يشهد الوسط القومي الاجتماعي، في الوطن وعبر الحدود، منذ فترة، حراكاً واسعاً، عفوياً تارة ومنظّماً تارة أخرى، ويتّخذ أشكال تعبير تعوّد القوميون الاجتماعيون على مثلها، منذ عهدهم بالأزمات الحزبية. ولا تقتصر هذه الأشكال على وسيلة تعبير أو احتجاج واحدة، كالتوقّف عن العمل الحزبي أو التمرّد على القرارات الحزبية، أو ما شابه (كما يجري، عادة، في الأحزاب التي هي أشبه ما تكون بالتيارت السياسية منها بالأحزاب العقائدية)، بل تتعدّاها إلى تنظيم حركات ضغط داخل المؤسّسات الحزبية، وتأسيس خلايا سرّية، وتصل، أحياناً، إلى حدّ تشكيل تنظيمات حزبية، رديفة أو بديلة، كيفما اتّفق.إنّ السياسات الخرقاء التي انتهجتها القيادات المتعاقبة على السلطة في الحزب أدّت إلى:
ـــ هجرة أعداد كبيرة من القوميين الاجتماعيين إلى خارج الحزب والبلاد، وتفرّقهم في جهات العالم الأربع: إمّا منزوين في منازلهم منكفئين إلى أعمالهم الخصوصية وقد حققوا نجاحات باهرة فيها، وإمّا مبتكرين أدوات عمل جديدة يعتقدون أنهم، بواسطتها، يتمكّنون من خدمة قضيتهم، كأن ينشر أحدهم كتاباً، أو يُصدر آخر مجلة، أو يؤسّس ثالث مركزاً ثقافياً، أو يتّخذ رابع صفحة أو موقعاً للتواصل الاجتماعي يتخاطب بواسطته مع أبناء أمته والعالم... فإذا ما استمرّ هذا النزف إلى الخارج، سيؤدي بالحزب، حتماً، إلى شيخوخة مبكرة، هذا إذا لم يكن قد بلغها فعلاً!
ـــ تراجع نسبة المقبلين على الحزب، خصوصاً في صفوف الشباب، إلى معدّلات مخيفة، معدّلات تدلّ استطلاعات الرأي الأخيرة التي أُجريت، بطرق خاصة، إلى اقتراب الحزب من حافة الشيخوخة جرّاء الانقطاع العمري الذي يتهدّده، على مستوى التعاقب المتتالي والطبيعي للأجيال، إذ تُظهر هذه الاستطلاعات أنّ نسبة الشباب في صفوف الحزب، ممّن هم دون الخامسة والعشرين من أعمارهم، لا تصل إلى الخمسة في المئة من عدد أعضائه، وأنّ نسبة من هم في الأربعينيات والخمسينيات لا تبلغ العشرة في المئة، بينما تتجاوز نسبة الأعضاء، ممن هم فوق الستين، الثمانين في المئة؛ إنها لكارثة حقيقية!
باختصار، تحوّل الحزب الذي هو، في عُرفنا، أعظم ظاهرة نهضوية عرفتها هذه البلاد في تاريخها الحديث، إلى تجمّعات هزيلة لمجموعة أشخاص يؤلّفون «قضايا شخصية» لا «قضية قومية» عامّة تأسّس الحزب لتحقيقها، تجمّعات لم يعُد يحسب لها الآخرون، من أصدقاء أو خصوم، حساباً، لا في أوقات الرخاء ولا في أوقات الشدّة. ولكن لا يجب ـــ بحسب منطق الصراع ـــ أن تُضعف السياسات المخزية الأعضاء الصادقين في إيمانهم، الثابتين في مواقعهم، المتمسّكين بعقيدتهم، العارفين بقوة الحزب الحقيقية التي لا يدركها إلّا المتمكّنون من سرّ إنشائه ورسالته التعميرية إلى هذه المنطقة الممتازة من شرقي المتوسط، قلب العالم القديم. كما لا يجب ـــ بحسب هذا المنطق نفسه ـــ أن تُضعف هذه السياسات إيمانهم بحزبهم وثقتهم الكبيرة بالنصر العظيم الذي وعدهم به سعادة، إن هم تمسّكوا بقضيّتهم. فالحزب لا يربط انتصار قضيّته، مثلاً، بعدد المقاعد التي يحصّلها في انتخابات تجري هنا أوهناك على امتداد الوطن، فهو ليس حزب انتخابات برلمانية، بالمعنى التقليدي للعبارة، ولا يراهن كثيراً على تغيير سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي يمكن أن يحقّقه عبر الانتخابات. إنّ الحزب عابر لكلّ أشكال التمثيل العتيقة التي يعتبرها جامدة، وزعيمه أعلن غير مرة، وفي أكثر من مناسبة، عن جمود هذه الأشكال وإفلاسها وتهافت أصحابها. ولذلك، فإنّ الحزب هو بداية عهد جديد لسوريا والسوريين، وهو حزب يرفض النظرية القائلة إن سوريا أمّة ضعيفة، فقيرة، يعرّضها مركزها ـــ كـ«جسر» بين الغرب والشرق ـــ لمطامع الدول الاستعمارية، كما يرفض مبدأ أنّ مصيرها يُقرّر ـــ رغماً عنها ـــ بالمساومات الخارجية، من دون أن يكون لها رأي فيه. إن «الأمر المفعول»، يجزم سعادة، ليس سوى «حادث» من حوادث التاريخ، وإذا كان التاريخ قد تغيّر مرة ففي الإمكان أن يتغيّر مرة أخرى.
