ردّاً على الخبير الاقتصادي زياد ناصر الدين، في مقالته التي نشرها في صحيفتكم الموقّرة بعنوان «الدولة العميقة»، الصادرة بتاريخ 27/03/2020، نوضح ما يلي كي نزيل الإبهام:الدولة العميقة هي تلك التي مارست تسلُّطها، بعدما غرست إسفين منهج الفساد والسرقات الذي عمَّمته العولمة المتوحِّشة، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، حيث كانت ظاهرة الفساد قبلاً تختصُّ بكلِّ قطاع إنتاجي على حِدَة، لكن بعد دمْج القطاع المالي بالقطاع الصناعي، والوصول إلى الحالة الإمبريالية، تعمَّمت ظواهر الفساد والاحتكار أفُقياً وعامودياً عالمياً، وكان لبلد اسمه لبنان النصيب الأوفر من هذا الوباء، عندما تماهَت القوى الطائفية والمذهبية وأمراء الحرب، ولبِسوا ثوب اليمين الديني ومعه السياسي، ومارسوا كلّ أنواع الموبقات (كأوليغارشيات) في حكم الناس والتسلُّط على أموالهم وكراماتهم، وأطلقوا أجهزة حكم غير منتخَبة تتحكّم بمصير الدولة لتصبح أقوى منها ومن توجُّهاتها. وشكَّلوا واجهات سياسية لأدوات البنك الدولي، بعدما حكَّموا ومكَّنوا المصارف من إدارة البلاد وشؤون العباد.
يعرف السيِّد الباحث ناصر الدين، كما كلّ العالم، أنَّ القبضة الأميركية قوية على حركة الحكَّام والشعوب، وفي الإخضاع السياسي والاقتصادي، بدءاً من السياسة النقدية ومعها المصرف المركزي، وليس انتهاءً بالدولار والأمن والقضاء والاحتكارات، خصوصاً في لبنان، هذا البلد الريعي القائم أساساً على التقاسم والتحاصص في النفوذ والولاءات الخارجية... ولكن ماذا أنتم فاعلون حيال كل ذلك؟
ربَّما فضحت عملية، أو بالأحرى جريمة إطلاق العميل عامر الفاخوري من السجن وترحيله جواً، ضرب السيادة اللبنانية، لكنَّها فضحت أولاً وأخيراً سلطة الدولة وأحزابها. وكَشَفَت هذه العملية هشاشة القوى السياسية، وحجم استتباعها المُخيف لقرارات الإدارة الأميركية، حتى لو قيل بأنَّ الخوف كان كبيراً جداً من سلاح العقوبات الأميركيّة، نجد أنَّ هذا الخوف لم يعرفه فقراء اليمن، لكنّه أرْهَب وأرْعَب الفاسدين من السياسيّين والقضاة والمنتفعين في لبنان... فمن أين تتشكَّل هذه الدولة العميقة الموالية لأميركا... هل من المريخ؟
لم يشْتَبه اللُّبنانيون الأحرار، ولا مرة، في مساوئ السياسة الأميركية: حيث يورد ويوصي الباحث الاقتصادي زياد ناصر الدين بضرورة مواجهة الدولة العميقة وكسرها وبأنَّ ذلك واجب وطني. (هنا انتهى الاقتباس). وهنا نقول: لقد صار البقاء في السلطة ضِمْن بنية نظام طائفي مهترئ أساساً يعني التعايش بين مكوِّنات تختلف حول كلِّ ما له علاقة بمشروع الدولة وسياستها الخارجية، لكنَّها تجتمع تحت سقف المحافظة على النظام، بما هو في الواقع يعبِّر عن مصالح وائتلافات مكوَّنة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة مع زعماء الميليشيات والطوائف والمؤسسات الدينية الجامدة، وتصبح المعادلة كالآتي: كلَّما تعمَّقت أزمة النظام اللبناني، بفعل آليات النهب الداخلي والارتهان المالي والاقتصادي والسياسي والعسكري للخارج، كلَّما انعكس ذلك على قوى السلطة الطائفية تفسُّخاً وشرخاً في الوحدة والانضباط والحفاظ على القرار السيادي، وستجد قوى المقاومة نفسها مُثْقَلة بأحْمال هذه السلطة، حيث للأميركي وللقوى المعادية لمشروع المقاومة الثِّقل والوزن والفعالية في توسيع الثغرات، كما حصل في عملية تهريب جزّار الخيام.
