ثمانينات القرن الماضي في محاولة لاستثمار نتائج حرب حزيران/ يونيو 1982 والتي فشلت في حماية حكم نشأ في ظلّ الاحتلال، رغم البوارج الحربية التي أُرسلت (نيوجرسي) والطائرات التي اشتبكت في سماء لبنان مع الطائرات السورية عام 1983 وجنود المارينز الذين جاؤوا ليفرضوا الأجندة الأميركية ـــ الإسرائيلية على لبنان، والتي فشلت كذلك في «استيلاد شرق أوسط جديد» بعد حرب تموز/ يوليو ـــ آب/ أغسطس 2006، كما وعدت حينها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، تسعى اليوم وفي ظلّ ظروف محلّية وإقليمية ودولية متغيّرة لغير صالحها إلى أن تفرض على لبنان الذي رفض، منذ الاستقلال، أن يكون للاستعمار مقرّاً أو ممرّاً إلى أشقائه العرب، أن يكون خنجراً في خاصرة شقيقه التوأم في سوريا التي تبقى علاقته فيها ممتدة في الماضي القريب والبعيد، والمؤثّرة في حاضره السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والشريكة له في بناء مستقبل زاهر للبلدين، كما للأمة كلّها.
والمفارقة الرابعة، أنّ واشنطن العاجزة عن منع ناقلات نفط إيرانية من كسر الحصار على فنزويلا، والعبور إلى البحر الكاريبي أي إلى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة الأميركية، تظنّ أنها قادرة على أن تفرض حصاراً عربياً وإقليمياً وعالمياً على سوريا العريقة، في مواجهة كل أنواع الحضارات منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم...
في ظلّ هذه المفارقات وغيرها، فإنّ لبنان، شعباً وقوى سياسية ومجلساً نيابياً وحكومة، مدعو إلى مواجهة كلّ المحاولات الأميركية الرامية إلى فرض هذا القانون المريب على لبنان، لا من منطلق الروابط والعلاقات الأخوية والقومية التي تربط الشعبين اللبناني والسوري فقط، وهي روابط وعلاقات مميزة، مكرّسة باتفاقيات ناجمة عن «اتفاق الطائف» نفسه، بل حرصاً على مصلحة لبنان الاقتصادية، لدرجة أنّ البعض يعتبر «قانون قيصر» تمّ إقراره ضد لبنان مثلما هو ضد سوريا، وأنه يأتي في إطار الحملة المتصاعدة ضد لبنان، منذ فترة ليست بقصيرة، وهي حملة مرتبطة بالرغبة الإسرائيلية في الانتقام من لبنان، الذي استطاع بشعبه وجيشه ومقاومته، وبالتعاون مع قوى المقاومة في الأمّة والإقليم، أن يُلحق بالكيان الغاصب وبجيشه هزيمتين متتاليتين، ما زالت تل أبيب تعاني من تداعياتهما حتى الآن.
إنّ الموقف من هذا القانون العنصري الإرهابي المعادي لحقوق الإنسان، يتطلّب من كلّ اللبنانيين أيّاً كانت مواقفهم واتجاهاتهم أن يتّحدوا لمواجهته، لأنه قانون يضيّق الخناق على لبنان كما على سوريا، ويُلحق الأذى الكبير بالشعب السوري كلّه، والذي لا أظن أنّ فريقاً سياسياً لبنانياً مستعدّ للمجاهرة بمشاركته في هذا الأذى، الذي يلحق بالبلدين معاً.
ولو وقف القيّمون على أمور هذا البلد لدراسة معمّقة لطبيعة هذا القانون ولطبيعة الظروف والمتغيّرات التي تمرّ بها المنطقة والعالم لأدركوا بكل بساطة أنّ هذا القانون الأحادي الصادر عن دولة واحدة ولا يتمتّع بأي غطاء دولي، لا يتنافى مع الروابط الأخوية والقومية التي تجمع أبناء هذه الأمة فحسب، بل إنه لا يمتلك الحد الأدنى من مقوّمات النجاح، ومصيره لن يكون أفضل من مصير اتفاق 17 أيار، ولا من «شرق أوسط» كونداليزا رايس.
وحين أطلقنا، في بداية التسعينات من القرن الماضي، حملة شعبية عربية في لبنان والوطن العربي ضد الحصار على العراق، وشاركنا في حملات دولية ضد الحصار على العراق، كنّا ندرك أنّ هذا الحصار لم يكن يستهدف نظاماً أو حزباً أو رئيساً فقط، بقدر ما كان يستهدف العراق كبلد عربي محوري في حياة الأمة، بل يستهدف الأمة كلّها من خلال تدمير العراق. وهذا ما أثبتته الأيام.
واليوم، يحاول المستعمرون، والصهاينة من ورائهم، تكرار المشهد العراقي في سوريا، من دون أن يدركوا أنّ ظروف عام 2020 مختلفة كثيراً عن ظروف عام 2003، بل هي نقيضها، فالهيمنة الأميركية على العالم التي كان العراقيون في مقاومتهم للاحتلال أول من ألحق الهزيمة بها، باتت تهتز اليوم، بل إنّ التآكل يحيط اليوم بكل جوانب القوة الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
ومن هنا، فإنّ كلّ من يسعى للترويج لـ«قانون قيصر» أيّاً كانت أسبابه، لا يتصرّف على أساس لا أخلاقي ولا إنساني ولا وطني فحسب، بل أيضاً على أساس لا عقلاني. فمن أجل لبنان قبل سوريا، علينا رفض الإملاءات الأميركية بفرض «قانون قيصر» على سوريا في لبنان، وكلّ دول الجوار المتعاونة مع سوريا وشعبها.
وحتى من منطق النأي بالنفس الذي «يقدّسه» بعض السياسيين، فرضوخ لبنان للقانون الأميركي هو خرقٌ فاضح لهذا المنطق ذاته.
فلا تُدخِلوا لبنان في دوّامة جديدة هو بغنى عنها.
* كاتب وسياسي لبناني