حين تعرفت إليه للمرة الأولى في منزل المناضل الراحل المهندس خالد البشرطي، القيادي في البعث وفتح يومها، وذلك بعد «معركة الكرامة» عام 1968، لاحظت في الرجل جملة ميّزات أكدت لي أنه سيلعب دوراً مهماً في حياة شعبه وأمته.كان الشهيد خليل الوزير، أبو جهاد، أحد مؤسّسي حركة «فتح»، ونائب القائد العام لـ«قوات العاصفة»، متواضعاً واثقاً بنفسه، مؤمناً واثقاً بشعبه، قيادياً مدركاً أن قضيته تحتاج إلى روح فدائية تخرجها إلى أمتها والعالم، رؤيوياً شديد الاهتمام بتفاصيل العمل.
وفي ذلك اللقاء الأول إثر «معركة الكرامة»، كان يحمل معه ومع رفيقه الشهيد القائد محمد يوسف النجار (أبو يوسف) صوراً عن تلك المعركة التي كانت الرد الأول على هزيمة حزيران، والخطوة الأولى في رحلة تحوّل الثورة الفلسطينية إلى رقم صعب في المعادلة الوطنية والقومية والإنسانية.
وفي كلّ المرّات التي جمعتني به بعد ذلك اللقاء، ولا سيّما في بيروت، ما بين عامي 1971 و1982، وفي طرابلس عام 1983، كنت أكتشف في الرجل ميزة جديدة، وألاحظ حرصه الشديد على ابتعاد حركة «فتح» عن التدخّل في الشؤون الداخلية للأقطار العربية، إلى درجة أنّ بعض إخوانه في الحركة كانوا يعتبرونه أبا «اليمين»، لأنّه لم يكن يجاريهم في الاندفاع للغوص في القضايا الداخلية للأقطار العربية، في هذا القطر أو ذاك... خصوصاً في لبنان.
ولعلّ أكثر ما شدّني إليه، هو لقائي الأخير به في تونس قبل أسابيع من اغتياله في 16 نيسان/ إبريل 1988، وبعد أسابيع من انطلاق «انتفاضة الحجارة»، في 7 كانون الأول/ ديسمبر1987، هو قوله لي مزهواً، وهو يحدثني عن روعة الانتفاضة وحكايات أبطالها الأطفال: «أتذكر جلستنا في طرابلس، حين كنت حريصاً على الاجتماع بإخوة لكم من الجنوب لأستمع منهم إلى تفاصيل المقاومة الشعبية في جبل عامل، وكانت قصة الزيت المغلي، الذي رمته نساء الجنوب بوجه جنود الاحتلال حديث الناس يومها». واستطرد القائد ــــ الرمز، مهندس انتفاضة الحجارة قائلاً: «لقد كانت مقاومتكم الشعبية في لبنان ملهمة لنا في انتفاضتنا»، تماماً كما قال أبو عمار أيضاً في تونس، بعد انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر2000: «إنّ انتصاركم في لبنان بتحرير أرضكم كان ملهماً لنا في انتفاضتنا المباركة…».
وكان جوابي واحداً للقائدين: «ونحن أيضاً استلهمنا مقاومتنا من تجربة الثورة الفلسطينية، والعديد من قادة المقاومة اللبنانية، الوطنية والإسلامية، تخرّجوا من مدرسة المقاومة الفلسطينية...»، وذكّرتهما ببرقية أرسلتها لهم يوم خروج قوات المقاومة من بيروت، وهي «لو خرجت قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان، فإنّ روح المقاومة باقية فينا. إنّه تكامل المقاومتين، بل تكامل الشعبين في مواجهة عدو غاصب يستهدف لبنان، كما فلسطين كما كل قطر عربي».
لقد كان أبو جهاد جسراً بين أبناء شعبه، كما بين أبناء أمته، ولقد أدركنا عظمة هذا الجسر حين خرج مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والعرب في مخيم اليرموك وشوارع دمشق في وداعه، رغم ما كان من جفاء بين القيادة السورية وقيادة «منظمة التحرير» يومها. وجاءت مشاركة أبي عمار في تلك الجنازة في دمشق، لتفتح صفحة جديدة في العلاقة بين فلسطين وعمقها الاستراتيجي الدائم ،التاريخي والجغرافي والنضالي، في سوريا العروبة.
أبو جهاد (خليل الوزير) قائد اختصر في حياته حكاية ثورة «وُجدت لتبقى وستبقى»، بتعبير الزعيم جمال عبد الناصر، كما اختصر في استشهاده حكاية شعب يشق طريق النصر والتحرير، بدماء قادته وشهدائه.

* كاتب وسياسي لبناني