لم يستطع معظم الإعلام العربي، الذي يطرح نفسه كإعلام «ليبرالي»، الحفاظ على الحد الأدنى من المعيارية المهنية، حيث من المفترض أن يعكس وجهات نظر متعددة، تقارب الحقيقة ولا يدعيها! وذلك حرصاً على «صدقيته» واحتراماً لعقل المشاهد. وهذا ما لم يحدث. فالشعارات البراقة التي ترفعها بعض المحطات مثل «أن تعرف أكثر» أو «الرأي والرأي الآخر»، ليست في الواقع، سوى تمويه، لتغطية وظيفتها الحقيقية.
والذي يحدث على وجه الدقة، هو طغيان «الرأي على أي رأي آخر». وأما حقيقة «أن تعرف أكثر»، فهي رهن بما يراد للمتلقي معرفته، ضمن سياسة ممنهجة، تفضي إلى تزييف الوعي. بحيث يُضخَّم جزء من الصورة، ويُقدَّم كمتن، مقابل تشويه الحدث المؤثر وتهميشه. وهنا لا يعود مجدياً التأكيد المكرر أنّ «الإعلام قد يُمنع أو يُحارب، لكنه لا يتوقف عن قول الحقيقة»! لكونه في الماهية، إعلاماً وظيفياً، موجّهاً، ينمّ عن تأخر معرفي وحضاري، يتعارض مع أبسط مفاهيم الديموقراطية ومبادئها.
لو عدنا إلى بداية الحراك العربي، لرأينا كيف كانت محطة «الجزيرة» تدعي ريادته إعلامياً. لكن مع فشل تجربة «الإخوان» في حكم مصر، سقط خطابها المقنّع بالحرص على حق الشعوب في تقرير مصيرها، حيث ظهر وجهها الوظيفي، المسوّق للمشروع الإخواني بشكل فاضح، فمنعها من رؤية الملايين في 30 يونيو، ولتصوّر المشهد على أنه «انقلاب على الشرعية»!
بهذا الانحياز الفجّ للجماعة، خسرت الجزيرة جزءاً كبيراً من صدقيتها، وبات شغلها الشاغل، إعادة عقارب الساعة إلى الخلف. في المقابل، كانت محطة «العربية»، لأسباب سياسية وأيديولوجية أكثر حذراً، وهو ما جعلها تتقدم على نظيرتها القطرية.
في الأزمة السورية، وقعت «العربية» بمطب قرينتها نفسه، حين ظهر توجهها السياسي بنحو طاغٍ، أخرجها عن مهنيتها الإعلامية. وهنا لا يعود مجدياً الحشد الذي تقوم به «العربية» بعدما تحولت إلى طرف في النزاع، وتعمدها حصر التمثيل الشعبي والمعارض بـ«الائتلاف»، وتبنيها لكل مواقفه ورواياته بغض النظر عن مدى صحتها. والمسألة ليست بحاجة لتحليل معمق، فأيّ سياسي يقف على مسافة من النظام والمعارضة، سيدرك أن تخوّف المعارضة من ترشح الأسد بعد «جنيف 2»، ناجم عن تنامي شعبية تؤهله التقدم على خصومه، أفرزها تفكّك المعارضة وتحول «الثوار» لـ«مجاهدين»، وإلّا فضلت هزمه عبر الانتخابات وكشفت حجم تمثيله الحقيقي!
وفي آخر صيحات هذا الإعلام، خروجه علينا بفكرة أنّ تنظيم الأخوين «داعش» و«النصرة» هما من إنتاج المخابرات الإيرانية والسورية! والسؤال إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يوافق وفد «الائتلاف» على بند مكافحة الإرهاب، ما دام يملك الوثائق على ما يدعي. أليست هذه فرصته التاريخية ليحاكم النظام، وينقضّ عليه؟ الحقيقة أن وفد «الائتلاف» في وضع لا يحسد عليه؛ إذ إنّه لأكثر من عامين، يوفر الغطاء السياسي والدعم اللوجستي لكل الجهاديين المعولمين، ويتحالف معهم ميدانياً، حتى جاء أمر مقاتلتهم ظرفياً! والآن، يريد لنا أن ننسى ذلك، بذريعة أنهم كانوا مخدوعين! الكارثة أنّ «الائتلاف» غير المرضي عنه، والعاجز ميدانياً يعتقد أن بمقدراته اللغوية في إعراب الجمل يستطيع كسب جملة «الهيئة الانتقالية» للوصول إلى الحكم.
