لم يكن اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، عبر تفجير الحوامة التي كانت تنقله من عرينه طرابلس إلى عاصمته بيروت، مجرّد عمل إجرامي استهدف زعيماً كبيراً من زعماء لبنان فحسب، بل استهدف رئيس حكومة لبنان لعدّة مرات منذ بداية خمسينيات القرن الفائت، ولا سيّما في المحطّات الحساسة من تاريخه فقط، بقدر ما كان اغتيالاً لوحدة لبنان والتي دأب الرئيس الشهيد على العمل من أجلها في كل الظروف، وأياً كان موقعه داخل السلطة أو خارجها، بل كان اغتيالاً لعروبة لبنان وقد كان يعتزّ الرشيد بإيمانه بها وبالسعي إلى ترجمة التزامه بها في المجالات كافة.وللرئيس الشهيد في حياته السياسية الممتدّة من مطلع خمسينيات القرن الفائت (بعد رحيل والده أحد أبطال الاستقلال الرئيس عبد الحميد كرامي، حتى أواخر ثمانينيات ذلك القرن (01/06/1987) حين اغتالته يد آثمة كانت تعتقد واهمة أن بإمكانها تقسيم لبنان عبر تصفية رموز وحدته وقواه الوطنية المخلصة) وقفات لبنانية وطنية وعربية قومية عديدة جعلته قامة شامخة في حياة وطنه، ومنارة مضيئة في درب آلامنا الطويل.
لكني بين تلك المحطات العديدة التي بات يعرفها اللبنانيون والعرب عموماً، وأبناء طرابلس والشمال خصوصاً، أودّ أن أتوقف أمام محطّة نضالية مهمة لم تسلّط الأضواء كثيراً عليها، وهي حادثة «مدرسة الاليانس» في محلة وادي أبو جميل في أواخر آب 1983، حين حاولت قوى السلطة يومها أن تُخرج بالقوة عدداً من العائلات المهجّرة من الجنوب من تلك المدرسة المهجورة أصلاً، فتصدى لها أهل العاصمة بكل مشاربهم وقاموا بما اعتبره كثيرون الانتفاضة الأولى، قبل انتفاضة 6 شباط 1984 بأشهر.
ربما كانت السلطة تريد من خلال استعراض قوتها في إخلاء مدرسة قديمة للجالية اليهودية في محلة أبو جميل أن تقوم بمبادرة «حسن نية» للكيان الغاصب الذي يدّعي تمثيل اليهود في العالم، وأرادت أن تُحدث شرخاً في الصف الوطني والإسلامي، خصوصاً بعد الوحدة الرائعة التي تجلّت في صلاة العيد في الملعب البلدي والتي أمّها المفتي الشهيد حسن خالد وشاركت فيها قيادات إسلامية، روحية وسياسية، من كل المذاهب.
يومها تعاملت السلطة مع تلك الانتفاضة بقسوة غير مبرّرة، وجرى قصف «رسمي» لبيروت «الغربية» والضاحية في محاولة لاستفراد المنتفضين وإظهارهم كحالة صغيرة معزولة عن بقية اللبنانيين.
وفي ذلك اليوم كنت في طرابلس، اتصل بي، من مكتب الأستاذ نبيه بري رئيس حركة أمل، المحامي والمناضل خليل بركات وهو العضو المؤسس في تجمع اللجان والروابط الشعبية وأمين سر مؤتمر رؤساء البلديات والمخاتير في الجنوب، وأبلغني أن هناك نية لحركة أمل والقوى الوطنية لإعلان إضراب وطني عام تضامناً مع انتفاضة بيروت، كما استنكاراً لقمع السلطة. وسألني عن إمكانية تجاوب طرابلس والشمال مع هذه الدعوة.
قلت للرفيق خليل: اعتقد أن الإمكانية كبيرة وسأعرض الفكرة على الرئيس رشيد كرامي كزعيم وطني كبير في طرابلس والشمال، وكرئيس لهيئة التنسيق الشمالية التي كانت تضمّ ممثلين عن كل الأحزاب والقوى الشمالية.
بالفعل توجهت مع رفيقيّ العضوين المؤسسين في تجمع اللجان والروابط الشعبية أ. غازي أدهمي (أمين سر هيئة التنسيق يومها)، وأ. فيصل درنيقة رئيس المنتدى القومي العربي في الشمال (اليوم)، والفاعل في الأوساط الشعبية الطرابلسية.
لم نكن نحتاج إلى وقت لإقناع الرئيس الشهيد رشيد كرامي بالدعوة إلى إضراب في طرابلس والشمال، فقد تحمّس للفكرة منذ اللحظة الأولى، وأجرى اتصالات مع بعض أركان هيئة التنسيق وطلب من الأخ غازي إعداد بيان باسم الهيئة يدعو فيه إلى الإضراب الشامل في طرابلس والشمال ليوم واحد.
وفي اليوم التالي كان الإضراب شاملاً في طرابلس والشمال، وأعرب لي الأستاذ (الرئيس في ما بعد) نبيه بري عن ارتياحه الشديد لنجاح هذا الإضراب الذي لم يكن مجرّد فعل تضامني مطلوب مع انتفاضة وادي أبو جميل فحسب، بل كان أيضاً فعلاً وحدوياً بامتياز أسقط رهان البعض على إمكانية استفراد منطقة أو فئة أو جماعة لبنانية وعزلها عن الآخرين.
أعطى الرئيس الشهيد رشيد كرامي بوقفته الشجاعة يومها درساً لزعماء لبنان بأن يكون الواحد منهم لكل الوطن، وليس لفئة دون أخرى، وأن يدرك أن ما يصيب جزءاً من أهل البلد إنما يصيب البلد كله.
طبعاً لم يكن الرئيس كرامي وحده في هذا الموقف، بل كانت مواقف مماثلة للرئيس الراحل سليمان فرنجية، وللأستاذ وليد جنبلاط، وللرئيس سليم الحص (أطال الله عمره)، وللمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد والشيخ الراحل عبد الحفيظ قاسم، والقادة الناصريين في بيروت كمال شاتيلا وإبراهيم قليلات، ومنير الصياد، والدكتور سمير الصباغ، وغيرهم من قادة القوى الوطنية والقومية والتي يمكن اعتبارها معبراً مهماً نحو انتفاضة 6 شباط وإسقاط اتفاق 17 أيار.
في ذكرى استشهاد الزعيم الوحدوي الوطني والعربي رشيد كرامي، شعرت من واجبي أن أستحضر تلك الحادثة التي لا تؤكّد سلامة خط الرئيس الشهيد والرشيد فقط، بل التي تؤكّد كذلك أن أبناء طرابلس والشمال هم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن، ومن هذه الأمّة، وأنهم متلاحمون مع كل جراح الوطن والأمّة. وربما هذا الذي يفسر أسباب الحرمان والإهمال اللذين تعرضت لهما عاصمة الشمال منذ الاستقلال وحتى اليوم، بل يفسّر المحاولات المستمرة لاغتيالها، وإغراقها في بحار من الدم والدمار، كما اغتالوا الشهيد الكبير رشيد كرامي قبل ٣٣ عاماً.. ويحاولون انتزاع تلك الجريمة من ذاكرة اللبنانيين... وطمس نهج الرئيس الشهيد.