كلّ من كتب في الموضوع الفلسطيني رداً على ما يجري من سياسات ضمّ للقدس ومناطق من الضفة الغربية، بمعنى المقاومة والمواجهة، وكلّ من عنده تقدير بتغيير ميزان القوى في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني، ويقول مثلاً أصبحنا أقرب إلى القدس من أيّ يوم مضى، ووصولاً إلى خطابَي السيد الإمام الخامنئي والسيد حسن نصر الله في مناسبة يوم القدس العالمي... كلّ هؤلاء، في مقالة حازم صاغية في «الشرق الأوسط» (24 أيّار/ مايو 2020)، تعليقاً على ملف «الأخبار» في ذكرى النكبة: «72 عاماً على النكبة: فلسطين عصيّة على الاقتلاع» (15 أيار/ مايو 2020)، كلّ هؤلاء يعيشون في كوكب آخر غير كوكبنا. لكنّه في آخر مقالته، يستثني كاتبين عربيين يعيشان على كوكبنا.
منال خضر مجسّدةً دور النينجا الفلسطينية في فيلم إيليا سليمان «يد إلهيّة» (2002)

الكاتب الأول فلسطيني محمد شحادة، «وهو يعرف عمّا يتحدث. يكتب في «هآرتس» الإسرائيلية: إن المخاطر الجدية لما يلوح من ضمّ إسرائيلي لا تعوزنا إلى توكيدها. ففي مجرد تنفيذ الضم رسمياً سيكون من شبه المستحيل على أي حكومة إسرائيلية في المستقبل أن تتراجع عنه أو أن تلغي ما ينشأ عنه من ضرر». ويتابع: «لكن (محمد شحادة) يلاحظ أن القادة الفلسطينيين من محمود عباس إلى حماس لا يملكون أيّ إستراتيجية في مواجهة الضمّ والإلحاق، وأن أيّ استجابة فلسطينية متعثّرة، أو فصائلية أو عديمة التماسك ستحقق أحلام التوسعيين الإسرائيليين».
لنلاحظ هنا على الكاتب الذي من كوكبنا، والذي يعرف عمّا يتحدث:
هو ليس بحاجة إلى تبيان «المخاطر الجدية» لما يلوح من ضمّ إسرائيلي، لأنها ليست بحاجة إلى «توكيد». ولكنها «مخاطر جدية». على من؟ لأن هنالك من الصهاينة والمسؤوليين الأوروبيين والأميركيين مَن يحذّر من مخاطر الضمّ وأضراره على الكيان الصهيوني. وهنالك مَن يعتبر مثل محمد شحادة أن تنفيذ الضم رسمياً، يمنع أي حكومة إسرائيلية في المستقبل من أن تتراجع عنه، أو تلغي الضرر الناشئ عنه. يعني أن الوجود على كوكبنا يقتضي التسليم بهذا الضمّ، لكي يكون عارفاً به يجب أن يصفه باستخدام عبارتَي المخاطر الجدية والضرر. لهذا يجب ألاّ يُسمّى: اغتصاباً، مثلاً، أو فعلاً مخالفاً للقانون الدولي، أو استيلاء على أملاك الغير وحقوقهم، أو عملاً إجرامياً، فهذا شأن من يسكنون في كوكب آخر.
ولكن في المقابل يحذر محمد شحادة من «أن القادة الفلسطينيين لا يملكون أيّ استراتيجية في مواجهة الضمّ والإلحاق». يفترض بهذا الرأي أن يدخل في المعقول والواقعي، مقابل كلّ الذين يتكلمون من كوكب آخر، وتنتسب آراؤهم إلى اللامعقول واللاواقعي. ما هذه «الإستراتيجية» التي لو امتلكها القادة الفلسطينيون لمنعوا الضمّ؟ كيف يمكن لاستراتيجية أن تمنع الضمّ؟ الضمّ لا يمنعه إلا القوة القادرة على منعه، أو الحجة، أو الخطة، «المعقولة» التي تُقنع نتنياهو بعدم الذهاب إلى الضمّ. باختصار استخدام عبارة عدم «امتلاك استراتيجية» عبارة مجلجلة، بلا معنى. لأن منع الضمّ أو إسقاطه لا يكونان إلاّ بالقوة والقدرة والتضحيات.
