بعد وصول جائحة «كورونا» إلى أوروبا وأميركا، ووقوع الكارثة في كلٍّ من إيطاليا وإسبانيا على وجه أخصّ، وحدوث حالة من الرعب والهلع في كثيرٍ من الدول، ومنها الولايات المتحدة الأميركية. وبحكم أنّ هذه الدول، في هاتين القارتين، تُصنّف بالمتقدمة وبنظامٍ اقتصادي رأسمالي (بالرغم من وجود الكثير من الاختلافات في ما بينها من حيث النظام الصحّي مثلاً)، انهالت النظريات والتكهّنات بزوال نظام الرأسمالية في العالم، وتغيّر خريطة العالم وحدوث تحالفات جديدة، وتوجّهٍ نحو الصين وروسيا، وذلك لنجاح الأنظمة الاشتراكية في احتواء الوباء عندها. هذه التكهّنات، التي هي ربما انعكاس لرغبات الشعوب المظلومة، قد يكون بعض منها صحيحاً، كانحلال الاتحاد الأوروبي، وظهور تحالفاتٍ جديدةٍ، لكن ليس بالضرورة زوال الرأسمالية، ولا سقوط الولايات المتحدة الأميركية، لنكن واقعيين.
رسم نيكولا بوسين عندما ضرب طاعون جستنيان الفلسطينيون

قد يكون هذا النوع من الأزمات قد لعب دوراً مهماً في إضعاف إمبراطورياتٍ سالفة. فالأستاذ والمؤرّخ كايل هاربر في جامعة أوكلاهوما، في كتابه «مصير روما: المناخ والمرض ونهاية الإمبراطورية»، وبخلاف غيره من المؤرّخين، يعزو ضعف وسقوط الإمبراطورية الرومانية ـــ بالإضافة إلى العوامل المشتركة مع غيره، كالحروب الأهلية، والغزوات البربرية والأزمات الاقتصادية ـــ إلى عاملين مهمّين: وهما التقلّبات المناخية، ووباء الطاعون اللذان امتدّا على مدى قرون.
باعتقاد هاربر، لا يمكن فصل الإنسان عن البيئة، وهو صحيح، إذا حصرنا الموضوع، على الأقل، بأنّ ظهور الأمراض يحتاج إلى اجتماع ثلاثة عناصر، وهي: مسبّبٌ قويٌ للمرض، وجسمٌ مضيف ضعيف أو حسّاس وعوامل بيئيّة ملائمة للمرض. فالإمبراطورية الرومانية لم تنهَر بين ليلة وضحاها، بل أخذت بالضعف والوهن والتفتّت، تدريجياً بين القرن الثاني والسابع. خلال هذه الفترة الزمنية، وبالرغم من مرور فترات ازدهار، عانت الإمبراطورية من تقلّبات مناخية استثنائية، بين سنة 250 و550، أي بين القرن الثالث والقرن السادس. بالطبع، تزامن ذلك مع تحدّيات على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فترات الجفاف الطويلة في القرن الثالث، صاحبتها غزوات بربرية واضطرابات سياسية. أمّا الأسوأ، فهو انخفاض معدّل الأمطار في النصف الأول من القرن السادس، الذي تزامن مع انفجارات بركانية كان أولها في عام 536، ثم في عامي 540 و547. الغيوم البركانية، التي غطّت الشمس آنذاك، أحدثت ظلمةً طويلة. قيل إنّ الإمبراطورية عاشت عصراً جليدياً مصغّراً، وكان أشدّها برداً عام 536، استمرّت فيه الغيوم لمدة ثمانية عشر شهراً، حتى صُنِّف بأنّه عام بلا صيف. هذا المناخ الذي أدّى إلى ندرةٍ في المحاصيل الزراعية كنتيجةٍ حتميةٍ من جهةٍ، كان ملائماً للقوارض الناقلة للجراثيم من جهةٍ أخرى. فالأجسام الضعيفة التي عانت من سوء تغذية، تلقّت طعنة قاسية بإصابتها بالطاعون. طاعون جستنيان (peste de Justinien)، وهو الأفظع، بدأ في مصر عام 541، ووصل إلى القسطنطينية في ربيع عام 542، واستمر إلى عام 767، أي على مدى قرنين، حوالى عشرين دورةً متتاليةً من التفشّي، دامت كل واحدة منها بين الـ9 و13 سنة، وكانت الذروة عام 592. ولعلّها أول جائحة طاعون في تاريخ البشرية، حيث قُدّر الضحايا بعشرات الملايين. يُروى أنّه في يوم واحد، كان يسقط أكثر من عشرة آلاف ضحية في القسطنطينية، وبأنّ عدد سكان روما انخفض من سبعمئة ألف أو ما يقارب المليون إلى عشرين ألفاً بعد هذا الوباء. ولا نغفل، بالطبع، عن أمراض أخرى كانت موجودة آنذاك، كالبرَص والملاريا. التغيّرات المناخية العنيفة والأوبئة المتكرّرة والفتّاكة، كان لها الأثر السلبي المباشر على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
قد تكون جائحة «كورونا» المستجدة سبباً مباشراً لتفكّك الاتحاد الأوروبي، وذلك لما حصل مع إيطاليا لجهة عدم مد يد العون إليها


