يحتدم النقاش في تركيا حول الانتخابات البلدية وتأثيرها على المستقبل السياسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم. هل بإمكان رجب طيب أردوغان وحزبه أن يتراجعا؟ ثمة ثقة عند العدالة والتنمية توحي للناخبين من أنصاره بأنه لا تراجع، رغم الهجمة عليه التي يصفها بالمؤامرة الشرسة. لكن ثمة من يطرح تساؤلات خارج تركيا حول قوة أردوغان الشعبية، وهل سيتمكن الحزب من حصد أصوات شبيهة بتلك التي حصل عليها في انتخابات 2011؟ ولا سيما أن فضيحة الفساد لم تطل أفراداً من الحزب أو وزراءه فقط، وإنما طالت أردوغان شخصياً وعائلته أيضاً وأثارت لغطاً حتى بين مؤيديه.
لقد شهد حزب العدالة والتنمية نجاحاً انتخابياً عام 2002 قدر بحوالى 34 في المئة من أصوات الناخبين، وزيادة شعبيته الانتخابية تبلورت عام 2007 في ما يناهز 47 في المئة من الأصوات لتصل في انتخابات 2011 الى 50 في المئة. لكن هناك من يراهن على أن الحزب سوف يخسر هذه الأغلبية التي نعم بها طوال أحد عشر عاماً بعد فضائح الفساد وردود أفعال رئيس الوزراء، الذي أقال عدداً كبيراً من القضاة وكبار الضباط في الشرطة بعد القبض على وزرائه، بحجة الفساد وأخرج المتهمين من الاحتجاز تحت مبررات محاولة الانقلاب على الحكومة من الداخل.
اتهم الطيب أردوغان فتح الله غولن، حليفه الإسلامي، وجماعته التي يطلق عليها اسم «الخدمة» بالتآمر عليه مع الخارج الإسرائيلي _ الأميركي. يبدو أنه لم يعد يثق بكل الأميركيين. يبرر أن في الولايات المتحدة أجنحة ولوبيات ويدّعي أنه طلب من باراك أوباما أن يلجم غولن الذي لا يعيش في تركيا، بل في الولايات المتحدة في ولاية بنسلفانيا منذ 1999 لأسباب وصفت بأنها سياسية في ذلك الوقت، ولا يزال في منفى إرادي؛ فالجماعة تتمتع بتأثير كبير في بعض مؤسسات الدولة، ولا سيما في القضاء وفي الاستخبارات الوطنية، وتُعدّ حليفاً نقدياً لسياسات العدالة والتنمية منذ أن بدأت السياسة الخارجية التركية تتعثر من صفر مشاكل الى العديد من المشاكل مع الجوار وفي الداخل. برز الأمر بعد تظاهرات حديقة غيزي ومشاركة بعض المثقفين والشبان المحسوبين على جماعة «الخدمة».
في حربه هذه، مرر أردوغان قراراً في البرلمان من أجل إغلاق المدارس التي ترعاها جماعة الخدمة، وهي من الأهمية بمكان، ولا سيما أنه قرار يحرم الجماعة من عائدات هذه المدارس التي بدورها تسمح للجماعة بالتوسع من جهة، وتساعد أولاد الطبقات المتوسطة ليتمكنوا من دخول الجامعات. جاء تبرير هذا القرار تحت حجة محاولة الحكومة تقوية المدارس الحكومية. ولكن لا يمكن إغلاق هذه المدارس قبل إحلال البدائل، ما أثار حملة استنكار من قبل المواطنين الذين يستفيد أولادهم من وجود هذه المدارس بسبب ضعف مدارس الحكومة، حيث لا يستطيع هؤلاء النجاح في امتحانات دخول الجامعات فتعمد بعض مدارس غولن الى إعطائهم دروساً إضافية.
