تعمد الحكومة الأميركيّة إلى بسط سيطرتها حول العالم بأساليب وأنماط مختلفة. فهي، مثلاً، تحتلّ وتستعمر بلداناً، لكنها تتيح للسكّان المحليّين تضميخ أصابعهم بالحبر الليلكي تدليلاً على إجراء طقوس انتخابات، لا بل للزهو بتحقيق الديموقراطيّة في بلد محتلّ. في أفغانستان، جرت انتخابات رئاسيّة قبل أشهر، وفاز فيها رجلان لا يجمعهما إلّا الولاء لجيش الاحتلال الأميركي (لكن المحتلّ فرض نفوذه وأجبرهما على تقاسم السلطة). وكانت عمليّة غزو واحتلال أفغانستان من ضمن عمليّة التحرير لعقيدة بوش (التي ألهمت وليد جنبلاط، كما ألهمت غيره بين العرب). كذلك، تلجأ أميركا إلى التقيّة، عبر خبراء وإعلاميّي الإمبراطوريّة (يندرج كلّ مراسلي ومراسلات إعلام الغرب في بلادنا ضمن خانة إعلام الإمبراطوريّة الذي لا يشذّ عنه إلا قلّة قليلة، مثل الراحل أنتوني شديد). هؤلاء، مثلاً، يحجبون حقيقة السيطرة الأميركيّة، عبر نسب السيطرة في بلد ما إلى أعداء أميركا، فتصبح إيران هي النافذة في العراق، فيما قوّات الاحتلال الأميركي تتحرّك وتقصف وتقتل، من دون أيّ مشاورة مع حكومة البلد المُضيف. وها قد نصّبت أميركا في العراق، رجلاً كان قد وقّع على عريضة شكرٍ لبوش وبلير، لغزوهما واحتلالهما العراق (تتلمذ مصطفى الكاظمي على يد كنعان مكيّة، الابن المدلّل للمحافظين الجديد، والحاصل على دكتوراه فخريّة من جامعة إسرائيليّة). لكن لا تجد كلاماً في الصحافة عن الهيمنة الأميركيّة في العراق، ولا ترى «ثوّاراً» يعترضون على التدخّلات الأميركيّة، على صفاقتها (ورئيس الجمهوريّة العراقيّة صنيعة أخرى للاحتلال الأميركي).
ريكي بيانكو - إسبانيا

أمّا في لبنان، فهناك من يصرّ على أن البلد خاضع للسيطرة الإيرانيّة، وهذه مقولة يروّج لها إعلام الغرب والخليج واليمين اللبناني. لكن هل أميركا أو إيران هي التي تسيطر على قطاع الاتصالات والأمن والجيش والاستخبارات والمطارات والمرافق والسياحة والمصارف ومصرف لبنان والمال والمنظمّات «المدنيّة» والإعلام الخاص والرسمي برمّته؟ هل إيران أم أميركا هي التي تجاهر بأنّ هذا المسؤول أو ذاك في الدولة هو تابع لها، وأنّ صرفه أو محاسبته من الممنوعات؟ هل للسفارة الإيرانيّة أم الأميركيّة مطار خاص بها، تطيّر فيه من تريد ومتى تريد، وتحمّل فيه من البضائع والبشر مَن لا يمرّون على قوائم الحكومة المحليّة؟ لا، وباتَ في مطار بيروت جهاز مراقبة للمسافرين هديّة (سخيّة) من الحكومة الأميركيّة، من دون أن يكون هناك تشكيك محلّي في قدرة «وكالة الأمن القومي» على الحصول على كلّ ما في الجهاز من معلومات، كما في حال كاميرات المراقبة في العاصمة والجنوب. (والطريف أنّ الاستخبارات الأميركيّة تمنح هديّة، منها سيّارات فخمة مجهّزة ـــ من قبل «وكالة الأمن القومي» على الأرجح ـــ لرؤساء أجهزة المخابرات في العالم النامي، ووصل منها إلى رؤساء أجهزة الأمن والاستخبارات في لبنان). لم يكن الصراع الطبقي في أوضح تجلّياته كما هو اليوم. صحيح أنّ شدّ العصب الطائفي لا يزال مستعراً، والمطران