ومن جهة أخرى، فإن محمد شحادة، يحذر الفلسطينيين ـــ ومن صحيفة «هآرتس» ـــ من أية «استجابة» متعثرة، أو فصائلية، أو عديمة التماسك. لأنها ستحقق أحلام التوسعيين الإسرائيليين». يعني ما لم تكتشفوا «الإستراتيجية السحرية»، إياكم أن تفعلوا شيئاً! مثلاً أن تقاوموا أو تتظاهروا، أو تنتفضوا أو تعلنوا عدم شرعية الضمّ. لأن أية خطوة من هذه الخطوات، ستكون متعثرة أو فصائلية، أو عديمة التماسك، هذا وثمة مشكلة في ذلك غير مشكلة الضمّ. ما هي؟ جواب محمد شحادة: «ستتحقق أحلام التوسعيين الإسرائيليين»، ويفهم من هذا أنه أسوأ من الضمّ. لأنه سيضر باللاتوسعيين الإسرائيليين (ومن هم وأين هم؟).
يغفل الكاتب أن موازين القوى السائدة اليوم، خلافاً للمراحل السابقة، لم تعد في مصلحة أميركا والكيان الصهيوني


أما الكاتب الفلسطيني الثاني الذي «يعيش على كوكبنا»، حسب كاتب «الشرق الأوسط»، فهو ماجد كيالي الذي يقتبس الأستاذ صاغيّة من كتاب جديد له ما يلي: «حتى لو كان الوضع الفلسطيني أحسن حالاً من مختلف النواحي، فإن قدرتهم على استثمار كفاحهم وتضحياتهم تتطلب واقعاً عربياً مسانداً ووضعاً دولياً ملائماً».
وقبل الانتقال إلى الفقرة الثانية من ماجد الكيالي ثمّة سؤال: كيف لم يلحظ حازم صاغية أن الحديث عن وضع فلسطيني أحسن حالاً، من مختلف النواحي، هو ما يقول به من حسَبَهم في كوكب آخر غير كوكبنا. وإذا به وبماجد الكيالي يناقضان مقالة صاغية التي قامت كلها على دحض «من يقولون إن الوضع الفلسطيني أحسن حالاً من مختلف النواحي». ولكن المشكلة في استثمار هذا الوضع بسبب «الواقع العربي غير المساند، والوضع الدولي غير الملائم».
وهنا لا تعليق حول الواقع العربي ومن يمثله؟ وأين موقع جريدة «الشرق الأوسط» المرموقة في تصدّر إعلامه، ومقالة حازم صاغية في تصدّر مقالاتها. يعني يفترض أن يدافع صاغية عن الواقع العربي الذي هو في أحضانه على كوكبنا. وقد شكّل عائقاً أمام استثمار الفلسطينيين لوضعهم الأحسن حالاً.
لكن لماذا هذه الفقرة التي تنطح مقالة حازم صاغية؟ طبعاً لم يؤت بها عن غفلة، أو هفوة، وإنما من أجل ما تحمله الفقرة التالية من مطلوب. تقول: ففي الغضون (يقصد الوضع الفلسطيني الأحسن حالاً الذي يتطلب لاستثماره واقعاً عربياً مسانداً ووضعاً دولياً ملائماً) «يفترض الموازنة بين التضحيات والإنجازات والكلفة والمردود في صراع صلب ومعقّد وطويل ومرير. وهنا مكمن التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة».
يعني إياكم والتضحيات من دون إنجازات مباشرة، وإياكم من كلفة غالية من دون مردود ملموس. وهنا درس التجربة الوطنية الفلسطينية: تضحيات وشهداء وأسرى وجرحى وهدم بيوت، وفلسطين ما زالت تحت الاحتلال. هل هذا تحذير يُقدّم لشعب تحت الاحتلال؟ وما من حرب تحرير وطني أنجزت الاستقلال وحققت الانتصار إلا بعد عشرات السنين من تضحيات وخسائر وأكلاف غالية، قبل تحقيق إنجاز ومردود. ماذا لو أخذ نيلسون مانديلا بهذه المقولة لكان عليه أن يخرج من السجن من أشهره الأولى، حيث أمضى 28 عاماً بلا إنجاز ولا مردود.
