في ظلّ الأزمات الاقتصادية، المالية، النقديّة، والاجتماعية الخانقة التي عصفت بلبنان، أخيراً، وبسبب عزوف الدول التي طالما كانت داعمة له في إدارة كل شؤونه، عن تقديم يد العون له وتركه وحيداً لمصيره في مواجهة أزماته، وفي غياب أيّ تمويل آخر، برز في الآونة الأخيرة النقاش بشأن اللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ كملجأ أخير لتوفير الدعم المالي. فبين مؤيّد ومعارض، هل بات اللجوء إلى هذا الصندوق أمراً لا مفرّ منه؟ وهل كانت تجارب الدول التي عانت من أزمات وتعثّرات لجأت على إثرها إلى الصندوق، مشجّعة وناجحة؟ممّا لا شكّ فيه أنّ لبنان يعاني أزمات عديدة ومعقّدة ترتّب آثاراً وخيمة على المؤشّرات الاقتصادية والمالية، كارتفاع العجز في الحساب الجاري، والعجز في المالية العامّة، والعجز في ميزان المدفوعات، وارتفاع نسبة العجز من أصل الناتج المحلّي، وارتفاع مستوى الدين العام من الناتج المحلّي. كلّ ذلك أفضى إلى توقّف لبنان عن سداد ديونه السيادية في آذار. وممّا زاد الأزمات حدّة، انهيار نظام سعر الصرف الثابت للعملة الوطنية عمليّاً، والذي كان قائماً منذ عقود، فأظهر ذلك أنّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار كان معتمداً عند مستوى غير واقعي وحقيقي في الفترة السابقة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ الدولار الواحد لم يكن يوماً يعادل 1515 ل.ل.، وأنّ تثبيته على هذا الشكل كان أحد الأسباب المؤدّية إلى حالة مزمنة من العجز، وتآكل احتياطيات مصرف لبنان، ومفاقمة جوانب الضعف في الاقتصاد اللبناني، فضلاً عن هيمنة الاقتصاد الريعي، وارتفاع قيمة الاستيراد، وارتفاع البطالة، ما أدّى إلى أزمات اجتماعية متنوّعة من فقر وغيرها. وهنا، جاءت عوامل خارجية لتزيد من معاناة لبنان وصراعاته مع أزماته، وأهمّها أزمة «كورونا»، التي ستترك نتائجَ مرهِقة بسبب إقفال المؤسّسات وارتفاع البطالة وغيرهما. ونتيجة لذلك، وبما أنّ لدى صندوق النقد الدولي برامج إقراض للدول المتعثّرة، فمن الخيارات الأبرز المطروحة هي اللجوء إلى الاقتراض منه.
إلّا أنّ اللجوء إلى مؤسّسات التمويل الكبرى، كصندوق النقد الدولي، من الأمور الجدلية بامتياز، وخصوصاً في ما يتعلّق بأدوارها وأهدافها في الدول النامية. فصندوق النقد الدولي، وإن كان يروّج لأهداف معلنة كتطوير الدول عبر تعزيز الاستقرار المالي، والتعاون في المجال النقدي، وتحقيق النمو الاقتصادي، والحدّ من الفقر على مستوى العالم، إلّا أنّ هناك العديد من الانتقادات التي تتناول أهدافه الحقيقية ودوافعه وسياساته، وخصوصاً لجهة الاتّهامات له بفرض النفوذ الرأسمالي والسيطرة على الدول النامية والفقيرة.
يعد اللجوء إلى مؤسّسات التمويل الكبرى كصندوق النقد الدولي، من الأمور الجدلية بامتياز خصوصاً في ما يتعلّق بأدوارها وأهدافها في الدول النامية


وكلمحة عامّة عن هذا الصندوق، فقد نشأ عام 1944 في بريتن وودز في ولاية نيوهامبشير الأميركية بحضور 44 دولة. ويبلغ عدد أعضائه اليوم 189 دولة، ومركزه واشنطن. بلغ عدد القروض التي قُدّمت إلى أعضائه 172 قرضاً، منذ عام 2008، علماً بأنّ المبلغ الكلّي الذي يستطيع إقراضه هو 1 تريليون دولار. ويقدّم الصندوق القروض بناءً على طلب الأعضاء، لتتمّ بعدها مناقشات لتقييم الوضع الاقتصادي والمالي وتحديد الاحتياجات التمويلية الكلّية، ثم يُصار إلى التوافق على السياسة الملائمة للحلّ مع تعهّدات الدولة المقترضة بشروط معيّنة كجزء لا يتجزّأ من الاتّفاق، وذلك لضمان سداد الأموال المقدّمة من الصندوق. وقد قدّم صندوق النقد الدولي أنواعاً عدّة من القروض إلى الدول العربية، منذ عام 2011 وحتى نيسان 2017، وهي وفقاً للأنواع التالية:
1 ــــ خط الوقاية والسيولة: (Precautionary and Liquidity Line – PLL) ويهدف إلى توخّي المرونة في تلبية احتياجات السيولة لدى البلدان الأعضاء التي يرتكز الاقتصاد فيها على أساسيّات قوية، ولكنّه مشوب بقدر ضئيل من مواطن الضعف المتبقية والتي تحول دون استفادة هذه البلدان من خط الائتمان المرن (Flexible Credit Line – FCL). وقد استخدم «خط الوقاية والسيولة» المغرب من الدول العربيّة.
2 ــــ التسهيل الائتماني الممدّد (Extended Credit Facility - ECF) والذي يقدّم دعماً مستمرّاً على المدى المتوسط إلى الطويل، إذا كان ميزان المدفوعات يواجه مشكلات منذ مدّة طويلة؛ وهو مقدّم من قبل الصندوق الاستئماني للنمو والحدّ من الفقر (Poverty Reduction and Growth Trust-PRGT)، وقد أنشأه صندوق النقد الدولي في عام 2010، علماً بأنّ هذا النوع من التسهيلات ذو فائدة صفرية.
3 ــــ تسهيل الصندوق الممدّد (Extended Fund Facility – EFF) المخصّص للبلدان المنخفضة الدخل، لتقديم دعم متوسط الأجل إلى البلدان التي تواجه مشكلات مطوّلة في ميزان المدفوعات. وقد استُخدم في مصر.
4 ــــ اتفاقات الاستعداد الائتماني (Stand-By Arrangements-SBAs)والتي يقدّم بموجبها الصندوق مساعداته إلى اقتصادات الأسواق الصاعدة والمتقدمة، الواقعة في أزمات، لمعالجة مشكلات ميزان المدفوعات الاحتمالية، أو ذات الأجل القصير، كما في حالة تونس، والعراق، والأردن.
ومن أجل الاقتراض من صندوق النقد الدولي، فإنّه يطلب حزمة من الشروط القاسية والموجعة، حتّى وفقاً لتعبير الصندوق نفسه على موقعه، تُسمّى بحزمة التكيّف الهيكلي (structural adjustment program SAP). وتتكوّن من برامج عدّة تتطلّب تقشّفاً كبيراً، وضبطاً ماليّاً، وتشجيعاً لنظام السوق الحرّة. وهنا، من الملاحظ أنّ هناك ما يشبه ويسمّى بـ«الوصفة» التي يفرضها الصندوق على الدول المقترضة، كمصر، والأردن، وتونس، والمغرب، واليمن...، وتتضّمن إمّا خفض الإنفاق العام لتخفيض عجز الموازنة العام، وذلك عبر تخفيض الدعم الحكومي والعمالة في القطاع العام، أو زيادة الدخل عبر زيادة الضرائب والرسوم والجمارك، وخصخصة القطاع العام، إضافة إلى تعويم أو تخفيض قيمة العملة الوطنية، وتشجيع الاستدانة الخارجية وتجنّب الاستدانة الداخلية.
وقد حازت هذه البرامج الهيكلية على انتقادات واسعة، أفضت إلى إضرابات واحتجاجات على الحكومات. فقد رأى العديد أنّ برامج التكيّف الهيكلي التي تتّبع سياسات تقشّفية تُضفي مزيداً من الأعباء على الفقراء. ففرض خفض الدعم على السلع الرئيسية، من خبز ومياه ومشتقّات نفطيّة، كما فعلت مصر والأردن وتونس وغيرها، يؤدّي إلى زيادة تكاليف الإنتاج وزيادة الأسعار وارتفاع معدّلات التضخّم وانخفاض النمو الاقتصادي وحصول ركود اقتصادي أحياناً، وأيضاً إلى تآكل الطبقة المتوسطة وارتفاع معدّلات الفقر، فضلاً عن تركّز الثروات والحصص من الدخل القومي لدى فئة من الأغنياء. وإذا نظرنا إلى تجربتي مصر والأردن، نجد أنّ هناك نموّاً في معدّلات الدين العام الخارجي. فالوصفة أفضت لدى العديد من الدول إلى نهاية مفادها: اغرق اقتراضاً مرّة تلو أخرى، وسدّد قروضك من جيوب الفقراء عبر الضرائب، وبالتنصّل من مسؤوليات الدولة تجاه الفئة الضعيفة في المجتمع. يجري ذلك على عكس ما نراه في الدول الكبرى، التي تتغنّى بالحماية الاجتماعية لهم. فتبدو هناك أداةً لنظام استعماري حديث، يدعم الدول الكبرى في سيطرتها على الدول النامية وقهرها وإذلالها اقتصادياً، عبر المساهمة في أزمات معيشية حادّة. وهنا نسأل: هل أدّت سياسات الصندوق، من خصخصة وتقشّف، إلّا إلى مزيد من الفقر والبطالة، وتقليص الإمكانات الصحية والغذائية، وانهيار الطبقة الوسطى في أحضان الفقر؟ وهل يمكن تجاهل حقوق الإنسان هنا؟
في ظلّ ما سبق، هل نستطيع في لبنان تحمّل مزيدٍ من ألم فوق ما نتجرّعه، جرّاء هكذا اجراءات؟ ويبقى السؤال الأخير: هل يوجد سبيل للخروج من أزماتنا في لبنان بعيداً عن التبعيّة الاقتصادية؟ يمكننا هنا أن نتأمّل التجربة الماليزيّة، مع اختلافٍ في نوعيّة المقوّمات لكلّ بلد، خاصّة أنها لم تخضع لإملاءات صندوق النقد الدولي، لعلاج الأزمة التي عصفت بدول جنوب شرقي آسيا، عام 1997، ولم تسمح باستغلال أزمتها، بل اعتمدت برنامجاً اقتصادياً وطنياً، وأحدثت تغييرات جذرية، محقِّقة نمواً اقتصادياً إلى أن أصبحت اليوم في طليعة النمور الآسيوية. وقد واجهت، بالطبع، تحدّيات عدّة، إلّا أنّ الاهتمام بالمواطن وتنمية الطاقات الفكرية قد حجّما الفقر والبطالة، وساهما في تحوّل اقتصادها من ركود الى نموّ ملحوظ. فهل يستطيع لبنان أن يحتذي بنموذج ماليزيا الرائد؟ أم أن براثن صندوق النقد الدولي في انتظاره؟

* أستاذة جامعية وباحثة في المجال الاقتصادي والمالي