صدرت، أخيراً، مذكّرات إيلي فرزلي بعنوان «أجمل التاريخ كان غداً». ولولا الانشغال بالـ«كورونا» والانهيار الاقتصادي، وحالة الانهيار الإعلامي، ولولا حجم الكتاب الضخم (في ٨٠٠ صفحة ونيّف) لنالَ ما يستحقّه من عناية ونقد ومراجعة وردّ. قد يكون الكتاب من أهم ما صدرَ عن مرحلة سيطرة النظام السوري في لبنان وعن المرحلة الحريريّة، وهي بلسان شاهدٍ ومُشارك فيها. وبعد قراءته، يمكن الحكم على مصداقيّة المؤلّف ـــ تختلف معه أم تتفق ـــ من خلال الحكم على عرضه للأحداث ولدوره فيها، وعلى أمانته الأدبيّة. ويبدو المؤلّف صادقاً أميناً في روايته بدليل أنّ بعض ما رواه لا يأتي بالضرورة لصالحه: مثل تعامله مع تجربة البقاع الغربي تحت الاحتلال الإسرائيلي وتفاوضه (مع قادة محليّين) مباشرةً مع جيش الاحتلال الإسرائيلي حول تسليم «مطلوبين». وهذه التجربة كان خصوم فرزلي يلمّحون لها عبر السنوات. الدليل الثاني على أمانة روايته، يتأتّى من وصف علاقته بغازي كنعان، وهي ليست في صالحه لأنّه يصف شدّة اعتماده على «الصداقة»، ويُظهر مدى اهتمامه بتنمية ورعاية هذه العلاقة التي تنتهي بقطيعة بين الرجلَيْن (قطيعة من قِبل كنعان). الدليل الثالث أنّ فرزلي يصف علاقته بالحريري ويذكر عرضاً تلقّيه أسهماً في «سوليدير» هديّة من رفيق الحريري. رابعاً، يروي فرزلي قصة عائلته من دون المبالغة والتفخيم، الذي تألفه في سيرة اللبنانيّين عن عائلاتهم. هو يروي بدقّة المعاناة الاقتصاديّة، وحتى شظف العيش، الذي مرّت به العائلة. ويعترف أيضاً أن ليس كل ما في الكتاب من مخزون الذاكرة، بل من روايات أفراد في العائلة (ص. ٨٥).
غلاف الكتاب

وللكتاب نفحة أدبيّة وأسلوب شائق قلّما تجده في مذكّرات السياسيّين. لا أذكر مذكّرات سياسيّة ذات منحى أدبي منذ «حقائق لبنانيّة» لبشارة الخوري (وإن بالغ مارون عبّود في تقريظها). فرزلي الكاتب أبلغ من فرزلي المتحدّث، على فصاحته. وعرض سيرة العائلة يذكّر بالجزء الأوّل من كتاب «سبعون» لميخائيل نعيمة. الكتاب مشغول بعناية ودقّة، ويعتمد فيه المؤلّف على التوثيق والتفصيل والإسناد (وشاب هذا الإسناد الاعتماد، مثلاً، على «ويكيبيديا» (ص. ٣٢)، واعتمادٌ كهذا في الأوراق البحثيّة لطلّابي، يؤدّي إلى نيل علامة رسوب لما هناك من نقص في المرجعيّة الأكاديميّة التحريريّة له). يتقاطع الحديث عن تاريخ العائلة مع تاريخ لبنان والحياة السياسيّة فيه. وسرّتني، مثلاً، القراءة عن عمّه أديب فرزلي الذي كان نائباً حتى عام ١٩٦٨، إذ إنني أذكره في طفولتي عندما كنّا نزور والدي في المجلس النيابي، وأذكر ثناء والدي على أديب فرزلي لبلاغته وعروبته وجديّته وخلقه. يذكّر الكاتب بأنّ أديب لم يتغيّب عن جلسة واحدة في المجلس، وكان موقفه من مقاطعة إسرائيل متميّزاً (ص.٧٦). لكن في السياسة، هناك تناقضات أعاد ترسيخها دور فرزلي في الاجتماع الأرثوذكسي الأخير في مطرانيّة بيروت، حيث تحاول أن توفّق بين بدايات فرزلي العروبيّة العلمانيّة وبين ترويجه للقانون الأرثوذكسي (ونعلم في الكتاب أنه تناقشَ في الإعداد للقانون الانتخابي مع أنطوان نجم (ص. ٦٧٧)، واحد من ألدّ منظّري «الكتائب» تعصّباً وانعزاليةً) ومن خلال تجمّع لا صفة فيه غير الطائفيّة. وفي ما يلي بعض الملاحظات عن الكتاب:
ما يرويه عن علاقة المثقّف بالحاكم، وتطرّقه إلى علاقة شارل مالك ثم سيسيل حوراني ببشير الجميّل، لا يستقيم إذا أخذنا في عين الاعتبار دور مالك الهامشي في حكم الميليشياوي الجميّل. كان الجميّل يستعين به، كما استعان بسيسيل حوراني، في كتابة بعض رسائله إلى مسؤولين أميركيّين (لأن شارل مالك أقرّ يومها بأنه عاجز عن كتابة نصّ رسالة بالإنكليزيّة). هذا القسم ضعيف، ويُغفل فيه المؤلّف دور سيسيل حوراني، منذ الستينيّات، في الترويج لسياسات الاستسلام أمام إسرائيل، وحتى دفاعه عن سعد حدّاد (مع أن فرزلي استشهد بكتاب «رحلة لم تكتمل» لحوارني في جزئيْه، ص. ١٥). في عرضه لحكاية الهجرة اللبنانيّة إلى أميركا، يكرّر فرزلي كليشيهات فولكلورية، مثل أنّ بعض اللبنانيّين «المستنيرين» هاجروا إلى أميركا «طلباً للحريّة وهرباً من الظلم العثماني» (ص. ٢٧). من هم هؤلاء وأية حريّة كانوا ينشدونها، وهل مارسوا تلك الحريّة هنا في أميركا؟ هو يذكر بعض الصحف اللبنانيّة والنوادي، لكن أين هي تلك التي مارست حريّة التعبير في أميركا، فيما بتنا نعلم أنّ بعضها كان يتلقّى دفوعات من الحركة الصهيونيّة لخفض الصوت عن قضيّة فلسطين؟ يرِد الكثير عن جدّ الكاتب، الطبيب ملحم، ومن حقّ الحفيد أن يزهو به إذ يظهر شخصاً إنسانيّاً مهنيّاً لم يمارس مهنة الطب حبّاً بالمال، لا بل إنه مارسها في مسقط رأسه في البقاع، حيث الموارد الماليّة شحيحة. وكان جدّه ملحم عروبيّاً استقلاليّاً، بينما تصدمك في الكتاب الطائفيّة الصارخة لفارس الخوري الذي طالما فاخرَت به كتب التاريخ والشعر القومي الحديث، إذ يقول الخوري لجدّه ملحم: «ماذا جاء بك إلى هنا؟ (يقصد مؤتمر الوحدة السوريّة في عام ١٩٢٨) نحن في سوريا مضطرون إلى مسايرة المسلمين، لكن أنتم في لبنان غير مضطرين إلى ذلك» (ص. ٤٨).
يرِد الكلام عن خير الدين الأحدب (رئيس وزراء في الثلاثينيّات في عهد الاستعمار) كـ«أوائل العروبيّين» (ص. ١٠٩)، لكنّ الوثائق عن محادثاته مع الديبلوماسيّين الأميركيّين (بعد الإفراج عنها في «الأرشيف الوطني» الأميركي بسبب مرور الزمن) تُظهر شخصاً غير عروبي، مستعدّاً لأن يساوم في الوجود الفلسطيني في لبنان. ويذكر المؤلّف عن بدايات الحرب الأهليّة، الدور المفصلي التخريبي (المشبوه) لجول بستاني، مدير مخابرات الجيش اللبناني خلال رئاسة سليمان فرنجيّة (ص. ١٢٥). فجول بستاني شكّل ميليشيا «التنظيم» (برئاسة جورج عدوان وفوزي محفوظ، «أبو روي»)، التي بدأت تدريباتها على السلاح قبل اندلاع الحرب بعدّة سنوات، وكان لها أدوار في إشعال الجبهات عندما تخمد في السنة الأولى من الحرب. ويروي فرزلي عن تشكيل بستاني هذا لتنظيم مسلّح في زحلة قبل سنة من الحرب، وينسب له قوله عن ضرورة «استخدام الشبّان النظيفين في مهمّات قذرة» (ص. ١٢٥). ويتحدّث فرزلي عن دور تخريبي لمخابرات الجيش في تسعير الصراع في زحلة وجوارها، حيث يقول: «داخلتني شكوك حقيقيّة حول دور متعمّد للشعبة الثانية في الجيش لتسعير نار الحرب» (ص. ١٢٦). وتعاون جول بستاني مع الأب أندريه حدّاد لإقامة «مخيّمات الرجولة» (تذكّر بمخيّمات الشباب النازي) وتخزين السلاح في أراضي دير مار المخلّص (ص. ١٧٩). ودور مخابرات الجيش اللبناني (التي كانت وراء اغتيال معروف سعد) بالإضافة إلى دور المخابرات الأردنيّة، هي من الأدوار التي لم تحظَ بعد بعناية الدارسين، أو بعناية الذين يريدون فهم مسار الحرب الأهليّة.
أكثر ما سيهم اللبنانيّين من الكتاب هو التوصيف التفصيلي (والمُتعاطِف) لشخصيّة غازي كنعان


وأكثر ما سيهمّ اللبنانيّين من الكتاب، هو التوصيف التفصيلي (والمُتعاطِف) لشخصيّة غازي كنعان. ويروي فرزلي ما لا يرِد في أحاديث السياسة في لبنان بعد اغتيال الحريري، حيث تعرّض تاريخ شديد المُعاصَرة، إلى تزييف وتشويه. يريد فريق ١٤ آذار أن يصوّر رفيق الحريري وصحبه، على أنهم هم كانوا المعارضين الشجعان لغازي كنعان وسيطرة النظام السوري، فيما يذكر فرزلي أن الوحيد الذي عارضَ غازي كنعان وبقوّة، كان إميل لحّود (الوحيد ربما بين الساسة في سوريا ولبنان الذي لم يضعف أمام إغراءات المال الحريري). تقرأ أن لحّود ـــ وحده ـــ كان المسؤول عن ترحيله عن لبنان وإخراجه من الملف اللبناني. فقد طلبَ لحّود من القيادة السوريّة مباشرةً إزاحة كنعان، قائلاً: «لا يستقيم الأمر مع وجود رئيسيْن في لبنان، واحد منهما يجب أن يذهب» (ص. ١٦٣). وهذا من إنصاف فرزلي لأنّ العلاقة بينه وبين لحّود لم تكن حسنة. هل يمكن أن نتصوّر أنّ جنبلاط أو الحريري أو مروان حمادة أو الياس هراوي أو نبيه برّي، الذين أطاعوا النظام السوري من دون سؤال، تجرّأوا على الطلب من القيادة السوريّة نقل عنصر مخابرات، لا نقل رئيس المخابرات السوريّة، عن لبنان؟ أكذوبة ١٤ آذار حوّلت لحّود إلى دمية بيد النظام السوري، فيما صوَّرت رفيق الحريري المُطيع مقاوِماً بطلاً ضدّ إرادة النظام السوري.
العلاقة بين فرزلي وكنعان رافقها صعود وهبوط، وتشعر من رواية فرزلي أن العلاقة لم تكن كما تصوّرها فرزلي. لا أعني أن فرزلي زيّف في الرواية، لكن انطباع القارئ عن تلك العلاقة لا يتطابق مع انطباع فرزلي نفسه، الذي يصرّ على تصنيفها في خانة الصداقة. كيف تكون صداقة عندما يكون شكل العلاقة المتوتّرة، التي أحياناً يعامل كنعان فيها صديقه فيها بعطف وودّ، وأحياناً أخرى بالصمت والجفاء، حتى المقاطعة؟ وعندما يرافق فرزلي كنعان عندما تكون ابنته تتسوّق في زحلة: هل هذه تعكس علاقة نديّة بينهما؟ هل كان كنعان، مثلاً، يرافق فرزلي عندما يتسوّق أفراد من عائلته؟ وفي نبرة فرزلي عن كنعان عتاب أكثر ما فيها من غضب (مُبرّر من قبله) على نكران كنعان للجميل ولوفاء فرزلي له ولسياسات النظام السوري. ويتّسم تصوير فرزلي كنعان باللين والعطف الشديد، أمّا الفساد والقسوة التي رافقت مرحلة حكمه، فلا ترد في الكتاب. ليس هناك من ذكر لثكنة فتح الله أو لعمليّات قمع وقتل وخطف مارستها المخابرات السوريّة في لبنان. أمّا فساد كنعان المالي، فهو لا يرِد إلّا في ختام الكتاب، وعرَضاً، ويزيد فرزلي أن الثراء الفاحش كان سائداً (يقول: «بالتأكيد ظهرت عليه مظاهر الثراء الفاحش، لكنه لم يكن الوحيد بين المسؤولين السوريّين»، ص.٥٥٤). وكنعان في الكتاب يقرّع ويهين جميل السيّد، وهذا يعطي فكرة عن طبيعة شخصيّة الرجل.