باختصار تحوّل الحزب إلى تجمّعات هزيلة لمجموعة أشخاص يؤلّفون «قضايا شخصية» لا «قضية قومية» عامّة


لقد خرج السوريون القوميون، بفضل هذا التعليم وتعاليم سعاده الأخرى، من بلبلة الشخصية وفوضى تحديد «من نحن؟»، وصارت لهم شخصية واضحة، فيُمكن، بعد هذا التأسيس المتين، أن تجزّأ بلادهم إلى مئة دولة وأن تسمّى كلّ دولة باسم يخترعونه لها، ويمكن أن يحتلّها أجنبي واحد أو أكثر، ويمكن أن يُقسّم وطنهم بين دولتين أو أكثر، ويمكن أن تنشأ في بلادهم أشكال سياسية كثيرة، ويمكن أن تتبدّل هذه الأشكال، لكنّ حقيقة واحدة تبقى ثابتة، هي حقيقة الأمة وشخصيّتنا القومية، التي تتغلّب في الأخير على كلّ العوارض. لغيرنا، يقول سعادة، يمكن أن تتغيّر الشخصية بتغيّر الظروف والعوارض، أمّا لنا، نحن القوميين الاجتماعيين، فلا يمكن ذلك مهما تجزّأت بلادنا وكيفما تشكّلت، احتلّها أجانب أم بقيت حرّة سائدة.
من هنا، أصبحت الحاجة ملحّة إلى مراجعة شاملة، أساسية وعميقة، لأحوال الحزب ودوره ومستقبله وعلاقاته بحلفائه وموقعه في الصراع الدائر، منذ قرن ونيف، على بلاده وفي بلاده، التي تواجه، مذّاك، عدواناً همجياً مزدوجاً، خارجياً وداخلياً، يهدّد وجودها ومصيرها، في الصميم. هنا، تكمن أهمية كلّ تحرّك داخلي ينشد الإصلاح الحقيقي، وهنا يجد كلّ تحرّك هادف مسوّغاته المشروعة. ولكن، من المعيب ـــ بل المخجل ـــ أن تجري هذه المراجعة، دائماً، في أجواء تتحكّم بها ردّات فعل عنيفة، غالباً ما تؤدّي إلى سفك دماء عزيزة، يخسر الحزب فيها عدداً من قيادييه ومثقفيه، والشواهد كثيرة! أجواءٌ كهذه تؤدّي، أيضاً، إلى مزيد من التشرذم وتبطل كلّ إمكانية جادة لحوار حقيقي. لذلك، فإنّ القوميين الاجتماعيين مطالبون بالتالي:
ـــــ لأم الجرح النازف في حزبهم، منذ استشهاد سعادة، وإعادة تنظيم البيت الحزبي الداخلي بما يستحقّ هذا الحزب/ البيت من اهتمام، فهو حزب تميّز عن سائر الأحزاب في بلادنا وفي العالم، بعقيدته ونظامه ونظرته الجديدة إلى الحياة، ما جعل السوريين ينتظرون منه الكثير، والأمّة تعقد حبل رجائها عليه. إنّ من العار ـــ والسوريون على هذه الدرجة العالية من الرهان على الحزب ـــ أن يكون هذا الـ«بيت» مهدّداً، في حالته الراهنة، بالتداعي والسقوط والانهيار.
ـــ إعادة توحيد الحزب ـــ وهذه هي المهمة الطبيعية الأولى لكلّ حركة إصلاحية، وكل ما عداها باطل ـــ إذ لا معنى لحزب، كحزبنا، ينشد الوحدة القومية، وحدة الأمة على أرضها وفي وطنها، وهو منقسم على ذاته! ولا قيمة لأنصاره، أيّاً كانوا، إذا بقوا، هم أيضاً، منقسمين على أنفسهم لأنهم سيتحولون إلى سبّة في نظر مواطنيهم.
إنّ القوميين الاجتماعيين العاملين في صفوف الحزب (وأقصد هنا المنفّذين العامّين، والأمناء الصادقين، والأعضاء الطيبين الذين رذلهم «البنّاؤون» الكذبة) إذ نستغرب، أشدّ الاستغراب، صمتهم المريب عمّا يجري في مؤسّسات الحزب العليا من أعمال مشينة، مدعوون أكثر من غيرهم، إلى التحرّك الجدي والسريع لإنقاذ الحزب من براثن القتلة ومصّاصي الدماء، مذكّراً إياهم جميعاً، بحركة المنفّذين العامين، وحركة الشهيد أبو واجب (وسيم زين الدين)، وكلّ الانتفاضات المباركة التي لم يُكتب لها النجاح.
أمّا كريمات الزعيم، صفية وأليسار وراغدة، فإنّهن بصفتهنّ قوميات اجتماعيات مناضلات في صفوف الحزب وميادين الأمّة قاطبة، وبصفتهنّ بنات سعادة صاحب الدعوة إلى القومية السورية، المؤتمنات على إرث والدهم (المؤسّس والهادي والباني والفادي) ما يمنحهنّ شرعية في التدخّل، كلّما دعت الحاجة، لإنقاذ الحزب من كل شرّ مستطيِر! إنهنّ مدعوات ـــ وهذا حقّ من حقوقهنّ بل واجب من واجباتهنّ ـــ إلى إعلان النفير العام: أيّها القوميون الاجتماعيون: الأمر لنا ونحن قيادة مؤقتة للحزب؛ «وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً، وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق!» (سورة الحج، آية 27).

أصبحت الحاجة ملحّة إلى مراجعة شاملة أساسية وعميقة لأحوال الحزب ودوره ومستقبله وعلاقاته بحلفائه


ولحلفاء الحزب وأصدقائه، عنيت محور المقاومة الذي يضمّ إلى الشام وإيران كلاً من حزب الله والأحزاب الحليفة الأخرى والفصائل الفلسطينية، فضلاً عن الحليف الروسي... لهؤلاء الحلفاء دورٌ كبير في عملية الإصلاح هذه، يتلّخص في:
ـــ تجميد الدعم السياسي والمادي والإعلامي الذي تضخّه بعض قوى المحور إلى تنظيمات الحزب وقياداته الحالية، الأمر الذي سيؤدي، حكماً، إلى محاصرة هذه القيادات والتنظيمات ودفعها إلى الإفلاس، المادي والمعنوي، ما يعني إلزامها بالكفّ عن اعتبار الحزب مطيّة لها تستعملها متى تشاء وكيفما تشاء، ما يدفعها ـــ حفاظاً على نفسها وأتباعها ـــ إلى أن تعلن استعدادها للنظر، جدياً، في حساباتها الداخلية الخاطئة وسياساتها الخارجية المهينة للحزب والأمة، وتتوقف عن الكيل بمكيالين في البيت القومي الواحد وتحت السقف الواحد.
ـــ إشاعة مناخٍ في أوساط محور المقاومة، يقول بضرورة، بل بوجوب، توحيد الحزب، لما للوحدة من دور أساسي يصبّ في مصلحة المقاومة. وعليه، تأخذ المعادلة الذهبية هذه الصيغة: الحزب يحتاج إلى أصدقائه في محور المقاومة، ليستعيد وحدته وقوّته وفاعليته، ومحور المقاومة يحتاج إلى الحزب لامتلاكه رؤية استراتيجية متكاملة للمنطقة ـــ ميدان الصراع ـــ لا يقدر غيره على وضعها.
إنّ استراتيجية الحزب تتلخّص في أنه ـــ على العكس من حلفائه جميعاً ـــ حزبٌ قادرٌ على أن يكون حاضراً في كل مكان، على امتداد الجغرافية السورية، فهو، منذ نشأته عام 1932، حزب منتشر في كل منطقة وكل مدينة وكل حي، وفي كل طائفة دينية وكل إثنية عنصرية وكل حزبية قبلية، موحِّداً بينها جميعها، على قاعدة الانتماء إلى وطن واحد هو سوريا بحدودها الجغرافية المعروفة. ويدرك أفرقاء محور المقاومة، أصدقاء وحلفاء، هذه الحقيقة، حقيقة انتشار الحزب في المناطق السورية كافّة وتمدّده إلى الشرائح الاجتماعية جميعها من دون استثناء، ويلمّحون إلى هذه الحقيقة بصيغ مختلفة، من وقت إلى آخر، من دون أن ينسبونها إلى هذا الحزب مباشرة، أو يسمونه بالاسم، كمطلقها وباذر بذورها في هذه البلاد. ولكنّهم يجزمون بحاجتهم إلى فريق من بينهم، يتمكّنون بواسطته من الإمساك جيداً بالأرض التي يقاتلون فيها، حتى بعد انتهاء المعركة الجارية فوقها، وخروج سوريا، بأكملها منتصرة منها، بعدما أصابت الحرب مقتلاً في إنسانها وعمرانها واقتصادها وثقافتها...
هذه القوى، الأحزاب منها والدول، والتي تشكّل «محور المقاومة»، غير قادرة على المدى الطويل، من دون الحزب السوري القومي الاجتماعي، على أن تكون قوة فاعلة ومرحّباً بها على الأرض السورية، وفي أوساط الشعب السوري عامة. فللسوريين الذين يرحّبون، اليوم، بهذه القوى الداعمة لهم في حربهم ضد الإرهاب الدولي والتكفيري، لهؤلاء مآخذ جمّة على هذه القوى والدول المعنية، يؤجلون البحث فيها إلى ما بعد الانتصار النهائي في الحرب. من هذه المآخذ يذكرون أطماع بعض هذه الدول في أجزاء من بلادهم، خصوصاً أنه سبق أن احتلّت مناطق عزيزة منها ولا تعترف باحتلالها لها، ولا تقبل مفاوضات بشأنها، ويذكرون، أيضاً، استفزاز البعض الآخر، بشعاراته وسياساته الخرقاء، لمشاعر قسم كبير من السوريين، الأمر الذي سيدفع هؤلاء، حتماً، إلى مقاضاته. بل إن شرائح واسعة من هذه القوى ستجد نفسها مضطرّة، يوماً ما، إلى البحث عن فضاءات أوسع لحركتها، فضاءات تلبّي طموحاتها الكبيرة، هذه الطموحات التي تعجز تنظيماتها الحالية عن تأمينها لها، لانغلاقها الروحي وجمودها العقدي. وقد استفتينا، بهذا الخصوص، عدداً من الأصدقاء في محور المقاومة وأظهروا، من جهة، ارتباكاً واضحاً في كيفية التعامل مع التطوّرات المنتظرة غداة الإعلان عن الانتصار النهائي على محور الأعداء، كأنهم لا يتوقعون هكذا استحقاق؛ ورغبة جادة، من جهة أخرى، في الاستفادة من أي اقتراح أو وجهة نظر يمكن أن تساعد في اختطاط سياسة جديدة، تستوعب تحدّيات المرحلة المقبلة، وقد لاقت أفكارنا هذه استحساناً وتشجيعاً لافتين في أوساطهم. هذا الحزب، إذن، قادر وحده على أن يكون في كل مكان على امتداد الوطن السوري كله، وهو فعلاً موجود في كل مكان، ومتجذّر في وجوده: حضورٌ بشريٌ متجانسٌ، وعقيدة وحدوية جامعة، ونظامٌ جديدٌ موحّد القوى المادية والروحية للمجتمع. وهو حزب لا يحتاج إلى إذن أو دعوة من أحد، ليأخذ مكانه أو ليكون حيث يجب أن يكون، لأنه حزب الشعب، كل الشعب السوري، حزب المنتجين، وحزب المثقفين، وحزب ممزّقي الثياب، وحزب العاطلين عن العمل، الخارجين من صفوف العمّال والفلّاحين والكادحين، الذين حرّرتهم القومية الاجتماعية من قيود الذل والخنوع! بهذا المعنى، الحزب هو عصب هذا المحور/ محور المقاومة. إنه حزب الأمة التي تواجه تنّين الجهل والطائفية والعمالة للأجنبي، وهو حبل النجاة لحلف المقاومة. إنه ـــ بكلمة واحدة ـــ جامعة العقائد! لذلك، فإنّ الحلف يحتاج إلى هذه الحركة، كما يحتاج إلى هذا الحزب، ويجب تأمين حضورهما بقوة.

*أستاذ جامعي