هنا يلتقي ماجد كيالي مع محمد شحادة في التحذير من مقاومة أو تظاهرة أو انتفاضة إن لم تنتصر وتأتي بالإنجاز «ستحقق أحلام التوسعيين الإسرائيليين». وهو المطلوب في هذه المرحلة التي سِمَتُها الأولى مواجهة سياسات الضمّ وأهداف «صفقة القرن». لكن قبل مغادرة السيد ماجد كيالي نسأله: لماذا لم تطبق مقولة: «يفترض الموازنة بين التضحيات والإنجازات والكلفة والمردود وأنت تحرض على «الثورة» وحمل السلاح في سورية»، ويا للهول كم تجاهل هذه النصيحة في حرب أهلية، وتمسك بها في مناهضة محتل.
أما مقدمات مقالة حازم صاغية فتصدر عن عليائية وأستاذية يتعامل بهما مع كل الآراء التي تخالفه. فهو يذهب في الأغلب إلى التهكّم عليها، والحكم على الجميع بأنهم يتكلمون من كوكب آخر غير الكوكب الذي يقف عليه هو، برفقة النموذجين المذكورين أعلاه. وليس عنده من دليل إلا أمثلة حدثت منذ عقود حيث كان الحسم للدبابات والطائرات الإسرائيلية أو الأميركية. أما إذا وضعنا جانباً الدلائل المستقاة من الماضي، فإن تعاطيه عقيم مع من يقول إن موازين القوى السائدة اليوم في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني، خلافاً للمراحل السابقة، إذ انّه غير معنيّ بمناقشة الأسباب التي استندت إليها هذه المقولة، ولا يأتي بأسباب تناقضها، إنما يكتفي بالقول: إن كاتبها «متخم بالتفاؤل».
وعندما يرد على السيد الخامنئي، والسيد حسن نصر الله، في تناولهما مناسبة «يوم القدس العالمي»، لا ينتبه إلى كونه ليس أمام مقالة صحافيّة، وإنما أمام خطابَي قائدين في الميدان، يقفان نداً للند في مواجهة أميركا والكيان الصهيوني، والإصبع على الزناد. وهنا لا مجال للمزاح، بل نحن أمام أعلى درجات الجدّ. وكان عليه أن يراجع نفسه بعد أن يسأل أين الطائرات الأميركية وأين الدبابات الإسرائيلية اليوم، وليس بالأمس، لترد على التحدي. من الذي يسقط الماضي على الحاضر. ولم يعد يستطيع أن يرى إلى الواقع كما هو؟
وعندما يقول: «كلما حلّقت طائرات إسرائيلية بطيار أو من دونه في سماء دمشق، وارتفع عدد المواقع التي تضربها»، لا يلحظ أنه يناقض قوله: «الآن نشهد بأمّ العين خروج سوريا والعراق من هذا الصراع». عجباً كيف تكون سوريا قد خرجت من الصراع والطائرات الإسرائيلية تقصفها من بعيد؟ وكيف يقول ذلك عن خروج العراق من الصراع؟ ولماذا ينسى أن يذكر الأميركيين؟ هناك بيت من الشعر لبشار بن برد، يناسب تماماً هذا المقام: «فقُلْتُ لهُ: إنَّ العِراق مُقامُهُ / وَخيمٌ إذا هبَّتْ عليْكَ جنائِبُهْ».
وأخيراً نسأل: هل المأساة حقّاً في مَن «يقرأ كوكبنا من كوكب آخر»، أم في مَن يقرأ عصرَنا وزماننا بعقلية عصر مضى، أو زمان انقضى، على طريقة حازم صاغية؟ إن الزمن الراهن، زمن الصواريخ المطلة على «تل أبيب» من لبنان وقطاع غزة اليوم، ليس كزمن الدبابات التي اجتاحت لبنان في عامي 1978 و1982، أو اجتاحت قطاع غزّة في عامي 1956 و1967. إنهما عصران وزمانان على كوكب واحد، كوكبنا.

* كاتب ومفكر فلسطيني