لا شك في أن حزب العدالة والتنمية حقق إنجازات على الصعيد الاقتصادي، إذ توصل الى نمو يقدر بـ 230 في المئة بين 2002 إلى 2012 وتوصل الى احتلال المرتبة السابعة عشرة في سلم الاقتصاد العالمي. واستطاع أيضاً القضاء على التضخم الذي كان بنيوياً وانخفض من 29.8 في المئة في عام 2002 إلى 7.4 في 2013. كان المعدل السنوي للنمو 5.2 في المئة ومعدل البطالة 9.7 في المئة. كما أن حجم السوق زاد بمعدل 18 في المئة بين 2002 و2013. أما عجز الموازنة فتراجع من 10.2 في المئة الى 2.8 في المئة.
لقد عمل حزب العدالة والتنمية على تمتين قاعدته الانتخابية عبر القضاء على قوة الأحزاب المناوئة له. كما استطاع أن يحكم سيطرته على الأحزاب القومية والمعارضة العسكرية والعلمانية. وبات يؤسس لاستمرارية حكمه عبر استمالة الفقراء والمساعدات التي يقدمها الحزب لهم والتشديد على التمسك بأهداب الإسلام والقيم الإسلامية ومحاولة منع الخمر في ساعات معينة والدعوة الى الإنجاب واتهام إسرائيل بالتآمر عليه. هذه الفئة المتدينة تقتنع بأنه بريء، وقد صوّتت له كونه ضد الفساد. فهل تقتنع بأنه فاسد، أم أنه مظلوم؟
في معظم خطبه، يتوجه أردوغان الى شريحتين. الأولى مستفيدة من وجوده في الحكم وتلبية طموحات هؤلاء الوظيفية والاقتصادية والخدماتية، والشريحة الدنيا التي يعوّل عليها ويعمل عبر وسائل الإعلام الموالية له على تعبئتها. معظم هؤلاء يصدقون أقواله بعد التعتيم الإعلامي ومحاولة كمّ أفواه الصحافة المعارضة والتركيز على محطات وصحف تابعة للحزب.
وبالرغم من علاقاته التجارية التي لم تتوقف مع إسرائيل بواسطة ابنه بلال بعد أحداث مرمرة مافي، أي سفينة الحرية التي قتل فيها ما لا يقل عن تسعة ناشطين أتراك، إلا أنه استغل موقف غولن المعارض لتلك العملية واتهامه بأنه موال لإسرائيل، ذلك لأنه اتهم أردوغان باستعمال دم هؤلاء من أجل سياساته الرامية الى حجز مقعد في المنطقة العربية عبر دعم القضية الفلسطينية والمزايدة على الزعماء العرب واستقطاب «حماس»، مع علمه المسبق بأن إسرائيل لن تسمح لهذه السفينة بالمرور. على كل حال، العلاقات التركية الإسرائيلية هي علاقات تجارية وعسكرية وسياسية لم تنقطع إلا على أثر هذه الحادثة، وقد عملت الولايات المتحدة على إعادتها.