عودة (الانعزالي والرجعي والقريب من فاسدي الطائفة) أثبت أنّه يتقن أصول الصراع الطائفي كما غيره، لا بل بات هو المرجعيّة التي تسمّي محافظ بيروت، وهذه القباحة الطائفيّة لم تثِر بعض المتدثّرين بشعارات المدنيّة في انتفاضة تشرين. لكن التراص الطبقي (والارتهان السياسي المرتبط به) ظهر واضحاً. لم يتمتّع شخص في الجمهوريّة اللبنانيّة بهذا الغطاء النخبوي ـــ الطائفي الذي تمتّع ـــ ويتمتّع به ـــ رياض سلامة. حركة أمل (بشخص ممثّلها، غازي وزني) شكّلت أقوى حماية لسلامة، عندما وفّرَ (لبرهة فقط) موقف حسان دياب والنقمة الشعبيّة فرصة لعزل سلامة، تمهيداً لمحاسبته ومحاكمته. البورجوازية الشيعيّة، كما بورجوازيّات الطوائف الأخرى (وجمعيّة المصارف العابرة لطوائف الفاسدين والأثرياء)، مرتبطة برياض سلامة، كما هي مرتبطة بالمصارف ومصالحها. لم يعد الأمر كما كان عشيّة الحرب الأهليّة، عندما كان هناك شبه تقاطع بين القهر الطبقي والطائفي. الفساد اللبناني عمَّ، إلى درجة أنّه أصبحت له قاعدة في كلّ الطوائف، تؤمّن له الحماية والديمومة، وحجّة الحرمان الماضية لم تعد تسري إلّا على فقراء ومعوزين من كلّ الطوائف، من دون استثناء.
رياض سلامة هو تجسيد لحقيقة النظام اللبناني: أي نقطة انطلاق والتقاطع بين الطبقة الحاكمة الفاسدة (المتعدّدة الطوائف) وبين الحكومة الأجنبيّة التي هي، بالفعل، تُسيطر على مقدّرات البلد، وتتحكّم بالتعيينات في كلّ المواقع التي تهمّ الحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة. وعلاقة، أو ارتهان، رياض سلامة والمصارف لوزارة الخزانة الأميركيّة، ليس تنفيذاً لمقرّرات بلد أجنبي فحسب، بل هو امتثال (وهذه هي الكلمة التي اصطُلح على اعتمادها من قِبل المصرف المركزي وجمعيّة المصارف، في بياناتها التي تثبت فيها حسن النيّة نحو الإدارة الأميركيّة) لمشيئة اللوبي الإسرائيلي. سنصبح مضلّلين للرأي العام لو قلنا غير ذلك: اللوبي الإسرائيلي هو الذي يصرّ على بقاء رياض سلامة في منصبه. رياض سلامة كما عامر الفاخوري: ضرورة للأمن القومي الأميركي.
لكن الحكومة الأميركيّة فرضت مشيئتها في ملفَيْن (على الأقل) في ظلّ حكومة يُقال إنها حكومة حزب الله. ودور حركة «أمل» يظلّ بعيداً عن الاستهداف من قِبل أعداء المقاومة، لسببٍ واضح: أن المستهدف هو حزب الله والحزب فقط، وأنّ الحركة ليست أبداً مصدر إزعاج لـ١٤ آذار (يخطئ من يظنّ أنّ خيمة ١٤ آذار انطوت، فهي باقية طالما أن المؤامرة التي تلت اغتيال الحريري تظلّ باقية، وإن تعدّدت الوجوه واختلفت بعض التحالفات، حيث أنّ «أمل» باتت اليوم في الحلف نفسه مع الحزب التقدمي وتيار المستقبل). و١٤ آذار، وحتى بعض الشيوعيّين، يتناسون سنوات طويلة من الصراعات والاشتباكات بين «أمل» والشيوعيّين (من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي)، لأن المطلوب ليس إنصافاً في المراجعة التاريخيّة، أو تحميلاً دقيقاً للمسؤولية، بقدر ما هو إلقاء اللوم على حزب الله، في كل ما يمكن أو لا يمكن إلقاء اللوم عليه.
حكومة حسّان دياب، غطّت وتستّرت على تهريب المجرم الفاخوري (ماذا دار بين ناصيف حتّي والسفيرة الأميركيّة؟ هل اختلف الحديث عن اللقاء الأخير بين حتّي والسفير الألماني، غداة إعلان ألمانيا أكبر حزب لبناني منظمةً إرهابيّة ـــ ماذا كان سيدور في استدعاء من وزارة الخارجيّة الأميركيّة للسفير اللبناني في واشنطن، لو أنّ الحكومة اللبنانيّة، مثلاً، أعلنت الحزب الديموقراطي منظمة إرهابيّة؟) وحكومة حسان دياب تراجعت فجأة عن محاسبة رياض سلامة. وبعدما أعلن دياب بصوته أنّ سلامة مسؤول عن تضليل وفساد مالي محتمل، عادَ وطالب بوقف مراجعة الماضي: أي أنّه صفحَ في خطاب عن الحريريّة وعن متلازمتها في شخص رياض سلامة. وتزامن ذلك مع تسليم حكومة حسان دياب رقبتها ـــ أو رقبة الشعب اللبناني ـــ لصندوق النقد الدولي. هل تلقّى دياب إشارات من الحكومة الأميركيّة مباشرةً أم أنّ أوصياءه أبلغوه بالمشيئة الخارجيّة؟
والحكومة تقترض من تراث لبنان الفولكلوري، واللغو عن «حضارة فينيقيّة» التي أورثها لنا معتوهو فكر «الأمة اللبنانيّة»: إذ إنّ الحكومة تفترض أنّ لبنان وحده، بسبب التبّولة والكبّة، يستطيع أن يفرض شروطاً معيّنة على صندوق النقد ـــ الذي يختصّ ويتلذّذ في فرض الشروط على الدول التي لا يسمح لها ـــ لا هو ولا البنك الدولي ـــ بالترقّي إلى مرتبة النموّ. صندوق النقد يدخل في مقايضة مع الدول التي يقبل بمنحها قروضاً: السيادة مقابل المساعدة، وليس من بدائل لذلك. أمّا معادلة حزب الله حول أنّه يقبل بالعلاقة مع صندوق النقد، على ألّا تخلّ بمصلحة لبنان، فهي تذكّر بمعادلة ياسر عرفات، حول أنّه سيسلّم أوراقه للحكومة الأميركيّة، لكن من دون الإخلال بمصلحة الشعب الفلسطيني. دخل لبنان في مرحلة جديدة، يتيح فيها الفرصة لإسرائيل، لا لأميركا، فقط لأنّ كل سياسات أميركا الشرق الأوسطيّة تمرّ عبر اللوبي الإسرائيلي ـــ كي تملي شروطاً لا تنتهي على لبنان.
وتجربة صندوق النقد لا تحتاج إلى قراءة تعليقات أفواج معاونة إسرائيل في لبنان، من الذين أصرّوا على ضرورة اللجوء إلى هذا الصندوق، وأنّ ذلك من شأنه أن يفتح الأبواب واسعة أمام مساعدات بالمليارات. ومجلّة «ذي إيكونوميست» البريطانية المحافظة، راجعت سجلّ صندوق النقد في دول خاضعة للإدارة الأميركيّة سياسيّاً، في الأردن ومصر وتونس، ووجدت أنّ المساعدات هناك لم تؤدِّ إلى تقليص البطالة أو محاربة الفقر، بل هي زادت الأولى وأمعنت في إفقار الشعب، كما أن الاستثمارات الموعودة في حالة مصر لم تأتِ. والأرقام المبالغ فيها عن مساعدات «سيدر» كانت مجرّد إعلانات، لا وعود ذات مصداقيّة، مثلما أنّ وعود «أصدقاء الشعب السوري»، أو «أصدقاء الشعب الأفغاني»، قصّرت في التحقيق (لماذا كل تجمّعات بأسماء «أصدقاء» شعب ما في دولة نامية تكون بصنع ورعاية أميركيّة؟) والأردن مثال الدولة المطيعة لإسرائيل وأميركا، وهي فقدت الأمل في الحصول على تمويل خليجي أو غربي. وهل يمكن للبنان أن يبلغ في الإذعان والارتهان لإسرائيل أكثر من النظام الأردني؟
قبل أن يوقّع لبنان اتّفاقاً مع صندوق النقد باشر الأخير في فرض شروطه. فهكذا فجأة، باشرت محطات لبنانيّة، معروفة بضخّها للدعاية الصهيونيّة، على مدى سنوات وعقود (وواحدة منها تأسّست بتمويل وتجهيز إسرائيلي مباشر) بالترويج لخطر التهريب عبر الحدود مع سوريا على الاقتصاد اللبناني. نسي اللبنانيّون، وإعلام لبنان «الثائر»، رياض سلامة والمصارف ورفيق الحريري (رفيق الحريري؟ من يكون ذا؟ هل هو قريب لسعد الحريري الذي تتنافس بعض الإعلاميّات الثائرات على أخذ «سلفي» معه؟) نسي اللبنانيّون الأسباب الحقيقيّة للأزمة الاقتصاديّة التي هي من صنع أزلام أميركا في لبنان، وتوجّهوا بالأنظار نحو حدود لبنان الشرقيّة (لا تحظى الحدود الشمالية بالاهتمام نفسه، لأسباب واضحة). وعلى مدار السنة الماضية عمدت السفارتان الأميركيّة والبريطانيّة إلى تركيب أجهزة مراقبة على تلك الحدود، واصطحبت السفيرة الأميركيّة والسفير الأميركي قائد الجيش اللبناني (المرضي عنه) إلى الحدود كي يستفيض في الشرح لهم عن جهود الجيش في الحدّ من التهريب، لأنّ تهريب التنباك والفيول والطحين يضرّ بالمصالح الغربيّة العليا (والحيويّة). أمّا الحدود مع فلسطين، التي كانت على مرّ تاريخ لبنان مصدر العدوان والإرهاب والغزوات، فإنها لا تُقلق خاطر السفيرَين أو خاطر قائد الجيش الذي سرعان ما استجاب لتقرير محطّة تلفزيونيّة مشبوهة وأعلن إلقاء القبض على شاحنة كانت ـــ يا للهول ـــ تهرّب مواد غذائيّة ومواد تنظيف إلى سوريا. تزامن إعلان قيادة الجيش ـــ كالعادة ـــ مع إعلان آخر عن خروقات لسفن وطائرات حربيّة إسرائيليّة للسيادة اللبنانيّة (وكل بيانات قيادة الجيش حول خروقات إسرائيليّة للسيادة تختم بجملة لازمة، عن أن الجيش «يتابع» الملف مع قيادة الـ«يونيفيل» ـــ العيْن الساهرة على مصلحة دولة الاحتلال).
ونستطيع أن نأخذ أسرارهم من أبواقهم، فجريدة محمد بن سلمان «الشرق الأوسط» سارعت إلى ربط مسألة التهريب على الحدود بـ«إصلاحات» ضروريّة سيصرّ عليها صندوق النقد. ومؤامرة الإثارة المفاجئة لملف الحدود (وتحميل شاحنات الطحين وصهاريج الفيول مسؤولية الدين العام والنهب العام وتبديد أموال المودعين) لم يختلف في المقاصد عن مؤامرة ٥ آذار، التي سبقت هبّة ٧ أيّار، مع فارقٍ في وضع حزب الله الاستراتيجي كما سيرد أدناه. ولا نحتاج إلى ضوارب بالرمل كي نتوقّع مسار سيطرة صندوق النقد. الضغط السياسي الصارخ لكن باسم مصلحة اقتصاديّة لا هوى فيها سيتعاظم. وملف الحدود كان ولا يزال همّاً إسرائيليّاً محضاً، له علاقة بشبكة إمداد وحركة المقاومة. وعليه، ستنصبّ الجهود على التصدّي لما يُسمّى بالتهريب، ثمّ ينتقل الضغط لتوسيع عمل الـ«يونيفيل» في الجنوب، حتى الحدود الشمالية (وكان فريق السنيورة خلال حرب تمّوز/ يوليو يريد تنفيذ مشيئة إسرائيل بنشر سيطرة «يونيفيل» على الحدود الشمالية والشرقية، أما الجنوبيّة فدور «يونيفيل» فيها اسمي فقط، لأنها لا تكترث لعدوان وخروقات إسرائيل بل هي تعمل كجهاز مراقبة وتجسّس لصالح جيش الاحتلال). وستتدرّج مطالب صندوق النقد السياسيّة (الموضوعيّة) وتتدحرج إلى أن تُمسك بخناق المقاومة، وعندها سيزيد منسوب الوعود الكاذبة بعطاءات بقيمة المليارات من الدولار، في حال نفّذ لبنان ما يُطلب منه. والربط بين الضغط على المقاومة، وبين ما سيُقال إنه مصلحة لبنان الاقتصاديّة، يشكّل فرصة ذهبيّة من أجل تأليب الرأي العام اللبناني ضد سلاح المقاومة. والرأي العام اللبناني، أكثر من كل الشعوب العربيّة، مطواع وسريع التأثّر بدعاية تصدر عن الرجل الأبيض، لأنّ ثقافته تربّت على عبادة الرجل الأبيض. وقد وقع كثيرون تحت تأثير تقارير المحطّات المشبوهة عن التهريب، وحتّى البعض من الثاو ثاو ثوّار. نسوا رياض سلامة والمصارف وانشغلوا بحقيقة رؤية (على طريقة رؤية هلال شهر رمضان) شاحنة تنقل طحيناً أو مواد تنظيف إلى سوريا. والتهويل بخطر التهريب سيترافق مع نغمة بدأها وليد جنبلاط بعد تلقّيه الإلهام من عقيدة بوش إثر اغتيال الحريري، والنغمة هي: إمّا هانوي أو هونغ كونغ. والمقابلة هذه مصطنعة، لأنّ هانوي ازدهرت في سنواتها الأخيرة بسبب مقاومتها السابقة للاحتلال الأميركي. ومصر هي خير دليل: هذه دولة استسلمت بالكامل أمام إسرائيل، وسجد حكّامها الواحد تلو الآخر تحت أقدام قادة العدوّ (عرفنا الكثير عن علاقة حسني مبارك وحياته في قصره من خلال صحافيّة إسرائيليّة نطقت أخيراً عن أسرار صهيونيّة مبارك). وتحوّل الجيش المصري الوطني إلى جهاز شرطة، ينفّذ رغبات أميركا وإسرائيل ومصلحة النظام ضد شعبه (حتى أنّ السادات بعدما أعلن نهاية الحروب مع إسرائيل شنّ حرباً وحشيّة ضد ليبيا في عام ١٩٧٧، من يذكرها؟) هل صحيح أنّ مصر نالت الازدهار والبحبوحة والعيش الرغيد بسبب استسلامها، أم الأردن مثلاً؟ ومنظمّة التحرير استسلمت في أوسلو هي الأخرى أمام العدوّ، ولم ينلْ شعبها لا التحرير ولا الرخاء. وهذا سيكون حال لبنان لو قبِل بهذه المعادلة: سيفقد سيادته ومنعته وعزّته (التي جلبتها له المقاومة، وحدها، من دون شريك) وسيحصد المزيد من البؤس. وعندها، لن يكون للبنان عنصر قوّة يضغط به على العالم.
ولم ينبرِ أحد في لبنان للدفاع جهاراً عن التهريب بحدّ ذاته. لبنان واقع تحت جملة من العقوبات القاسية، فقط لأنّه يواجه ويردع ويخيف إسرائيل، والتهريب سلاح مشروع، لا بل ضروري ضد الحصار. والتهريب أساسي في حياة الفلسطينيّين في غزة (مع أنّ الطاغية السيسي قام بالكثير لوقف التهريب ـــ لماذا يكافح الجنرالات الذين لم يطلقوا طلقة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد تهريب لا يزعج إلا العدوّ الإسرائيلي؟)، كما أنّ التهريب كان أساسيّاً في حياة بيروت الغربيّة أثناء حصار إسرائيل (وقد ساعد آنذاك أن جنود العدوّ مثل مقاتلي «القوّات اللبنانيّة» كانوا عرضى سهلة لرشاوى منظمّة التحرير). والتهريب فنٌّ أتقنته شعوب منطقتنا على مرّ القرون، وبرعت فيه الحركة الصهيونيّة قبل نشوء الدولة، وهي أقامت شبكة سريّة لتهريب «المهاجرين» اليهود، بعد ورقة «ماكدونلدز» في عام ١٩٣٩، والتي حدت ـــ نظريّاً ـــ من وتيرة الهجرة المطلقة، ضد رغبة السكّان المحليّين.
لبنان واقع تحت جملة من العقوبات فقط لأنّه يواجه ويردع ويخيف إسرائيل والتهريب سلاح مشروع لا بل ضروريّ ضد الحصار


حكومة حسان دياب أتت من أجل إنقاذ النظام وبمبادرة من حزب الله وحركة أمل. ونبيه برّي يقود، اليوم، حملة الدفاع عن مصرف لبنان وحاكمه، وعن مصلحة المصارف مجتمعة (وكل ذلك يكون باسم «المودعين»، وهم بالمودعين لا يعنون إلا كبار المودعين، من الشيعة والسنة والمسيحيّين والدروز). لكنّ حكومة حسان دياب ستنفجر، لأنّ في داخلها عناصر متناقضة: كيف تسير في مشروع الربط الذيلي بمشيئة صندوق النقد الذي يأتي على حساب مقاومة متمثّلة في الحكومة إياها؟ والحزب يفضّل لو يجتاز هذه المرحلة، كما مراحل سابقة، بأقلّ خسائر ممكنة. لكن الحزب يعاني، كما يعاني محوره، من ضعف استراتيجي.
المحور الإيراني ـــ الإقليمي، يعاني من ضعف لا يحتاج إلى بيانات بأرقام انخفاض تصدير النفط أو أرقام تقدير خسائر (لم تنتهِ) من «كورونا» أو تقدير حجم الإنفاق الإيراني في سوريا (والتي وضعها نائب إيراني سابق في حدود الـ٣٠ مليار دولار) أو في تقدير حجم الصدمة التي أصابت الثنائي روحاني ــــــــــ ظريف، بعد خروج الحكومة الأميركيّة السريع من الاتفاقية النووية، وسرعة عودة تشديد العقوبات والحصار، بالرغم من استمرار إيران في الالتزام (الإجمالي) ببنود الاتفاقيّة. يكفي أن تدرك أنّ إيران لم تردّ (بقوّة متناسبة) على واحدة من أكبر الضربات التي تعرّضت لها، منذ بدء المواجهة مع أميركا بعد الثورة، عندما أقدمت الحكومة الأميركيّة على اغتيال ثاني أهم قائد إيراني حالي، بالإضافة إلى اغتيال قائد الفريق المتحالف مع إيران في العراق. وهذه الضربات، أتت بالتزامن مع استمرار الضربات الإسرائيلية التي تستهدف العناصر الثلاثة للتحالف الإقليمي في سوريا. ما كان يمكن أن يتصوّر المرء انعدام الردّ الإيراني القوي على عمل مماثل، قبل سنوات قليلة فقط. وهذا لا يعني أنّ عدم الرد من قِبل إيران أو عدم الرد من قبل الحزب على ضربات في سوريا، ليس حكيماً بالضرورة. هناك حججٌ قويّة لتجنّب الاصطدام والمواجهة المباشرة مع أميركا من قِبل المحور هذا، لأنّه يتوقع تبنّياً أميركيّاً مطلقاً لحرب إسرائيليّة ضد إيران (وهذا لم يكن متوفّراً من قبل، ولا حتى في عهد بوش الذي اعترف في مذكراته أنه رفض السماح لإسرائيل بضرب إيران في سنوات حكمه). وقد نشرت «نيويورك تايمز» مقالة، قبل أيّام، جاء فيها أنّ إيران تتبع مهادنة في التعاطي مع أميركا في الوقت الحالي، لأنّها تريد انتظار نتائج الانتخابات الأميركيّة (وليس مضموناً أنّ إدارة ديموقراطيّة ستعود فوراً إلى أحكام الاتفاقيّة النوويّة، وقد يكون التعويل على إدارة ديمقوراطيّة خطأ آخر يُضاف إلى أخطاء في الحسابات للثنائي روحاني ـــ ظريف). لكن للضعف، أو لإظهار الضعف، أثمانٌ كبيرة، إذ هي تزيد من شهيّة العدو والخصم لاستغلال إظهار هذا الضعف. وهذا حدث في لبنان، عندما سكت حزب الله عن الجريمة الأميركيّة في تهريب المجرم الفاخوري، ثم في جرّ لبنان نحو صندوق النقد، ثم في السكوت عن مؤامرة التهويل بمخاطر التهريب عبر الحدود، مع علم الحزب بأنه هو المستهدّف من الحملة (وشربل نحّاس أخطأ في إطلالة أخيرة له، عندما نسب موقف الحزب نحو صندوق النقد بالموقف الإيراني، إذ إن موقف الحزب ما كان ليكون مختلفاً، وذلك لحساباته هو في المداهنة الداخليّة، وما أسماه نحّاس في الماضي بسلوك النعاج لوزراء حزب الله في الحكومة). لحكومة حسان دياب شهيّة في إرضاء الحكومة الأميركيّة لا تقلّ عن شهيّة حكومات الحريري والسنيورة وميقاتي. لكن الحكومة الأميركيّة لن تقبل بأقلّ من رأس حزب الله. وهذا التناقض سيعجّل في هلاك الحكومة.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)