فعندما هبَّ ثوار 17 تشرين على المصارف والحاكم المركزي، لمنع وتقييد سياساته التي ذبَحَت اللبنانيين والفقراء من الوريد إلى الوريد، منذ عام 1992، سارعت أحزاب الطوائف وميليشيا المذاهب وزعماء الحرب وأمراؤها، إلى الدفاع عنه وعن أدائها وعن جمعية المصارف. وعندما تظاهر الناس أمام مجالس وصناديق الهدر جُوبهوا بقوى وميليشيا الطوائف تفرِّقهم وتعتدي عليهم، تحت أنظار القوى الأمنية. وعندما اعترضوا على أداء مجالس التفتيش لتفعيل عملها الرَقابي، منعوهم وسلَّطوا عليهم أحزاب السلطة وعساكرها. فمن هي هذه الدولة العميقة الحاكمة في لبنان؟ لم يعُدْ ينفعكم تعميم سيناريو نوري المالكي في العراق، الذي غرق في العمالة لأميركا حتى أذنَيه وغرق وأغرَق البلاد في الفساد، وعمَّمَ أنموذجه الذي لن يُخرج بلاد الرافدين منه لعشرات السنين ليُصبح الملتحق الأول بمحور المقاومة، وممنوعٌ المسُّ به أو نقده على الأقل... وهنا، لا بدَّ من الإجابة الموضوعية على المبادرات التي طرحها علينا الباحث ناصر الدين حيث أورد بنودها:
فالباحث بعرضه «تنويع الخيارات الاقتصادية في مواجهة الدولة العميقة والهيمنة الأميركية»: نقول، من الذي منع الحكومة الحالية وما قبلها، من التوجُّه شرقاً والبحث عن الخيارات الاقتصادية المفيدة للبنان؟ أليسوا هم حاكموا سلطة الأحزاب التي لها الغَلَبَة النيابية والحكومية، وبالأسلوب الديموقراطي. فمَنْ مَنَعَهم؟ أميركا والاستعمار أم حلفاؤهم الجدد وتسوياتهم السياسية لتوريث أولادهم وأحفادهم من بعدهم؟ فلا نقدر هنا على التمييز بين قوى 8 آذار أو 14 آذار، لأنَّ التوحُّد وتقاطعات المصالح على التحاصص وتقاسم المغانم، كان هو السائد ولا يزال؛ فهذه هي دولتهم العميقة.
وبالحديث «عن ضرورة الخروج من نظام عام 1992»، فمن الذي مَنَع سلطة أحزاب الطوائف وأمراء الحرب من الخروج من عباءة الحريرية السياسية ونظام 1992؟ لماذا تمسَّكوا حتى الرمق الأخير بتنصيب الحريري رئيساً للحكومة؟ ولماذا لم ينوِّعوا خياراتهم السياسية غير تلك التي ثبَّتَها وأحْكَم عُراها الأميركي، وجعل من أدواتها الأساس الحاكم وله اليد الطُولى في الحكم والفساد والتآمر وعلى البقية تلقِّي الصدمات والوقوف بوجه الناس وضرب المنتفضين الجياع؟
ويورد الباحث، كذلك، «حول إعطاء مكتسبات للسياديين الاقتصاديين من خلال تعيين نواب لحاكم مصرف لبنان لا يكون ولاؤهم للولايات المتحدة بل للوطن والناس»، فما زالت قوى السلطة مختلفة على التحاصص والتركيبة في نواب حاكم مصرف لبنان ومفوض الحكومة لديه، من دون الالتفات إلى الكفاءة والجدارة... فمن الذي يساهم هنا في تعميق أسس ومفهوم الدولة العميقة التابعة للإملاءات الأميركية؟ تريدون نظاماً مالياً واقتصادياً غير خاضع للإدارة الإميركية، عبر تعيينات طائفية ومذهبية بعيدة عن كلّ المعايير العلمية والتقنية والكفاءة والجدارة، أعتقد هي المهزلة بحدّ ذاتها.