معظم الشبان الذين تظاهروا هم ما دون الثلاثين ولا ينتمون الى الأحزاب التي بنظرهم لم تعد تلبي طموحاتهم، وهم لا ينتمون الى الطبقات الدنيا بل الى تلك المتوسطة. لا ترضيهم سياسة أردوغان الانفعالية ويعتبرون أنه خرج عن الديموقراطية. استطاع هؤلاء الشبان اكتساح الميادين التركية وتهديد استفراد وتحكم حزب العدالة بالمعادلة السياسية على مدى السنوات الماضية ، ولا سيّما بعدما تبلور ظهير شعبي وقوي مساند لهم، تمثل في بعض الهيئات ومؤسسات المجتمع المدني كالنقابات المهنية والحرفية، رغم محاولة الحكومة التركية التضييق على هذه المؤسسات من خلال سنّ تشريعات تحول دون مشاركتها في الاعتراضات على المشروعات العامة، تظهر الحكومة التركية ضعفها لا قوتها. يتهمها معارضوها بالقرصنة التشريعية والتدابير الوقائية في إطار تغيّر المادة 35 من القانون الداخلي للقوات المسلحة التركية، وهى المادة التي كان الجيش التركي يستغلها للتدخل في الحياة السياسية، بحجة حفظ أمن تركيا في مواجهة ما يسمى أعداء الداخل. ينتهج حزب العدالة استراتيجية التضييق الإعلامي على وسائل التواصل الاجتماعي خوفاً من التشبيك والتواصل من أجل نشر معلومة أو القيام بتحرك. في ظل هذه المعطيات، يمكن التساؤل المشروع عمن يقف وراء ما يحدث، أهو الداخل وحده أم أن هناك إشارة من الخارج؟
أهمية الداخل على الخارج؟
لا شك بأن ما يجري في المنطقة أثّر على صورة العدالة والتنمية، ولا سيما حين اقتنع الحزب بأن بإمكانه أن يكون نموذجاً للأحزاب الإسلامية التي فشلت في الاحتفاظ بالحكم. لم يطرح حزب العدالة والتنمية نفسه كحزب إسلامي في الداخل، لكنه تصرف على هذا النحو حين حاول أردوغان فرض التعليم الديني على المدارس في بلد أرضيته الأساسية علمانية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى شرع أبواب تركيا لكل الحركات الإسلامية العربية، فغدت مركزاً لهم، ما انعكس سلباً على علاقات تركيا مع بعض الدول العربية واتهمت بأنها تتدخل في شوؤنها. عدا اعتماد تركيا من قبل المتطرفين والإرهابيين كمركز للانطلاق في الحرب ضد سوريا، ما هدد أمن المواطن التركي من دون جني أي مكتسبات سياسية واقعية.
لقد شهدت دول الخليج، ومنها قطر والعربية السعودية، التي تدخلت في الأزمة السورية، تغيرات في الوجوه السياسية التي قادت المعارك السياسية والعسكرية في سوريا بعد فشلها فيها، لكن تركيا، التي تعتبر ديموقراطية، لم تحاسب أردوغان وحزبه على الفشل الذي مني به، فهل يمكن القول إن التظاهرات أتت كتحذير بسبب الانغماس في أحداث الربيع العربي وبسبب فائض التسلط لدى أردوغان، بالاضافة الى الفساد، وأن الانتخابات يمكن أن تكون مناسبة من أجل المحاسبة؟ والسؤال الأهم: من بدأ الصراع؟ أهو هاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية، الذي رأى أن جماعة الخدمة في الدولة أصبحوا قوة تعيق سلطة أردوغان وتكشف سياساته، وبالتالي آن أوان التخلص منها والاستفراد بهذه السلطة بعدما كانت العكاز الذي أوصل غول وأردوغان الأربكاني الى الحكم نظراً إلى ثقة الغرب بإسلامه الاجتماعي. لا شك في أن إضعاف كل واحد من هذين الحليفين اللدودين للآخر هو إضعاف للإسلام التركي.
يصرّ بعض الباحثين الأتراك على أن الخارج لا يمكنه أن يؤثر على الناخب التركي، بل إن وضع الليرة التركية والوضع الاقتصادي هو المحدد. كما أن شعبية العدالة والتنمية هي ثابتة، وجرى العمل عليها منذ ما قبل تظاهرات حديقة غيزي وأنه لم يظهر أثر التغييرات والتظاهرات بعد على الواقع الاقتصادي للمواطن التركي، وهذه نقطة قوة تسجل للحكومة التركية.
كما يحاول بعض الكتّاب الأتراك التشديد على أن انخفاض عدد الأصوات لن يكون بفارق كبير. ويراهنون على أن المعارضين يعلمون أن الحزب سيربح الانتخابات، حتى ولو صوّتوا ضده، لذلك سيمتنعون ربما عن التصويت.
هي معركة لن تظهر نتائجها الفعلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا بعد الانتخابات. لننتظر 30 آذار الذي سوف يحدد اتجاهات رياح السياسة التركية.
* باحثة لبنانية