تشهد القضية الفلسطينية، هذا العام (2020)، تطَوُّرَين مِفْصَلِيَّين يُدْخِلان الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي مرحلة تاريخية جديدة، حيث تَمثَّلَ التطوّر الأول بإعلان حكومة الاحتلال، بشكل عملي، إنهاء اتفاق أوسلو ومغادرة ما يمكن تسميته «لعبة» أو بالأحرى «خديعة» عملية السلام، وذلك عبر قرارها فرض سيادتها على المستوطنات في الضفة، وعلى كامل أراضي القدس المحتلّة؛ وكذلك تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن عزمه تطبيق (النظام الإسرائيلي) على أراضي (يهودا والسامرة) بحيث يشمل كل أراضي الضفة الغربية. أمّا التطور الثاني، فتمثّل في إعلان «منظمة التحرير الفلسطينية» الخروج من اتفاقية أوسلو، وكل الاتفاقيات المترتّبة عليها، بما فيها الاتفاقيات الأمنية أو ما يصطلح عليه بـ«التنسيق الأمني» مع حكومة الاحتلال، ومع الولايات المتحدة الأميركية على حدّ سواء. هذان التطوران المهمّان يُلقيان على صانع القرار الفلسطيني المسؤولية في أن يؤسّس عليهما بما يستلزِمانه في كل من الميدان والسياسة.
ملصق للفنان الروسي بوريس إيفيموف (1900 - 2008)

بدايةً، فإن الفصائل الفلسطينية مدعوّة للكفّ عن التنابذ في ما بينها وبين السلطة الفلسطينية بتصريحات الإدانة، فالوقت في هذه المرحلة أثمن من أن يُهدر في تسجيل النقاط، بغضّ النظر عن جدارتها. صحيح أنّ إعلان السلطة الفلسطينية الخروج من أوسلو جاء متأخراً، ومن الصحيح أيضاً أنّ الزمن سيحكم على جدية قرار وقف التنسيق الأمني، الذي بدوره لن يكون جذرياً إلا عبر مدى مقدرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس على فرضه على أرض الواقع، وعبر تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، لكن عملاً بمقولة أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً، يوجب على كلّ المنظمات الفلسطينية، «فتح» وفصائل «منظمة التحرير» و«حماس» و«الجهاد»، مع الباقين، البناء على قرارات السلطة على أنها واقع، والتقاط هذه اللحظة المفصلية التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، والبدء فوراً بالتأسيس لاستراتيجية عملية تفضي إلى تزخيم الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، فتكون انتفاضة شاملة ومتصاعدة، بنَفس طويل، فلا تتوقف حتى فرض الانسحاب الإسرائيلي الكامل من دون قيد أو شرط من كل الأراضي المحتلّة عام 1967. ويجب أيضاً عدم تشتيت الأفكار والجهود، من خلال الخوض في أيّ أطروحات لحلول نهائية في المرحلة الحالية، فليُغادر الاحتلال أراضي 1967 أولاً، وبعدها يكون لكلّ حادثة حديث.
هناك شبه إجماع في الأوساط السياسية، على أنّ العالم اليوم يمرّ في مرحلة سيولة تتجلّى في تحوّلات جوهرية في النظام العالمي، وتقلّبات في التوازنات الحاكمة على المسرح الدولي. وفي ظلّ هذه المراحل التاريخية من عمر البشرية، تتمكّن القوى على الساحة الدولية من الولوج بين التناقضات، وتُتاح لها فرصة فرض وقائع جديدة ملموسة على الأرض، يصعب فرضها في حالة السكون النسبي التي تسود العالم في معظم الأوقات. إن قانون التحولات التاريخية هذا يسري على الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، كما هو في باقي النزاعات الدولية، فلا فرق فيه بين عربي وأعجمي.
إنّ القراءة الحصيفة لواقع العقْدين المنصرمين، وقراءة التطوّرات على الساحات الدولية والإقليمية والفلسطينية، تُفضيان إلى أنّ دحر الاحتلال عن أراضي 1967 من دون قيد أو شرط، بات هدفاً واقعياً قابلاً للتحقيق ضمن موازين القوى الحاكمة حالياً. فالظروف الحالية تختلف بشكل جوهري في نواحٍ عدّة، عن الظروف التي كانت سائدة وقت انتفاضتي عام 1987 وعام 2000، وهذا من شأنه أن يتيح إمكانية تحقيق الانتفاضة الثالثة، إنجازاً يفوق ما حقّقته الانتفاضتان السابقتان مجتمعتين، في حال حُسن التصرّف، هذه الظروف الراهنة المستجدة يمكن تفصيلها على ثلاثة مستويات:
1 ــــــ الظرف الدولي: لم يكن ما يسمى بالمجتمع الدولي ـــــــ وهو في الحقيقة مجموع دول العالم الغربي الاستعمارية ـــــــ إلّا ضاغطاً على الشعب الفلسطيني وقواه، وعائقاً أمام نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه وإنجاز التحرير، فلذلك تُعدّ أي انكفاءة لهذا المجتمع الدولي فرصة للقوى الفلسطينية مجتمعة، بأن تغيّر وقائع وتُبَدِّل حقائق على الأرض في غمرة هذه الانكفاءة، فالدول الغربية اليوم والعالم يعيشان بدايات ركود اقتصادي حاد يُحتمل أن يتحوّل إلى انهيار اقتصادي على غرار الأزمة الاقتصادية عام 1929، وهذا من شأنه أن يُحدِث اختلالاً في التوازنات الدولية، وسيُجبر الدول على التركيز في شؤونها الداخلية. إنّ نظرة سريعة لما هو عليه حال الاتحاد الأوروبي، اليوم في ظلّ انسحاب بريطانيا منه، وتبعات أزمة «كورونا» عليه، تعطي انطباعاً عن قادم الأيام، فحتّى كتابة هذه السطور مثلاً، لم يستطع الاتحاد الأوروبي الخروج بموقف موحّد تجاه «صفقة القرن»، بسبب غياب الإجماع بين أعضائه وفقدان القيادة.
يبقى العامل الأميركي الحاسم من بين العوامل الدولية، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه يصحّ التعامل مع الأميركي ومع كيان الاحتلال كوحدة حال، فالتأطير الصحيح أنّ الثاني هو امتداد عضوي وانعكاس للأول. إنّ الولايات المتحدة الأميركية تمرّ في هذه الحقبة بأوضح مراحل تراجعها في قيادة العالم منذ حين، وذلك لأسباب موضوعية، فقد أخفقت الولايات المتحدة الأميركية في هجومها الاستراتيجي، منذ حرب أفغانستان عام 2001، في تحقيق أي نتائج حقيقية يمكن أن تُوظَّف في السياسة، سواء أكان عبر الحروب العسكرية المباشرة أم عبر حروبها بالوكالة من قبل كيان الاحتلال، أم من قبل منظمات أخرى كـ«داعش» و«القاعدة». تلك الحروب التي خاضتها، خلال العقدين المنصرمين، في منطقتنا «منطقة غرب آسيا»، كانت إخفاقاً، وذلك باعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذاته. وقد أتاحت هذه الإخفاقات لأقطاب دولية، مثل الصين وروسيا، فرصة الصعود واحتلال مكانة متقدّمة على المسرح الدولي، إذ باتت تنافس ــــــ بشكل جدي ــــــ الهيمنة الأميركية في ساحات دولية عدّة، ولا يجوز هنا إغفال حقيقة أنّ هذه الإخفاقات العسكرية كانت نتيجة مباشِرة لإنجازات قوى مقاوِمة متأصّلة في منطقتنا، سواء أكانت في غزة أم جنوب لبنان أم سوريا أم العراق أم حتى أفغانستان. تلك الإخفاقات أجبرت الأميركي على تغيير إستراتيجيته، والرجوع خطوة إلى الوراء نحو الاعتماد على العقوبات الاقتصادية، لكنّ الجوهري في الأمر يكمن في اتخاذ الأميركي قراراً بالانسحاب العسكري من منطقة غرب آسيا، أو على أقل تقدير تخفيض وجوده العسكري فيها، لما هو دون المستوى العَمَلاني، وهذا ما كان قد بنى عليه ترامب جلّ برنامجه الانتخابي، كما أنّه من المرجّح أن مستجد «كورونا» سيُعجِّل في تنفيذ هذا القرار، بسبب تزايد الأعباء على الداخل الأميركي مع وصول عدد العاطلين عن العمل إلى أكثر من 30 مليون شخص إلى الآن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التغيير في السياسات الأميركية تجاه منطقة غرب آسيا، لم يبدأ مع الرئيس ترامب، فلقد كانت إرهاصات هذا التحوّل قد ظهرت في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ما أدى إلى بدايات حدوث فراغ إستراتيجي في المنطقة، الأمر الذي أفضى بدوره إلى صعود قطبين في الإقليم هما إيران وتركيا. هاتان الدولتان سعتا، ولا تزالان تسعيان، إلى سدّ هذا الفراغ الاستراتيجي الناشئ، الذي خلّفه الأميركي، ولا يخفى على القارئ أن هذا التحوّل من شأنه أن يخلق وضعاً مغايراً كلياً لِما كان عليه وضع المنطقة في السابق.
إنّ القراءة الحصيفة لواقع العقْدين المنصرمين تُفضي إلى أنّ دحر الاحتلال عن أراضي 1967 بات هدفاً واقعياً قابلاً للتحقيق


يتّضح أنّ كلّ هذه التحوّلات الدولية هي ذات طابع استراتيجي بامتياز، فلا يستقيم من صانع القرار الفلسطيني، سواء أكان «منظمة التحرير الفلسطينية» أم باقي المنظمات الفلسطينية، إهمالها وعدم الإفادة منها عند صياغة استراتيجية جديدة تتناسب والمستجِدّات، استراتيجية تلتقط اللحظة التاريخية، وتفيد منها من أجل تحقيق الهدف المنشود.
2 ـــــ الوضع الإقليمي: لقد هبط كيان الاحتلال من المركز الذي كان يحتلّه منذ نشأته في الاستراتيجيا لدى القوى الاستعمارية والولايات المتحدة الأميركية، من حيث كونه قيمة مضافة إلى كونه عاملاً مساعداً، بالرغم مما لا يزال يملكه من قوة نارية كبيرة وعتاد عسكري متقدم. هذا كان نتيجة مباشرة لإخفاقاته المتتالية في وظيفته العضوية، وفي أصل وجوده كمخفر متقدّم في المنطقة لرعاية مصالح القوى الاستعمارية، وضابط لإيقاع المنطقة على هوى تلك القوى. لقد كانت باكورة إخفاقات كيان الاحتلال الفاقعة، وهزائمه العسكرية هي اندحاره الذليل من جنوب لبنان، من دون قيد أو شرط في عام 2000، وانسحابه بعد ذلك من قطاع غزة مهزوماً من دون قيد أو شرط أيضاً، وتتالت بعدها الهزائم في عدوانه على لبنان في حرب تموز 2006 وعدوانه على قطاع غزة المحاصر عام 2008 ـــــ 2009 وعام 2012 وأيضاً في عام 2014. ففي كل هذه المعارك، لم يستطع كيان الاحتلال تحقيق أيٍّ من أهدافه المعلنة، ولا حتى المضمرة منها، فقد أخفق في:
أ. الاحتفاظ بأراضٍ كان قد احتلّها سابقاً.
ب. توسيع دائرة احتلاله والسيطرة على أراضٍ جديدة.
ج. تحييد القوة المعادية وإزالة خطرها عبر سحقها كلياً، أو تدمير بنيتها العسكرية، بالقدر الذي لا تعود تشكل معه خطراً أو تحدياً استراتيجياً.
د. إضعاف الخصم وإنهاكه بالقدر الكافي الذي يصبح معه من الممكن فرض إرادته السياسية عليه.
بل على العكس، فقد فشل كيان الاحتلال في كل تلك المعارك في تحييد جبهته الداخلية عن الصراع، كما كان الحال عليه في سنوات خلت، وباتت جبهته الداخلية ومستوطَناته مع منشآته العسكرية المتأخّرة والمحصّنة جزءاً أساسياً من المعركة، بفضل التطوّر النوعي في صواريخ حركات المقاومة، وبفضل الأسلحة الكاسرة للتوازن التي باتت بحوزتها، وأيضاً بفضل التطوّر النوعي في تكتيكات حركات المقاومة العسكرية وإبداعاتها في نظرية الحرب غير المتكافئة، ناهيك بالقدرة البشرية المحترفة والروح القتالية العالية لمقاتلي تلك الحركات، وهذا هو الأساس في كسب أي معركة.
إننا نجد في التجارب العسكرية العملية، في العقدين المنصرمين، إثباتاً حسّياً على تراجع قيمة جيش كيان الاحتلال من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية على حدّ سواء. فهو غير قادر على القيام بعمليات ذات طابع تكتيكي تؤدي إلى نتيجة استراتيجية، ولا عاد قادراً على إلحاق هزيمة بائنة بعدة جيوش عربية على أكثر من جبهة في ستة أيام. ولم يعد الفاصل بينه وبين أي عاصمة عربية هو سرعة الدبابة، بل نجد أنه بات يبحث عن معارك استرداد الهيبة، وهذه هي أبرز علامات الأفول لدى الجيوش (الحضارات) على حد قول ابن خلدون.
هذا الوضع من التراجع، الذي وصل إليه كيان الاحتلال في الإقليم، يزداد تفاقماً مع مرور الأيام، فها هي سوريا على طريق استرداد أراضيها بشكل كامل، ولقد بات لديها جيش متمرّس في كلّ صنوف القتال، ويمتلك سلاحاً روسيّاً نوعيّاً وحديثاً. وبفضل سنوات الحرب ــــــ إن كان لها أي فضل ــــــ أصبح الجيش السوري مع قوات حزب الله والحرس الثوري الإيراني، بمثابة وحدة واحدة، تتبع لغرف عمليات مشتركة، وبات يوجد على تخوم جبهة الجولان المحتل هذا المزيج من القوات المحترفة، الذي يشكّل عامل ضغط حقيقي على كيان الاحتلال. إن كلّ قيادات كيان الاحتلال السياسية والعسكرية، تأخذ هذا التطوّر على أقصى درجات الجدية (التواجد الإيراني في سوريا) بحسب تصريحاتهم، ونجد أنّ الدولة السورية ولغاية الآن، لم تتجاوب مع الرغبة التي أبداها كيان الاحتلال للأمم المتحدة، بإعادة تفعيل العمل باتفاقية «فكّ الاشتباك 1974»، وعودة قوات الـ«يوندوف» إلى الحدود، ما يبقي الوضع مفتوحاً على كل التطوّرات في تلك الجبهة، ولا يبدو أن كيان الاحتلال سيتخلّص من هذا الظرف الإقليمي الضاغط المستجد في الوقت المنظور على أقل تقدير.
أما على جبهة جنوب لبنان حيث حزب الله، فلا داعي إلى تفصيل ما لا يحتاج إلى تفصيل، وتكفي العودة إلى مخرجات مؤتمرات «هرتسيليا» في السنوات الماضية، التي صنّفت حزب الله على أنه خطر استراتيجي على حدود فلسطين المحتلة (حدود إسرائيل). هذا التطوّر الإقليمي مستمر، ويتعاظم في القدرة البشرية والتسليحية كمّاً ونوعاً منذ عام 2000، وحزب الله هو من يصح فيه القول بكل موضوعية بأنه القيمة المضافة لدى قوى محور المقاومة.
ويبقى العامل الإيراني هو العامل الحاسم من بين العوامل الإقليمية، فإنه يتّضح للمتابع أن إيران هي قاطرة لمحور إقليمي صلب ومتفاهم في ما بينه، على الأهداف الاستراتيجية بوضوح. ويوصف هذا المحور بالجدية والقدرة، وهو يجيد استغلال نقاط ضعف العدو، كما يحسن اكتشاف الثغرات، ويُتقن توظيف موارده إلى الحد الأقصى، حتى لو كان لديه قصور في أي من تلك الموارد. ومن مزايا هذا المحور أيضاً، أنه يدرس الأخطار بعناية، والأهداف المرجوّ تحقيقها بدقة قبل الدخول في أي معركة، بحيث لا يخوض معارك تسجيل نقاط، أو يدفع أيّاً من أركانه لخوض معارك محكوم عليها بالفشل، أو أن يقوم بمواجهات انتحارية.
إنّ قوة إيران في تعاظم مطّرد على كل المستويات، والمتتبّع لصعود نجم إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 حتى الآن، يلحظ أنها قد تجاوزت كونها خطراً وجودياً على كيان الاحتلال فحسب، بل صارت حجر توازن في الإقليم في مواجهة داعم كيان الاحتلال الأول، الولايات المتحدة الأميركية. إنّ إيران في صيغتها الحالية تعدّ رافداً محورياً لنضال الشعب الفلسطيني، وهي بحسب أدبياتها مستعدة للذهاب إلى النهاية في دعم أي استراتيجية مبنية على المقاومة تجترحها الفصائل الفلسطينية في ما بينها، تمكّنها من الوصول إلى هدف إجبار كيان الاحتلال على الانسحاب من دون قيد أو شرط من كامل الأراضي المحتلّة عام 1967. يجوز في هذا المضمار، النظر إلى ما تقدّمه إيران إلى كلّ أطياف فصائل المقاومة في غزة، من دعم غير محدود أو مشروط، في التسليح الكمّي والنوعي وتقنيات التطوير والتصنيع العسكري، بالإضافة إلى التدريب العسكري ودورات الأركان، ومشاركة الخطط العسكرية، حتى باتت لدى فصائل المقاومة في غزة قوة عسكرية يعتدّ بها. وأما بخصوص الدعم المادي والإنساني فهذا تحصيل حاصل.
لا يوجد أي مبرّر كي يتحسّس أي فصيل فلسطيني من الدعم الإيراني، فإيران ليست معنية بالشأن الداخلي الفلسطيني. وبحسب استراتيجيتها، فهي جاهزة لدعم أي فصيل فلسطيني مستعد لرفع راية مقاومة الاحتلال، بغضّ النظر عن أيديولوجية ذلك الفصيل، وليس هذا من باب نكء الجراح، وإنما من باب سرد الوقائع، فقد صدر على لسان قمة هرم السلطة في إيران، أنه قد حان الوقت لتسليح الضفة على غرار غزة. جاء هذا التصريح على لسان المرشد الأعلى، خلال خطاب رسمي وعلني منذ فترة ليست بالبعيدة، ومذّاك الحين كان العائق الأساسي أمام تفعيل هذا التوجّه الإيراني وجود التنسيق الأمني، فإن من لم يعدم الوسيلة في إيصال السلاح إلى داخل قطاع غزة المحاصر حصاراً خانقاً، لن يعدم الوسيلة في الضفة.
3. الظرف الداخلي الفلسطيني «قلعة فلسطين»: لقد وصلت حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» مع باقي فصائل المقاومة في غزة، إلى قدرٍ من الثقل والمرونة في الميدان توازي فيه مرتبة حجر القلعة على رقعة الشطرنج في الاستراتيجية، بل تعادل القلعة في وضعية Connected Rooks. ومهما بلغت التباينات بين الفصائل الوطنية الفلسطينية، مع فصائل المقاومة في غزة في بعض التكتيكات، أو في مسائل أخرى داخلية، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن المقاومة في غزة باتت تشكّل للشعب الفلسطيني قوة عسكرية ضاربة حقيقية وازنة يُبنى عليها، وهي قادرة على ترجيح الكفة وتعديل مسارات الأحداث في الصراع. وأضرب مثالاً على ما وصلت إليه فصائل المقاومة في غزة من اقتدار، فإننا نجد جنوداً إسرائيليين أسرى لدى حركة «حماس» في غزة منذ زهاء ست سنوات، وعلى رغم ذلك لم يستطع كيان الاحتلال القيام بعملية عسكرية حاسمة لاسترداد أسراه، ولا هو قادر على تحريرهم عبر عملية خاطفة خلف خطوط العدو بالاعتماد على قواته الخاصة «الكوماندوز»، لأنّه على الأرجح لن يكون مصير تلك القوات الخاصة مغايراً لما آل إليه مصير قواته في عملية «حد السيف» في خان يونس، عام 2019، وما هذا إلا شاهد من شواهد عدّة.
صحيح أنه توفّر للشعب الفلسطيني قوة عسكرية مماثلة بقدر ما في الماضي، كما كان الحال عليه في الأردن في ستينيات القرن الماضي، وفي لبنان في سبعينيات القرن الماضي، لكنّ هذه هي المرة الأولى منذ عام 1948 التي يمتلك فيها الشعب الفلسطيني ما يقارب الجيش، من حيث التنظيم والقدرة العسكرية، وفي داخل أرض فلسطين، وفي هذا لفارق أساسي.
وآخر ما تجدر الإشارة إليه في الظرف الداخلي، أنه بات من المُلح الخروج من حالة المراوحة في الوضع الفلسطيني، لأنه فعلياً لم يَعد لدى الفلسطينيين أي شيء يختلفون عليه داخلياً، خصوصاً في ظلّ التطورات الأخيرة. فالسلطة في رام الله تجد نفسها في أسوأ ظروفها، نتيجة التضييق من قبل الأميركي ومن قبل كيان الاحتلال عليها اقتصادياً وسياسياً، وهي كسلطة لم يتبقَّ لديها فعلياً أي أرض لتفرض سلطتها المفترضة عليها، ناهيك عن استباحة جيش الاحتلال الدائم لأراضي الضفّة. أما بالنسبة للحُكم في غزة، فهو يرزح تحت حصار خانق والأوضاع الإنسانية في القطاع جدّ صعبة، ومحاولات فكّ الحصار لم تأتِ بنتائج حقيقية إلى الآن. إنّ الخروج من حالة المراوحة هذه، ليس لها إلا طريق واحد، وهو الاشتباك الحقيقي والمباشر مع الاحتلال، وليس عبر مؤتمرات دولية لم ولن تقدّم أي حلول مستدامة، أو تعيد حقوقاً مغتصبة وذلك بالتجربة العملية.
بالإضافة إلى كل الظروف الآنفة الذكر، فإنّ هناك جملة ظروف أخرى ليست على القدر نفسه من الأهمية، لكن بالتأكيد يمكن للمنظمات الفلسطينية الإفادة من التقاطعات معها، من ذلك ما تقدّمه تركيا من دعم لبعض المنظمات الفلسطينية في القضايا الإنسانية، وعلى درجة أقل في السياسة، وأيضاً القلق الأردني الجدّي والمشروع من نتائج ضمّ مستوطنات الضفّة والقدس على كيان الدولة الأردنية، ووصاية العرش على الأماكن المقدّسة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
مجموع هذه الظروف المتغيّرة على الساحات الدولية والإقليمية والفلسطينية، من شأنها أن تنقل الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي إلى بيئة مغايرة في توازناتها، عمّا كان الحال عليه في حقبة ماضية. هذه التوازنات المستجدّة تصب كلّها في مصلحة الشعب الفلسطيني، وتدعم فرصه في تحقيق إنجازات على أرض الواقع، فهي من جهة تضع بين أيدي الشعب الفلسطيني أوراق قوة فعالة يمكنه البناء عليها، ومن جهة أخرى تُضعف كيان الاحتلال وتضعه في بيئة استراتيجية معقّدة، يجد نفسه فيها محاطاً بقوى مقاوِمة فتية وصاعدة، لم تتوقف منذ عقدين من الزمن عن مراكمة الإنجازات تلو الإنجازات في الميادين. إنّ أي قراءة لا ترى هذه المتغيّرات من حولها، هي قراءة متكلّسة ترقب بعين الماضي، وليست قادرة على مواكبة العصر. إنّ قيادات كيان الاحتلال تدرك كل هذه المتغيّرات، فمراكز أبحاثه مليئة بالدراسات التي تتحدّث عن المأزق الإستراتيجي الذي يجدون أنفسهم فيه، وتنامي المخاطر الوجودية من حولهم بحسب توصيفاتهم هم، فهذا الكيان قد دخل طور الشيخوخة والترف، ولم يعد شعبه ولا جيشه مستعداً للتضحية أو القتال. وحكومة الاحتلال في إقدامها على خطوة الضم، إنّما تسعى لفرض واقعٍ جديد على الأرض محاولةً بذلك استغلال حالة السيولة الحاصلة في الوضع الدولي، كغيرها من باقي اللاعبين على مسرح الأحداث، لكنّ رهانها على نجاح خطوتها وعدم تحوّلها إلى وبالٍ عليها مبني على فرضية سوء تصرّف المنظمات الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني قد تشرّب الهزيمة، وفقد الأمل في التحرير. إنّ هذا رهان خائب، لأن الشعب الفلسطيني وقواه الحية في أوج عطائها، والانتفاضة بدأت مبكرة، ولا ينقصها إلا التأطير والتزخيم، فالضفة تغلي وغزة تغلي بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية جراء الحصار، وانسداد أي أفق سياسي، وهذا الغضب يجب أن يُستَغل ويُوَجَّه نحو الاحتلال؛ فهو بيت الداء وأصل البلاء.
الانتفاضة الثالثة قادرة، بدون شك، على فرض الانسحاب من دون قيد أو شرط عن أراضي 1967 ضمن الظروف الراهنة، ودليلنا على ذلك أنّ الاحتلال لم يصمد سوى أيام معدودات أمام انتفاضة كاميرات الأقصى الأخيرة، قبل أن يُجبر على التراجع. واستغرق فرض الانسحاب على الاحتلال من جنوب لبنان 18 عاماً، واستغرق إجباره على الانسحاب من قطاع غزة بعد ذلك خمسة أعوام فقط، وسيكون فرض الانسحاب عليه من أراضي الضفة على الأغلب خلال مدّة زمنية أقصر لطبيعة الأمور. إنّ إستراتيجية الانتفاضة المستمرّة والمتصاعدة، التي تفيد من كل أوراق القوة المتاحة للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى الظروف المستجدّة، هي استراتيجية قابلة للتطبيق، وتضع الصراع ضمن سياقاته التاريخية وهي تأخذ بالحسبان تطوّرات الواقع.
وختاماً، فإن الشعب الفلسطيني لا تُعوِزه دروس في الشجاعة والصمود، ولا تنقصه العزيمة والقدرة على ابتكار أساليب مقاومة الاحتلال، فهو أيقونة العصر في الكفاح ضدّ المحتل.

*كاتب وباحث فلسطيني