عندما هبَّ ثوار 17 تشرين على المصارف والحاكم المركزي سارعت أحزاب الطوائف وميليشيا المذاهب وزعماء الحرب وأمراؤها إلى الدفاع عنه وعن جمعية المصارف


وعن طرحه «إقرار قانون استقلالية القضاء»، نقول فاقد الشيء لا يعطيه. من الذي يضرب القضاء ويعبث به في كل يوم؟ أليست قوى السلطة وأحزابها ونوابها ووزرائها من أصحاب الحصانات، التي لا تُمَسّ وتعتبر من المقدسات؟ ماذا عن عيِّنَة النائب هادي حبيش، وتهجُّمه على الجسم القضائي وما كانت نتيجته؟ما هو موقف مجلس النواب ممَّا حصل؟ وإلى اليوم ليس هناك من ردٍّ على إجراءات ولو بسيطة.
ويورد الباحث ضرورة «إخراج الأجهزة الأمنية من تَبَعِية المساعدات الأميركية الخارجية، عبر تصحيح وضعها المالي في الموازنة اللبنانية وكسر عالم الاحتكارات الذي يسيطر عليه رجال أعمال حقّقوا ثروات كبيرة»، فكيف تطلب من سلطة وحكومة محكومة للأميركي أصلاً التوافق على إخراج الأجهزة الأمنية من التبعية لأميركا؟ هذا قيد اختلاف وتباين كبيرين على خيارات هي أساساً غير محسومة، ناهيك عن الواقع المالي وما عبَثَت به السلطة وأزلامها من تصحيح في سلسلة الرتب والرواتب ومن تآكل في القيمة الشرائية للموظَّف وللأمني. فهذه السلطة السياسية تعتبر أن الحلقة الأضعف في مؤسَّسات الدولة، هي العسكر والقوى الأمنية، طالما أنّ أهمَّ استخدام لها يكون بتوجيهها نحو الناس المنتفضين، والزجِّ بها للتصادم في الشارع. هذه القوى لا تأبه لها ولدورها الوطني، كونها تمتلك ميليشيا مدنية تحميها تتقاضى الرواتب من الدولة وخزينتها، من دون دوام وعمل. فهذه هي حقيقة الدولة العميقة.
من هم المحتكرون في لبنان وزعماء المافيات الذين حقَّقوا ثروات؟ أليست قوى السلطة وأحزابها؟ من يجرؤ على إنشاء مافيا استيراد النفط والمشتقات البترولية واحتكارها من دون تغطية سياسية؟ من الذي يقوم بمضاربات وصفقات واحتكار تجارة الأدوية في لبنان من دون حماية؟ أليست هذه السلطة التي تتشكل منها الدولة العميقة؟ هل أميركا فرضت هذا النوع من المافيات على لبنان وسهلت أعمالها؟ هل أميركا طلبت إبقاء الحدود والمعابر اللبنانية مشرعة؟
وحول «حلّ ملف الكهرباء الذي عملت الولايات المتحدة على عرقلة حلوله»، نقول هذا المِلَف الذي كلَّف الدولة منذ عام 1992، 24 مليار دولار وتحصيل ضرائب 16 مليار دولار، أي ما يعادل 40 مليار دولار، وليس هناك من كهرباء 24/ 24، هل أميركا ــ ترامب، وقبله أوباما، هي من عطَّل مشروع الكهرباء وكلفته مليار دولار واحد؟ هل أميركا أمسكت بأذن أحد من وزراء الطاقة، ومنعته من القيام بواجبه في إنتاج الكهرباء؟ فإذا كان كذلك، لماذا تحكمون وكيف تمارسون سلطتكم؟ وإذا كان الجواب لا، فأنتم فاسدون وسارقون، هذه هي المعادلة ببساطة، وهذه هي الدولة العميقة.
لقد حان الوقت للاعتراف بأنَّ الدولة العميقة في لبنان، هي من إنتاج سلطة الأحزاب والطوائف وتسلُّطها وريعيتها ورهْن مقدَّرات البلد وسيادته للمستعمر الأميركي منذ زمن، ولم تكن جريمة الفاخوري إلّا نتيجة لكشف المستور، وما انْبَنَت عليه هذه السلطة وما ارتكبته أحزابها من موبقات بحقِّ الوطن والمواطن، الذي ينام على الأرصفة في الطرقات، بعدما هَضَمت أمواله البنوك وسياساتها، وبعدما استبدَّ به ظلم الطوائف والمذاهب وعنصريتها، وبعدما رَهَنوا مستقبله للمجهول، حتى لا نقول أكثر في زمن «كورونا» والوباء العالمي.

* أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية