بعد ثلاث سنوات على بدء الأزمة السورية، تُوِّجت في أواخر كانون الثاني الماضي بفشل مدوٍ لمؤتمر «جنيف»، وتتجه هذه الأزمة نحو مزيد من التصعيد والتعقيد. ليس من الصعب، إذن، توقع المزيد والفادح من الخسائر، بل من الكوارث والمآسي. لا شكّ في أن السلطة والقوات اللتين يقودهما الرئيس بشار الأسد قد حققتا نجاحات بارزة في الميدان، وخصوصاً مؤخراً، في منطقة «القلمون» ذات الأهمية الاستراتيجية.
لكنه سيكون من الوهم، والوهم الخطير، بالتأكيد، الاعتقاد بأن ذلك سيؤدي إلى وضع خاتمة لتلك الأزمة، وبالوسائل ذاتها، لمصلحة الرئيس السوري وسلطته.
للأسف هذا الاعتقاد قائم بالفعل. وهو ليس نتيجة للنجاحات العسكرية فقط، التي تحققت في الأشهر الماضية، ابتداءً من «القصير» حتى «يبرود» في منطقة «القلمون». إنه امتداد لنهج رسمي سوري جنح منذ البداية نحو المعالجة الأمنية والعسكرية لهذه الأزمة. وواظب على ذلك طيلة السنوات الماضية. ولم تزده التطورات الأخيرة العسكرية والميدانية، إلا تشبثاً بهذا النهج. عبَّر عن ذلك بوضوح الرئيس السوري في آخر جولة ميدانية له، فأكد المضي في نهج التصدي للقوى الإرهابية حتى تصفيتها نهائياً. لو استدرك الرئيس السوري، مثلاً، بالقول: حتى تصفية وعزل هذه الجماعات وتسهيل قيام حوار وطني مع ممثلي المعارضة الوطنية، لاختلف الأمر، أو لأشكل على الأقل!
هذا الاستنتاج بشأن تعذر إمكان الحسم رغم النجاحات، ورغم ما ستحظى به السلطة السورية من استمرار الدعم الروسي والإيراني خصوصاً، ناجم عن أن مثل هذا الحسم سيحتاج إلى فترة طويلة. وهذه الفترة ستكون، بالضرورة، شديدة التكلفة والأثمان والخسائر من كل نوع. وهو سيصطدم، حتماً، بمحاولات يجري التحضير لها حالياً لإحداث تغيير في التوازن العسكري، بما يبقي المعارضة، المتعاونة مع الإدارة الأميركية والغرب والمملكة العربية السعودية، قادرة على استمرار الحضور والسيطرة على مواقع واسعة، خصوصاً في المناطق الحدودية مع الأردن وتركيا...
وليس خافياً أن وعوداً علنية أطلقت لهذا الغرض، وأن تدابير تنظيمية جرى ويجري اتخاذها ولو ببطء، وأن بعض التسليح «النوعي» قد وجد طريقه، أو هو على وشك ذلك، إلى بعض فصائل المعارضة السورية و«الجيش الحر». ثم أن الحملة السياسية والأمنية التي تقودها الاستخبارات الأميركية، قد أثمرت عملية فصل بين الإرهابيين والتكفيريين المرتبطين بتنظيم «القاعدة» وبين تشكيلات «الجيش الحر». الاشتباكات التي حصلت في أكثر من منطقة والإجراءات التي أعلنتها، خصوصاً، سلطات المملكة العربية السعودية، قد صبّت في هذا الاتجاه. كل ذلك من أجل سحب تلك الورقة من أيدي النظام السوري، بعد أن استنفدت وظيفتها، وبعد أن أثبت تنظيم «القاعدة» حضوراً متنامياً وفعالاً في جبهة واسعة تمتد من العراق إلى سوريا ولبنان، فضلاً، أساساً، عن اليمن وسواها من بلدان عربية وأفريقية. وهو حضور أثار الكثير من المخاوف في واشنطن والغرب ومعظم الدول الخليجية على حدّ سواء.
لا تصبّ التطوّرات التي حصلت، ولا تزال، في أوكرانيا، في اتجاه تبريد الوضع في سوريا أو احتمال التوصل إلى تسوية قريبة بشأنه. فالطرفان الروسي والأميركي سيتبادلان الضغوط، وستكون سوريا، بالضرورة، واحدة من ساحات الصراع أو تصعيد الصراع الذي هو قائم ومستمر. لكن هذا الصراع سيأخذ، بالتأكيد، في المرحلة القريبة، أشكالاً أكثر حدة وتوسعاً، بانتظار التوصل إلى تسويات عامة: من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، إلى سوريا، إلى الملف النووي الإيراني (الذي قد يشهد تجاذباً مختلفاً كما لوحت بذلك روسيا في الأيام الأخيرة). وهي تسويات لن تكون قريبة وسهلة المنال، على الأرجح.
كل ذلك دون إغفال حقيقة أن الإدارة الأميركية، قد اختارت، منذ بداية الأزمة السورية، توريط سلطة دمشق، في نزاع طويل يستنزف قدراتها ويعطل دورها الإقليمي، فضلاً عن استنزاف وإضعاف حلفائها الإيرانيين واللبنانيين (حزب الله بشكل خاص). وكان ولا يزال ملفتاً، أن واشنطن وتل أبيب قد اعتمدتا مواقف متطابقة بشأن الأزمة السورية. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة للملف النووي الإيراني، حيث حاول التحالف اليميني الصهيوني الحاكم دفع واشنطن إلى استخدام القوة مباشرة ضد طهران، أو بصيغة دعم وإكمال خطوة عدوانية أولى تبادر إلى اتخاذها تل أبيب.
وتقودنا مستجدات الوضع في سوريا إلى توقع تحولات في الدور الإسرائيلي نفسه على الجبهة السورية. البوادر بدأت منذ أسبوع. «فتح جبهة الجولان» هو هدف أساس وضعته قيادة حزب الله، بعد هدفها الرئيس في التصدي لخطر التكفيريين في سوريا ولبنان ومنع إسقاط النظام السوري. باشرت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية استعداداً لتنفيذ ردّ واسع على بوادر مثل هذا الاحتمال والمتمثلة في عملية استهداف دورية للعدو الإسرئيلي في الجولان. تطوير دور للعدو، مباشرة وعلناً، ليس مستبعداً أبداً، خصوصاً إذا ما صحت الاستعدادات لاستهداف دمشق ابتداءً من مدينة درعا والحدود الأردنية.
لا يهدف كل ما تقدّم إلى التقليل من شأن الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش السوري. لكن ليس بالجيش السوري وحده تحلّ الأزمة السورية! يمكن، بل يجب، أن تُعيد القيادة السورية حساباتها في ضوء إنجازاتها العسكرية الأخيرة. ينبغي أن تذهب بثقة أكبر، وبشعور عالٍ بالمسؤولية (ولو متأخرة)، نحو اعتماد خطة سياسية يجري بموجبها تطوير المعركة ضد التكفيريين وضد التدخلات الأميركية والإسرائيلية القائمة والمتوقعة، المعلنة وغير المعلنة، على حد سواء.
لن يجري ذلك من خلال الاستمرار باعتماد الأساليب والعلاقات السابقة. لا بدّ، مثلاً، من ترجمة فعلية، وليس شعاراتية، لما يجري تكراره من إشادة، من قبل ممثلي السلطة السورية، بالمعارضة «الوطنية». لا يجوز الاستمرار في إخفاء أو اعتقال عدد من أبرز رموزها. يجب أن تندرج تدابير الإفراج عن هؤلاء في سياق حوارات، ومن ثم خطة جديدة، أو مقاربة سياسية مختلفة، للوضع في سوريا. من شأن ذلك أن يفتح أفقاً سياسياً جديداً، حتى لو كانت الاستجابة محدودة والنتائج متواضعة في المرحلة الأولى. سيكون هذا الأمر ذا دلالة على أن السلطة السورية قد خطت خطوة ذات مغزى على طريق الأخذ بمبدأ المشاركة والاعتراف بالآخر وبالتنوع، وربما في تكريس ذلك، لاحقاً، في نظام سياسي تنبثق سلطاته عن انتخابات تعددية ونزيهة! لا جدال في أن من شأن مثل هذه التحولات، فيما لو حصلت، أن تجعل السلطة أقوى على مواجهة تكفيريي الداخل ومتآمري الخارج.
كل ما سوى ذلك سيكون إمعاناً في مواصلة نهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر والكوابيس.
* كاتب وسياسي لبناني