يروي فرزلي مرحلة الاحتلال الإسرائيلي في البقاع الغربي. والذي عاش تلك المرحلة، يتذكّر مهانة العيش تحت الاحتلال، وكيف كان المخاتير ورؤساء البلديّات (يعمد الاحتلال الإسرائيلي والأميركي دائماً إلى إنعاش الزعامات التقليديّة البائدة، فمنطقة الجنوب، مثلاً، كانت تحت حكم الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة منذ عام ١٩٧٥) يُنصَّبون من قبل قوّات الاحتلال كالممثّلين الشرعيّين الوحيدين للأهالي. ففي صور، عاد أولاد كاظم الخليل إلى المدينة بمجرّد أن وصلت قوّات الاحتلال إليها، وأصبحوا مرجعاً للسكان للتوسّط مع قيادة الاحتلال. لكن فرزلي تتطوّع لمرافقة «وجهاء البلدة» (ص. ١٦٨) وقبِل المهمّة على ما فيها من مهانة: العدوّ كان يطالب بتسليم مطلوبين، والضابط خاطب فرزلي قائلاً: «إما أنك ذكي كبير أو حمار كبير». (أجابه فرزلي أنّ كلامه «لا يليق أن يقوله ضابط مسؤول بحق محامٍ معروف»، ص. ١٧٠). هذه مهمّة كان يمكن لفرزلي أن يتجنّبها. أذكر عندما عشتُ لأشهر في منطقة صور تحت الاحتلال الإسرائيل أنّ الناس كانوا يومها يستسهلون التعاطي مع جيش الاحتلال، ويتبرّمون من الذين يطالبون بمقاطعتهم وتجنّب مصافحتهم أو الكلام معهم.
سرّني في الكتاب إيراد الكاتب للدور العسكري والسياسي الهائل للرهبانيّات المارونيّة في الحرب الأهليّة. التكاذب الديني والطوائفي في لبنان، منع فتح ملف الدور التخريبي والإرهابي للرهبانيّات ومعاونتها للميليشيات المتعاونة مع إسرائيل. والأباتي شربل القسّيس كان في فلسطين المحتلّة، يوم اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان (يجب التعامل مع كلّ الزيارات الدينيّة، لمسيحيين أو دروز إلى الأراضي المحتلّة على أنها زيارات مشبوهة ومتعاوِنة مع سلطات الاحتلال، بما فيها الزيارة المشبوهة للبطريرك الراعي، الذي خطرَ له فجأة تفقّد الرعيّة في فلسطين المحتلّة ـــ وبإيعاز مرجّح من الحكومة الأميركيّة). شربل قسّيس فتح أمام ناظري فرزلي خريطة لبنان وقال: «ماذا يفعل مسيحيّو جزين هناك؟ لم يعد لديهم خبزٌ فيها. لماذا لا يلتحقون بمناطقهم» (يقصد بيروت الشرقيّة، ص. ١٨٦). وكان شربل قسّيس وزملاؤه من أعوان إسرائيل في ميليشيات بيروت الشرقيّة من أنصار تقسيم لبنان (مشروع التقسيم استبدلَ بمشروع السيطرة على كل لبنان بعد وصول شارون إلى وزارة الدفاع في عام ١٩٨١).
ويرسم فرزلي صورة عن شخصيّات سياسيّة مختلفة. تقرأ عن صنيعة غازي كنعان، ميشال سليمان، كيف أنه عندما قدّم أوراق اعتماده له «أخبره أنّ جذوره تعود إلى طرطوس» (ص. ٦٣٤). يروي أنّ وليد جنبلاط قال لجميل السيّد عن الفرزلي، في عام ١٩٨٥: «أعدّوا له كفنه» (ص. ٢٤١). ينسى الناس هذا الجانب من شخصيّة جنبلاط أثناء الحرب. لجأ جنبلاط وصحبه من أبطال الحرب إلى نسب كلّ الجرائم التي جرت، فقط إلى النظام السوري. وينسى الناس مثلاً أنّ جنبلاط هدّدَ سليم الحص ذات مرّة بالقتل، من وراء طاولة مجلس الوزراء.
ويتحدّث فرزلي عن مرحلة إيلي حبيقة (مجرم الحرب، ربيب إسرائيل)، والرجل تمتّع برعاية مزدوجة (ومُنسَّقة) من النظام السوري ومن رفيق الحريري. ونعلم من الكتاب كم كانت إقامة حبيقة وصحبه في ميليشياه مزعجة وخطرة على مدينة زحلة. أراد حبيقة أن يجعل من زحلة «القاعدة المسيحيّة» (ص. ٢٥٢) لميليشياه. وعن تفجير كنيسة سيّدة النجاة، يروي فرزلي القصّة بتفاصيلها، خصوصاً أنه نجا بأعجوبة من التفجير بعدما تحطّم وجهه في الانفجار، الذي اعترف له جعجع بعدها بمسؤوليّته عنه (ص. ٢٦١) في مطلع التسعينيّات في عشاء شخصي. ويروي فرزلي تفاصيل وقوع الاختيار على رينيه معوّض، ثم على الياس الهراوي رئيسيْن. وخلافاً لأكاذيب ١٤ آذار التي جعلت من رينيه معوّض مناضلاً عنيداً ـــ مثل رفيق الحريري وجنبلاط ـــ للنظام السوري، فإنّ اختيار رينيه معوّض كان قراراً من حافظ الأسد (ص. ٢٧٨) وبتوافق من دول الخليج. وروى كيف أن حظوظ جان عبيد لخلافة معوّض زالت بعدما صارح عبيد عبد الحليم خدّام، بأنه سيُجري حواراً مع ميشال عون، إذ أن خدّام أجابه: «تريد أن تحاور عميلاً للفاتيكان وفرنسا»؟ فما كان من عبيد إلّا أن أجابه: «أنتم حاورتم مَن كان عميلاً لإسرائيل» (في إشارة إلى حبقية) (ص. ٢٨٢). أما الهراوي، فأجاب عن سؤال التعامل مع عون بالقول: «أنزل إلى الـ«بنكر» وأُمطره بالمدافع» (ص.٢٨٣). ولم تكن المخابرات السوريّة في تسلّطها في لبنان تحاول أن تتعامل بلباقة، إذ أن كنعان يقول للفرزلي (صديقه) بعدما وقع اختيار (النظام السوري) على الياس الهراوي: «اذهب وائتِ به» (ص. ٢٨٣). ويربط فرزلي، وعن حق، بين سياسات وخطوات الهراوي وبين العقل التآمري لجوني عبده ورفيق الحريري (ويشدّد فرزلي على دور عبده المشبوه، ص. ٢٨٥). ويربط فرزلي المؤامرة على حكومة عمر كرامي في عام ١٩٩٢ بالهراوي والحريري و«القوّات اللبنانية» «وبعض المصارف» (ص. ٣٠٢). لا بل إن فرزلي ينقل عن جميل السيّد علمه بمحاولة انقلابيّة من قِبل الهراوي والحريري وجوني عبده «للقبض على الدولة» (ص. ٤٣٦).
كما يتّضح من سرديّة فرزلي، أنّ مشكلة حسين الحسيني واستقالته من النيابة في عام ١٩٩٢، كانت بسبب فوز قائمة حزب الله بكامل أعضائها (ترك الحزب مقعديْن شاغريْن، للحسيني وآخر حلّ فيه يحيى شمص، ص. ٣١٧). أي أنّ الحسيني كان مثل جنبلاط، يريد أن يفوز هو وحده، وأن يرسب كل منافسيه. لكن الحسيني أصبح رئيساً للمجلس بقرار النظام السوري، بعدما افترق كامل الأسعد عن سوريا (وكان الأسعد طوال سنوات الحرب الأهليّة، حتى اجتياح ١٩٨٢ ـــ والاجتماع الشهير مع ميشال المرّ ـــ من أقرب حلفاء النظام السوري في لبنان). كما يروي فرزلي كيف أنّ الهراوي والحريري أقصيا جورج أفرام، في عام ١٩٩٣، بعدما لزَّم شركة إيطاليّة لتأهيل الكهرباء، واستبدلاه بإيلي حبيقة (ص. ٣٢٤). ويروي فرزلي أن حافظ الأسد رأى أن لسوريا مصلحة في وجود رفيق الحريري على رأس الحكومة، وهي أطلقت يده في «الشؤون المالية والاقتصاديّة» (ص. ٣٣٧). ويتضح كم أن التغطية الطائفيّة في لبنان هي الحامية الأهم للفساد والفاسدين، إذ أن البطريرك الماروني مار نصرالله صفير بادر فرزلي بالقول: «يا ابني، أليس هناك لصوصٌ إلا الموارنة»، وذلك عندما ترأس فرزلي لجنة نيابية للتحقيق في صفقة الـ«بوما»، التي تمّت في عهد أمين الجميّل (ص. ٣٣٩)؟ وعندما حاول فرزلي مع آخرين محاربة مشروع لاحتكار الحريري لنشرات الأخبار في لبنان، اعكتف الحريري ولجأ ـــ على عادة الحريريّة منذ وصول الحريري إلى لبنان ـــ إلى السلاح المذهبي وتأجيج الشارع. فما كان من غازي كنعان إلّا أن اتصل بفرزلي قائلاً «بلجهة استياء: اذهب وبلّغ الحريري أن عليه فتح باب البيت من جديد والتراجع عن الاعتكاف» (ص. ٣٦٩)، وطبعاً نفّذَ حريري الأمرَ وأطاعَ، على عادته في الرضوخ. وعن تفضيل الحريري للهراوي رئيساً أبديّاً، قال فرزلي أمام المسؤولين السوريّين والحريري: «رئيس مفسود أفضل له من رئيس يتولّى إفساده من جديد» (ص.٣٧٤). ويضيف فرزلي أن وجنتي الحريري احمرّتا وانتفخت أوداجه. ويظهر في الكتاب كم أنّ الحريري كان يمقت المسيحيّين في لبنان، ويصرّ على احتكار تمثيلهم، وهو خرّب حواراً بين قيادات مسيحيّة والنظام السوري، عبر نسب قول (مزوّر) للبطريرك صفير يقول فيه إن الحوار هو بين مسيحيّين وعلويّين (ص. ٣٩٨).
ويروي فرزلي أنه بحث في عام ١٩٩٧، بعدما أمر رفيق الحريري بالقضاء على الحركة العمّالية، مع جميل السيّد وإميل لحّود، في أمر إجراء انقلاب عسكري (سلمي) لتسلّم السلطة، إلّا أنّ غازي كنعان غضب من الفكرة، وقال: «هل تريدون إدخالي أنا وأنتم إلى السجن؟ هل تريدون أن تُعلَّقوا على المشانق؟ توقّف. بلا ولدنة» (ص. ٤٨٤). ومحقّ فرزلي في وصفه للحريري بعد انسحاب إسرائيل من لبنان ووفاة حافظ الأسد، أنه بدأ بالرقص على حبليْن: «حبل المعارضة المسيحيّة من خارج النظام، وحبل النظام نفسه من داخله، وهو في صلبه يستفيد من خيراته ومواقعه» (ص. ٥٠٠). ويتساءل فرزلي عن سبب إصرار نبيه برّي على عقد جلسة مناقشة عامّة (ص.٦٠٠) بعد اغتيال الحريري، وهي الجلسة التي نقلت السلطة ـــ بإصرار أميركي ـــ إلى فريق ١٤ آذار، عبر إسقاط حكومة عمر كرامي والتعجيل بانتخابات نيابيّة (ويظهر ميقاتي هنا كمشارك في المؤامرة مع تيري رود ـــ لارسن وجيفري فيلتمان، ص ٦٠٤).
بات هذا الكتاب مرجعاً أكيداً في التاريخ المعاصر للبنان، وخصوصاً مرحلة سيطرة النظام السوري. تقرأ الكتاب وتجد إجابات عن أسئلة، وتبقى أسئلة أخرى معلّقة من دون جواب: عن سرّ تعلّق فرزلي بـ«الصداقة» مع غازي كنعان، حتى بعد إظهار الأخير الجفاء له، أو انتقال الكاتب من العروبة العلمانيّة إلى القانون الأرثوذكسي السيّئ الذكر، أو اقتراح الكاتب استقالة عمر كرامي بعد اغتيال الحريري، ما سهّل مؤامرة ميقاتي ـــ لارسن ـــ فيلتمان. لكن رواية فرزلي تشدّ القارئ، وعلى الذين تناولهم في الكتاب الردّ أو المناقشة، إذا كان هناك ما يستدعي ذلك.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)