هل نستطيع إسقاط نتائج ما حصل للإمبراطورية الرومانية على الأنظمة الرأسمالية عامةً والولايات المتحدة خاصةً؟
بالطبع لا، فالسيناريو ليس مطابقاً لأسباب كثيرة، فاستمرار الطاعون على مدى قرنين، كان قد سبقه وواكبه مناخ متقلّب، حتماً أنهكا الإمبراطورية الرومانية. أضف إلى ذلك، أنّ تطوّر العلم ساهم كثيراً في محاربة الأمراض والأوبئة وارتفاع معدل العمر. في عصر الطاعون، لم يكن بالمقدور، لا من الناحية العلمية ولا من الناحية التقنية، معرفة المسبّب للمرض ـــ الذي لم يُعرف إلّا في عام 1894 ـــ وبالتالي إمكانية حدّه وإيجاد علاجٍ له. حتى أنّ كايل هاربر اتّهم الرومان بتواطئهم لتفشّي المرض، وذلك لاستعمال الحمّامات العامة التي كانت عبارة عن مرق للبكتيريا المسبّبة للطاعون، ولركود المجارير، ولإهراءات الحبوب التي كانت تعجّ بالجرذان، واستمرار التجارة في مختلف أقطار الإمبراطورية، من شرقها إلى غربها، وكذلك التنقلات العسكرية. في عصرنا الحالي، الظروف مختلفة، فإنّ الوقت المقدّر لاستمرار جائحة «كورونا» أقصاه سنتان، لحين إيجاد اللقاح. وأمّا بالنسبة إلى المناخ، وبالرغم من التلوّث، فهو ليس بغير اعتيادي. وإذا لم يكن بمقدور الرومان معرفة سبب المرض، فقد استطاع العلماء بسرعة معرفة فيروس «كورونا» المستجد وتسلسله الجينومي، وكيفية دخوله الخلية، وآلية نسخه وتكاثره، وكذلك انتقال العدوى. والتراكم العلمي والمعرفي، والاستفادة من التجارب مع فيروسات سابقة، أمكن استعمال بعض العقاقير المعروفة والمستخدمة ضد فيروسات أخرى، أو ضد جراثيم تدخل الخلايا، لمحاربة الفيروس الأخير. هذه المعطيات ساعدت حكومات الدول، سواءً اشتراكية أو رأسمالية أو غيرها، في اتخاذ التدابير اللازمة للحدّ من انتشار الوباء وحماية مواطنيها، سواءً باكراً كما في الأولى، أو متأخراً كما في الثانية، وكذلك معالجة المصابين. من الأمور التي لها دور في تقليل أعداد الإصابات، هو لجوء الدول إلى إقفال المطارات وإيقاف وسائل النقل المختلفة. نضيف إلى ذلك أنّ هذا العصر، هو عصر الاتصالات والإنترنت، ما يسمح بتبادل المعلومات العلمية والاطلاع على آخر الاكتشافات. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ وسائل الإعلام كافةً (المرئية، والمسموعة، والمكتوبة)، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي، ساهمت في نشر التوعية العامة (بالرغم من تبادل الكثير من الأخبار الخاطئة والمضلّلة في الأخيرة للأسف). وكل هذه العوامل لم تكن متوفرة سابقاً.
قد تكون جائحة «كورونا» المستجدة سبباً مباشراً لتفكّك الاتحاد الأوروبي، وذلك لما حصل في إيطاليا لجهة عدم مد يد العون إليها، لأنّ كل بلد يواجه أزمة واحدة ومتزامنة، وليس لديه ما يكفيه من أجهزة تنفّس لمواطنيه، وسمعنا ما صرّح به الرئيس الصربي. أمّا في ما يخص الولايات المتحدة الأميركية، وهي التي تمثّل الرأسمالية المتوحّشة، فالأمر ليس بهذه البساطة، فهي من أقوى الدول على الصعد الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية. وبالنظر إلى الأخيرَين، فالولايات المتحدة الأميركية، ترصد ميزانيات عالية للبحث العلمي، ويشهد على ذلك وجود مختبرات ومراكز أبحاث مهمة جداً، واكتشافات كان لها الأثر المهم في تطور العلوم كافة، ونحن لا ننكر بالطبع، جهود ومشاركة الدول الأخرى في كل المجالات، وليس للتقليل من شأن أحد من جهة، ولعلمنا ببراعة الأميركيين في التسويق من جهة أخرى، بخلاف الفرنسيين على سبيل المثال. فماذا نتوقع الآن؟
ما يحصل حالياً في العالم، وإن كان هناك تعاون بين الباحثين في الأبحاث الأساسية، ولكن لا نغفل عن المنافسة الشديدة بين الشركات الخاصة، منها المتخصص في مجال العلاج أو اللقاح، ومنها ما هو متخصّص في مجال المواد والمعدات والفحوصات المخبرية. فالأخيرة تسعى للتوصل إلى إمكانية إجراء الفحص أو الاختبار للكشف عن فيروس «كورونا» المستجد بواسطة جهاز محمول، وأن تكون مدته قصيرة، ولتمكين الأطباء من استعماله في عياداتهم، كما هو الحال مع فحص فيروس الإنفلونزا. هذا النوع من الأبحاث يحتاج إلى رصد وضخّ ميزانيات عالية، وهو ما تملكه الدول المتقدّمة، كالولايات المتحدة والصين على سبيل المثال لا الحصر. وهي من ستكون لديها القدرة والوسيلة لإيجاد الاختبارات السريعة، وإيجاد العلاج واللقاح، أمّا الدول الفقيرة والنامية، فستكون في مرحلة انتظار الحلول.
ما بعد «كورونا» سيختلف عما قبلها، على الصعيد العالمي، إذا استمر الحجر الصحي لمدة طويلة، سيؤدي حتماً إلى أزمة اقتصادية، الكثير من الشركات ستواجه الإفلاس. لكن، في المقابل، هناك الكثير من الشركات التي ستجد أسواقاً لها في هذه الأزمة، ونحن نشاهد تحوّلاً في الإنتاج لبعض الشركات. أمّا الولايات المتحدة الأميركية، والتي تمثّل الرأسمالية المتوحّشة ـــ بخلاف بعض الدول الأوروبية والاسكندنافية التي تمزج بين الرأسمالية والاشتراكية، حتى الصين هي خليط اشتراكي رأسمالي ـــ وإن باغتها الوباء، قد يُضعفها، ويفضح وحشية نظامها، أقلّه على مستوى نظام صحّي غير عادل. فدولة تعمل للسيطرة على مقدّرات دول أخرى، ألا تملك خططاً بديلة من قبيل «أ» و«ب» للسيناريوات المختلفة؟ حتماً لديها خطط، وستستطيع إدارة الأزمة والخروج منها، وإن كان عدد الضحايا عالياً. قد تكون الشركة التي ستنتج اللقاح هي أميركية، فتحقّق أرباحاً هائلة. إحدى النتائج المقلقة، هي زيادة الهوّة بين الدول المتقدّمة والدول الفقيرة، ودائماً الفقير هو من يدفع الثمن.
من ناحية أخرى، نتمنى أن يزداد الوعي عند الشعوب والحكومات لتعزيز البحث العلمي، بدلاً من الاستثمار في الأسلحة والألعاب الرياضية ودفع أموال طائلة للاعبين (ليس ضد الرياضة بالطبع)، كما كان يفعل أباطرة الرومان سابقاً، بتوزيع الخبز وتنظيم الألعاب لإلهاء الشعب، وهو ما يستنكره التعبير المعروف بـpanem et circenses والذي يعني «خبز وألعاب». لعلّ هذه الجائحة توقظ البشرية من سبات، لأنّها أظهرت للعالم أجمع أنّه، وبالرغم من تقدّم العلم، ليس بمأمن من الأوبئة.

