ما وراء الخرائطسبق أن أشرنا مرّات عدّة في موقعنا prochetmoyen-orient.ch، إلى أن جائحة «كورونا» ستؤدي إلى إحياء وتعاظم أوبئة عديدة، سياسية وجيوسياسية، كامنة منذ سنوات طويلة في الشرق الأوسط. قُضِي الأمر! ها هي أسبوعية «لوبوان» تنشر في 11 أيار / مايو عريضة تنحو في هذا الاتجاه بعنوان: «فلنحم العرب الذين يحاورون إسرائيل». وقد ورد في التقديم، أنّ «لوبوان» تنشر العريضة الموقّعة من قبل أكثر من ستين نائباً وعضو مجلس شيوخ فرنسي، ينتمون إلى أحزاب اليمين والوسط واليسار، وكذلك من قبل رؤساء حكومات ووزراء سابقين، ومثقّفين، يساهمون في مواجهة فيروس الكراهية، عبر دعمهم لمبادرة ممثلين عن المجتمع المدني في 16 بلداً عربياً، لتشكيل المجلس العربي للاندماج الإقليمي. هدف هذا الأخير، هو المصالحة مع إسرائيل والتصدّي للأفكار المسبقة، عبر تنظيم حوار حقيقي عربي ـــــ إسرائيلي لتطبيع العلاقات وإنهاء أي شكل من المقاطعة.
رسمة للفنان البولوني باول كوشينسكي

تتمّة هذه العريضة / البيان تتمحور حول سبع خدع بمنتهى الحقارة، كونها تمثل إهانة للذكاء والضمير الإنساني الجمعي وللتاريخ في الآن نفسه. خديعة: «هي باللاتينية مفردة مستنبطة من فعل فرض. تفرض الأكاذيب على الناس بالأفعال وبالأقوال. نفرضها على الآخرين وعلى أنفسنا. جميع سبل استغلال ثقة وغباء البشر هي أنماط مختلفة من الخداع. لكن موضوع الخداع يكون دائماً أمراً غير معلوم من العامة. غرابة الموضوع وغموضه هما ما يعطيانه الصدقية»، موسوعة دوني ديدرو.

أولاً: نصيحة عجيبة
العودة إلى ديدرو ضرورية، لأنّ بداية البيان تذكر «مبادرة تاريخية» لمجلسٍ عربي للاندماج الإقليمي، من المفترض أنه يضم 30 شخصاً من «صنّاع الرأي». بعد التدقيق، اتضح أنّ ولادة هذه البنية الهلامية هي نتاج للتعاون بين أجهزة أمنية غربية وإسرائيلية. غالبية أعضاء المجلس العتيد من المرذولين أو المجهولين بين أنتلجنسيا بلادهم، والباحثين عن موقع اجتماعي ومورد للرزق.

ثانياّ: «ثقافة الكراهية»
المطلوب، بحسب البيان، هو مناهضة «ثقافة الكراهية»، الخاصة حصراً بـ«العرب» كما يعلم الجميع. إضافة إلى العنصرية الفجّة التي تنضح بها هذه الفرضية، هي تناقض الحدود الدنيا للمنطق بالنسبة إلى من قام بجهد تقصّي الحقائق على الأرض. عندما نفعل ذلك، يسهل فهم أسباب «الكراهية» وهوية الجهة المسؤولة عنها...
يشكّل هذا البيان بذاته عملاً استفزازياً، لأنّه يصدر في توقيت متزامن مع إعلان نتنياهو عن عمليات ضمّ جديدة في الضفة


«أنا أتحدث يومياً مع جنود؛ قال لي أحدهم البارحة إنّ أوامره هي إطلاق النار على ركب الأطفال إن شعر بالتهديد؛ سألته: لماذا الركب؟ أجابني: لا يؤدي هذا الفعل إلى مقتلهم، وبالتالي لا يتحوّلون إلى شهداء بنظر أصدقائهم، لكنّهم لن يتمكّنوا من السير مجدداً، ما سيردع الآخرين عن رمي الحجارة. ولكن، هل يعقل إطلاق النار على ركب الأطفال؟ نعم، هؤلاء عرب». مصدر هذا الكلام الرهيب، هو كتاب الزوجين لوران وكورين ميرير. لقد أمضيا 3 أشهر في فلسطين بين شباط / فبراير وأيار / مايو 2016، في إطار البرنامج الدولي للمجلس المسكوني للكنائس، الذي انطلق بعد اندلاع الانتفاضة الثانية. تعالوا لمشاركتنا العيش لفترة وعودوا إلى بلادكم للشهادة حول ما رأيتم. هذه هي المهمة التي حدّدها البرنامج. لقد أنجز الزوجان ميرير المهمّة على أكمل وجه، فقدّما تقريراً تفصيلياً عن الحياة اليومية للفلسطينيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي، مع ما يعنيه من قمع وعنصرية واستيطان ونظام للفصل العنصري قرّر الرئيس الأميركي أن يشرعنه ويسانده. هذه الخلاصات الحاسمة ليست ناتجة عن انحيازات أيديولوجية. لوران ميرير ضابط في البحرية الفرنسية، وكان قائداً لقواتها في المحيط الهندي. زوجته أديبة ولها مؤلفات عدّة حازت على جوائز أدبية بينها جائزة الأكاديمية الفرنسية.

ثالثاً: «التعلّم من دروس الماضي»
من أجل «دحر ثقافة الكراهية والخروج من المأزق الحالي»، يرى البيان أنّه حان الوقت «للتعلم من دروس إخفاقات الماضي عبر الأخذ بخيار الحوار مع المجتمع الإسرائيلي بدلاً من القطيعة، وبالتعايش اليهودي ـــــ العربي بدلاً من رفض الآخر وإقصائه». من المسؤول عن «إخفاقات الماضي»؟ وما هي هذه الإخفاقات بالضبط؟ منذ وعد بلفور، القضية الفلسطينية سياسية بامتياز وليست مسألة إنسانية تُحلّ إذا تحلّى الطرفان بحسن النية.

رابعاً: «حوار صريح»
دعا الموقّعون على البيان، إلى حوار صريح. أية مهزلة هذه؟ هل ينبغي تذكيرهم بأنّه لم تعد هناك مفاوضات سلام منذ بداية الألفية الثانية، عندما قام المجرم أرييل شارون بزيارته الاستفزازية إلى باحات المسجد الأقصى، مُعلناً أنّ القدس الموحّدة ستكون عاصمة إسرائيل. منذ إنشائها عام 1948، لم تتوقّف إسرائيل عن انتهاكها الفاضح للقانون الدولي، ولمئات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومفوّضية حقوق الإنسان التابعة لها. لقد تمّ التصويت على القرار 2334 في 23 كانون الأول / ديسمبر 2016، الخاص بقضية فلسطين، والذي يذكّر بالقرارات 242و 338 و 446 و 452 و465 و476 و478 و1397 و1515 و1850، ويطالب بأن «توقف إسرائيل فوراً جميع أنشطتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، بما فيها القدس الشرقية». قدّم النص للتصويت من قبل نيوزيلندا والسنغال وماليزيا وفنزويلا، بعد اقتراح مصر ـــــ التي طرحته بداية ـــــ تأجيل التصويت عليه إثر لقاء بين رئيسها عبد الفتاح السيسي وبنيامين نتنياهو ودونالد ترامب.

خامساً: لنُقاطع إسرائيل
يعتبر البيان أنّ «مقاطعة إسرائيل كان لها وقعٌ سلبيٌّ على الديناميكية الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية، عبر منع العرب من التأثير الإيجابي على الصراع، وعزل المجتمع المدني الفلسطيني عن محيطه العربي». مرة أخرى، تُنسب الخطيئة إلى العرب. سوء النية العنصري والخديعة التي عرفها دوني ديدرو يبرزان بجلاء. بكل تأكيد، يجب مقاطعة إسرائيل التي تدوس على القانون الدولي وحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة. هذا واجب إنساني غير قابل للمساومة.

سادساً: «تصدير الكراهية إلينا»
يصل البيان إلى الذروة، عندما يزعم بأنّ «منطق الكراهية والإقصاء إياه، الذي يزعزع شمال أفريقيا والشرق الأوسط، يصدر للأسف إلينا». إلينا نحن الأبرياء. يا للهول!!! عبر احتلالها العسكري وعمليات الضم المتتالية للأراضي الفلسطينية والبناء المستمر للمستوطنات والجدران العازلة والطرق الالتفافية وتقطيع أواصل القرى والمنازل والمناطق الزراعية الفلسطينية، تنتج تل أبيب عن سابق إصرار وتصميم اليأس والعنف، وتتجرّأ على وصمهم بالإرهاب ومقارنتهم بالعمليات التي وقعت في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية!.
سياسة الكيل بمكيالين حيال القضية الفلسطينية، وغياب أية عقوبات دولية على انتهاك إسرائيل المتكرّر للقانون الدولي، هما بين أبرز العوامل التي ساهمت في صعود الأصولية الإسلامية المتطرّفة. أسامة بن لادن هو الابن الطبيعي للأجهزة الأميركية وللأوليغارشية السعودية. «القاعدة» و«داعش»، هما الابنان الطبيعيان للحروب الأميركية ولغزو العراق عام 2003. منذ عقود، سمحت واشنطن للديكتاتورية الوهابية بتمويل وتسليح التنظيمات الإرهابية المتنوّعة، وشجّعتها على ذلك، ليس في الشرق الأوسط وحده، بل كذلك في آسيا وأفريقيا وأوروبا. إذا أردنا الحديث عن «الكراهية التي تصدر إلينا»، علينا بالهدوء أولاً، والعودة إلى الأسباب كما قال سبينوزا.

سابعاً: «كورونا» ذريعة ملائمة
لم يكن لجوء مثل هذا البيان إلى خطاب إنسانوي أجوَف أمر مستغرب: «التعاون العربي ــــ الإسرائيلي لمكافحة جائحة كورونا واجب أخلاقي وعملي». لقد أظهرت الجائحة أنّ الفيروسات لا تعرف الحدود، وأننا جميعاً إخوة، إلخ... جميعاً؟ حقاً؟ عند تحليلي عام 2002، للاستراتيجية العامّة الإسرائيلية ـــــ بالاستناد بين مراجع أخرى إلى كتاب ميشيل فوكو المهم «المراقبة والعقاب» ـــــ والقائمة على حشر الفلسطينيين في فضاء مسيّج وخاضع للرقابة، أشرت إلى أنّ «سياسة أرييل شارون تعمل بلا كلل على تشييد يوتوبيا سيطرة مطلقة تتيح آلياتها بالتخلص من الكتل السكانية الفلسطينية غير المرغوب بها، عبر تهجيرها إلى غزة أو الأردن أو أي مكان آخر».

من الذي وقّع البيان؟
يشكّل هذا البيان، بذاته، عملاً استفزازياً، لأنّه يصدر في توقيت متزامن مع إعلان نتنياهو عن عمليات ضمّ جديدة في الضفة، لكنّنا لن نفاجأ أن يقدم الأشخاص الواردة أسماؤهم في ما يلي على التوقيع عليه: آن هيدالغو (التي تمجّد نظام الفصل العنصري الصهيوني)، باسكال بروكنير (مؤلّف أجوف)، دانييل كوهين بنديت (يساري سابق)، برنارد كوشنير (عمولات بلا حدود)، جان ماري لوغوين (طبيب رغماً عنه)، مانويل فالس (عائد من برشلونة)، بوعلام صنصال (الذريعة العربية وخبير كره الذات)، جيرار لونغيه (عضو سابق في تنظيم الغرب اليميني المتطرّف)، فرنسوا ليوتار (تاجر سلاح سابق)، إديت كريسون (الفارّة من متحف غريفان). الإشارة إلى أنّ أياً من هؤلاء لم تطأ قدماه الأراضي الفلسطينية المحتلّة غير ضرورية. ختاماً، فإن هيئة تحرير prochetmoyen-orient.ch تجدّد دعوتها لقرائها وأصدقائها، إلى مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وكذلك مجلّة «لوبوان».

*خبير استراتيجي ومدير موقع prochetmoyen-orient.ch