وبالعودة لما يدعيه «الائتلاف»، نجد أنّ الإعلام الداعم له يقدّم خدمة مجانية بغير قصد حول ارتباط قيادات من «القاعدة» بالنظامين الإيراني والسوري، الأمر الذي يشكّل تهديداً جدياً للأوروبيين والأميركيين في حال عودة الجهاديين لبلدانهم، لمعرفتنا أنّ الولايات المتحدة لم تكن لتتخوف من القاعدة لكونها صنيعتها، لذلك كان تخويفها غير ذي جدوى. ولكن إن صحّ هذا الاختراق، فعندها يصبح التهديد حقيقياً، وهو ما يفرض على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إرسال الوفود الأمنية للتفاوض، مع طهران ودمشق!
في الجانب الإنساني، لم تكن قناتا «الجزيرة» و«العربية» مقنعتين، لعلمنا أنّ الهدف الحقيقي وراء ذلك، يكمن في تهيئة الرأي العام لإمرار مشروع التدخل الخارجي عبر مجلس الأمن من بوابة الملف الإغاثي! ففي تغطيتهما للمناطق المحاصرة، تحضر المبالغة لدرجة انعدام المعقول، إذ ليس مفهوماً كيف يبقى المحاصرون على قيد الحياة لعام وأكثر بلا غذاءٍ وماءٍ ودواء، بينما يستمر وصول السلاح عبر الأنفاق! فضلاً عن أن حواجز الجيش تسهّل مرور السلع، وإن بأسعار خيالية.
وأما ما جرى التركيز عليه في جنيف، بخصوص إيصال المساعدات الإغاثية، وإخراج المدنيين من حمص القديمة تحديداً، فالمسألة ليست إنسانية بالمطلق؛ إذ كانت تخفي جانباً أمنياً، يفسره إحكام الطوق وتدمير كل الأنفاق المؤدية إليها، إضافة إلى إصرار وفد الحكومة، بضرورة تقديم قوائم اسمية للمحاصرين، وتكليف شرطة نسائية للتفتيش/ وضمناً المنقبات، كي لا يحاول البعض، التنكر والهرب! يضع أكثر من إشارة استفهام. وبتقديري، فإنّ التفاوض كان حول عناصر استخبارات غربية تريد واشنطن إخراجهم، تحت غطاء إنساني كبادرة واختبار أولي. وإذا ما نجح الأمر، يمكن أن يُستتبع بمدينة داريا مقابل تقديم تنازلات للنظام، في ختام مفاوضات «جنيف2».
إن التوظيف السياسي للشأن الإنساني أمر مشروع، شرط أن يكون معقولاً وغير انتقائي، فتركيز قناتي «العربية» و«الجزيرة» على البراميل المتفجرة يجب أن يأتي بالتوازي مع سقوط قذائف الهاون وأسطوانات الغاز التي يطلقها «مدفع جهنم» على المدنيين بالضفة الثانية! ولكن لو أمعنا النظر بمسألة البراميل، لرأينا أن الهدف منها إنهاك البيئات الحاضنة، والدفع بها للضغط على المسلحين للمغادرة أو المصالحة.
تبقى مسألة السكوت عن الجرائم، التي ترتكبها «النصرة» و«الجبهة الإسلامية» في عدرا العمالية، ومحاولة تغطيتها بأحداث مخيم اليرموك، فهذا تذاكٍ مخيّب. كذلك إن تغطيتهما المنحازة لحصار المخيم، لم تنجح في انتزاع الورقة الفلسطينية وكسبها، بل ربما أعادا تثبيتها لمصلحة النظام. ولنا في تصريحات وزير العمل الفلسطيني، وغيره من قيادات منظمة التحرير، التي تؤكد اختطاف المخيم، من قبل المجموعات المسلحة والمتطرفة، خير دليل لما نذهب إليه. فهل من مراجعة، يجريها هذا الإعلام، ليكون أكثر إقناعاً؟
* كاتب سوري