المراجع

1. J.N Biraben, Les hommes et la peste en France et dans les pays européens et méditerranéens., t. I : La peste dans l'histoire, Mouton, 1975 (ISBN 2-7193-0930-3). p. 44.
2. Büntgen U, Tegel W, Nicolussi K, McCormick M, Frank D, Trouet V, Kaplan JO, Herzig F, Heussner KU, Wanner H, Luterbacher J, Esper J. 2500 years of European climate variability and human susceptibility. Science. 2011 Feb 4;331(6017):578-82. doi: 10.1126/science.1197175. Epub 2011 Jan 13. PubMed PMID: 21233349.
3. Ulf Büntgen, Vladimir S. Myglan, Fredrik Charpentier Ljungqvist, Michael McCormick, Nicola Di Cosmo, Michael Sigl, Johann Jungclaus, Sebastian Wagner, Paul J. Krusic et Jan Esper, Jed O. Kaplan, Michiel A. C. de Vaan, Jürg Luterbacher, Lukas Wacker, Willy Tegel & Alexander V. Kirdyanov, « Cooling and societal change during the Late Antique Little Ice Age from 536 to around 660 AD », Nature Geoscience, no 9,‎ 2016, p. 231–236.
4. Alain J. Stoclet Les sociétés en Europe du milieu du vie à la fin du ixe siècle : Mondes byzantin, slave et musulman exclus : choix de textes [archive] Presses universitaires de Lyon, 2003 (ISBN 2-7297-0732-8 et 9782729707323).

*أستاذ مساعد في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية