لا جدال في أن حزب الله، على مستوى المقاومة، هو النموذج الأنصع في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولا كلام مع الحاقدين، والمسكونين بعقد التاريخ والمذاهب.مع ثبوت تلك الحقيقة، لا بدّ من التفريق بين حزب الله ــــ المقاومة، وحزب الله ــــ الجماعة السياسية. لقد سعت قيادة الحزب إلى المطابقة بين العمل المقاوِم والعمل السياسي، ولكنّ النتائج، وهذا طبيعي، ليست على قدر التطلّع والمسعى، وحتى الإمام علي عليه السلام، الذي كان يشعّ ألقاً في حروب التحرير في معارك بدر وأحد والخندق، ليس هو علياً الذي كان يئنّ تحت وطأة الحروب الداخلية في الجمل، والنهروان، وصفّين.
فرانك شيبارد فيري ــ الولايات المتحدة

علي إنما أصبح علياً، القائد التاريخي، حين كان يصول ويجول في حروب التحرير، حتى قال عنه رسول الله: «وما قام واستقام هذا الدين إلا بسيف علي ومال خديجة». ولكن حين رحل رسول الله عن الدنيا، كسرت شوكته، وبات عليه مواجهة الصراعات الداخلية. ولقد خاطبته زوجته فاطمة، وقد آثر الاعتكاف والعزوف عن خوض الصراع: «اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنين نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل».
وبعد تولّيه الخلافة، أُرغم على خوض المعركة الداخلية ضد الفساد، واستعادة المال المنهوب، وقال قولته المشهورة: «والله لو وجدته قد تزوّج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق». والنتيجة، تحوّل علي إلى طرف في صراع داخلي، وأشعلت في وجهه الحرائق الأهلية، بدءاً بالجمل ومروراً بصفين والنهروان وصولاً إلى اغتياله على يد أحد رموز الخوارج. قادة الحروب هم أنفسهم المتحدّرون من الطبقة الفاسدة التي أثرت من السلطة على مدى عقود.
في التحليل، هناك من حمّل علي المسؤولية لأنه لم يهادن خصومه أو يداهن أعداءه، وكانت له كلمة مشهورة: «وما معاوية بأدهى مني ولكن يغدر ويفجر». ومع ذلك، لو جنح علي إلى المهادنة ما كان علياً، رمز المقاومة، وقدوة الأبطال في معركتي التحرير والفساد. في التحرير، تصبح بطلاً قومياً ودينياً موضع إجماع الأطياف كافة، ولكن في الفساد أنت تخوض معركة الداخل، ضد الذات، ضد الشقيق، والجار، والحليف السياسي، والشريك المذهبي، وهنا مكمن الصعوبة. فالتشيّع لعلي لم ينشأ في معركة التحرير، بل في المعركة ضد الفساد الداخلي.
شعبية حزب الله ـــ المقاوم مستمدّة من معارك التحرير على مدى أكثر من عقدين، وتضاعف الرأسمال الشعبي أولاً في إنجاز التحرير في أيار 2000، ثم في حرب تموز 2006، حين تعرّفت شعوب العالم، والشعوب العربية والإسلاميّة على وجه الخصوص، إلى نموذج فريد وجديد في مقاومة الاحتلال الصهيوني. أعادت تجربة حزب الله ـــ المقاوم أمجاد العرب، وتحوّل السيد حسن نصر الله إلى رمز تاريخي بجدارة.
كان انتصار حزب الله في حرب تموز، أكبر من قدرته على الاستثمار، لضخامة الانتصار نفسه الذي يفوق الطاقة الاستيعابية لحزب في توظيف هذا الانتصار شعبياً وسياسياً. ولكن الخطورة ليست هنا. بلوغ حزب الله ذروة الألق يعني أنه بات مكشوفاً أمام الرأي العام، وبات مطالباً بتقديم كشف حساب شبه يومي عن إنجازاته كترجمة لفعل الانتصار في حرب التحرير.
كانت السياسة هي الميدان الأخطر لاختبار قدرة الحزب على مطابقة فعل المقاومة في الميدانين العسكري والسياسي.
في قراءة لتجربة العقد الأخير، نلحظ أن حزب الله أمام أربع فوبيات كانت كفيلة بالكشف عن قابليته الثوريّة وجهوزيته لخوض أشرس المعارك ضد الفساد.
1 ـــ فوبيا تضرّر المحور: النضال ضد الاستعمار، ومن أجل تحرير فلسطين، يقابله السكوت عن الاستبداد والفساد في سوريا والعراق.
تساقط الشهداء في جبهات الحرب السورية، وفي بعض الحالات كان الشهداء يتساقطون نتيجة فساد رجال السلطة نفسها، أو في مقايضات مع المسلحين، وتسليم مواقع.
مسوّغ المشاركة في القتال داخل سوريا معلوم، وينطوي على منطق: الدفاع عن المقاومة ومحورها وعن لبنان إزاء تهديدات الجماعات الإرهابية، ولكن أيضاً هو يعيد إنتاج النظام السياسي المسؤول عن الأزمة في سوريا منذ عام 2011. إنّ بقاء رموز الفساد والاستبداد في سوريا، يعني لدى المراقبين وحتى داخل بيئة المقاومة، أنّ الحزب شريك، وتقع على عاتقه مسؤولية استمرار مبرّرات الثورة...
المعلومات تفيد بأنّ قيادة الحزب، ومعها الحلفاء، أوصلت ملاحظاتها ومقترحاتها إلى القيادة السورية للحيلولة دون العودة إلى نقطة الصفر، والبدء بعملية إصلاحية حقيقية. ولكن من يضمن ذلك؟ ومن يقنع الجمهور العريض والرأي العام؟ وماذا لو رفض النظام إصلاح نفسه، في ظل بقاء رموزه في مواقعهم، بل وفي ظل أحاديث عن تجدد الجشع بوحشية غير مسبوقة لناحية تعويض ما فات هذه الزمرة من سنوات كانوا غارقين في الفساد حتى رؤوسهم.
حزب الله بات حزباً محافظاً بفعل اندماجه في السلطة، وكان عليه أن يُجري حملة مراجعة لتجربته في الدولة، فما يكسبه في المقاومة يُستنزف في السلطة


إن مجرد خروج قيادة حزب الله بخطاب دفاعي مفادها أن النظام في سوريا على استعداد لإجراء إصلاحات سياسية، لا يكفي لوضع نهاية سعيدة للشعب السوري، بل لا بد من مزاولة فعل المقاومة السياسية، بالضغط من أجل تنفيذ هذه الإصلاحات التزاماً من قبل الحزب بمبادئه الثورية والأخلاقية والدينية أيضاً.
2 ـــ فوبيا الفتنة السنية الشيعية: في عام 2005، دخل حزب الله في تحالف رباعي ضمّ حركة أمل وتيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية. وكان منطلق التحالف هو احتواء تداعيات مقتل رفيق الحريري في 14 شباط 2005، والذي سمح لتيار المستقبل باستغلال «الخوف من الوقوع في الفتنة» بتعزيز وجوده في السلطة وإطلاق يده في المال العام، وفي الوقت نفسه شجّع الأطراف كافة في فريق 14 آذار: القوات والمستقبل والاشتراكي والكتائب، على طرح سلاح حزب الله للنقاش، حيث عُقدت نقاشات حول السياسة الدفاعية ولاحقاً مطالبة وليد جنبلاط بإزالة شبكة الاتصالات السلكية التي أقامها الحزب، وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، وصولاً إلى 7 أيار.
بقيت تبعات الفوبيا إلى سنوات لاحقة، حيث بقي المستقبل هو القوة التمثيلية الراجحة في المقلب السني على حساب حلفاء الحزب، حتى أمكن القول بأن الأخير تحوّل إلى رافعة للحريري الابن في احتكار التمثيل السني وتهميش باقي البيوتات السنيّة العريقة.
3 ـــ فوبيا الصراع الإسلامي المسيحي: في 6 شباط 2005، عقد حزب الله والتيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون، اتفاقاً في كنيسة مار مخايل في بيروت، انطلاقاً من مبدأ الديمقراطية التوافقية والتمثيل الشعبي الوازن للقوى السياسية.
ونصّ الاتفاق على أن «إصلاح وانتظام الحياة السياسية في لبنان يستوجبان الاعتماد على قانون انتخاب عصري، قد تكون النسبية أحد أشكاله الفعّالة، بما يضمن صحة وعدالة التمثيل الشعبي». وكان هذا أول مؤشر على مراعاة الحزب لحسابات التيار الوطني الحر، الذي سوف يكون وضعه مختلفاً في ما لو اعتُمد قانونٌ انتخابي يجعل من «لبنان دائرة واحدة خارج القيد الطائفي»، لتراجع نسبة المواطنين المسيحيين في لبنان وتأثير ذلك على ثقلهم الانتخابي.
ينطلق حزب الله في اتفاقه، من شعور بالخوف على التعايش السلمي بين اللبنانيين والسلام الداخلي وكل ذلك مفهوم، ويجب أن يكون موضع تقدير. ولكنْ ثمة جانب آخر مغفول في مثل هذا الاتفاق، وهو أنه وفّر غطاء للتيار كيما يتمدّد ويفيد لناحية فعل ما يشاء، لأن ثمة طرفاً وازناً في لبنان يمنحه قوة إضافية ويغطّي ربما حتى ارتكاباته. وقد فهم التيار أيضاً خوف الحزب، وبنى عليه وأفاد منه، تماماً كما بقية الأطراف (بشار الأسد، نبيه بري، سعد الحريري).
وقد انعكس اتفاق الحزب والتيار في ملفات عديدة منها: ملف العملاء الذي تساهل فيه الحزب كرمى عيون قيادة التيار، وآخرها الإفراج عن عامر فاخوري الذي يمثّل اختباراً فارقاً لصدقية حزب الله قبل أن يكون للتيار الوطني الحر الذي يتحمل مسؤولية هذا القرار.
4 ـــ فوبيا الصدام الشيعي الشيعي: لا شكّ في أنّ تجربة الحروب الداخلية في المجتمع الشيعي شكّلت ما يسميه نيتشه «الوعي الشقي». فليس هناك من يريد العودة إلى تلك المرحلة المثقلة بالآلام والدماء.
في خطاب سابق للسيد حسن نصر الله، يحذّر من العودة إلى حقبة الاقتتال الشيعي الشيعي، أي بين أمل وحزب الله، وأنه لن يسمح بذلك مهما كلّف الأمر. وهذا الموقف يعبّر عن التزام مبدئي ديني ووطني، ولا يختلف عليه عاقلان. ولكن ثمة من أساء ذلك الموقف. وفهمته قيادة أمل بكونه فوبيا لدى حزب الله، وأفاد رجالات في الحركة منها، فأوغلوا في المال العام وفي السرقات، لاطمئنانهم بأن الحليف الشيعي القوي سوف يغمض عينيه، كرمى عين الوحدة الشيعية الشيعية. في المقابل، كان على الجمهور الشيعي أن يبتلع الجمر، ويلتزم الصمت «فدا السيد»... ولكن إلى متى؟
على نحو الإجمال، رفع حزب الله راية الحرب على الفساد. وهي ليست مثل الحرب على إسرائيل التي لا شك في أنه يخرج منها منتصراً ومتألقاً… وهي ليست مثل حرب الداخل، لأنّ ساحة حربه هي بيئته، وقاعدته، ومحيطه بل وإن شئتم شبكة أمانه أيضاً.
وجد الحزب نفسه أمام معادلة بالغة الدقّة والتعقيد بين: تحصين الداخل الشيعي إزاء خطر الانشطار، والسير في خطة مكافحة الفساد بطريقة متوازنة، أي الوقوف على مسافة واحدة من كل الفاسدين.
وكما يبدو، فإن قرار الحزب في خوض الحرب على الفساد لم يؤسّس على فهم دقيق وشامل للعواقب، وليس على ملفات مكتملة العناصر على مستوى المعطيات، أي أنّ الحزب لديه «داتا» كاملة عن الفساد والفاسدين، وهذا النصف المريح من المشكلة، ولكن السؤال الكبير، لا يتعلق بالفاسدين الأبعدين، بل الأقربين، والحلفاء، والأصدقاء و«عظام الرقبة».
قرار حزب الله بالدخول إلى السلطة من أجل حماية «ظهر المقاومة» حقّق غاية أخرى أيضاً، وهي حماية السلطة. فصار الحزب أحد ضمانات إدامة السلطة الفاسدة وتماسكها.
إنّ انتقال حزب الله من الثورة الى الدولة أحاله إلى حزب سلطوي، وأفقده لياقته الثورية والعقائدية المحض التي تفرّد بها على مدى ثلاثة عقود. بات الحزب اليوم أحرص على وحدة وتماسك السلطة، ذات الطبيعة الفاسدة.
حزب الله بات حزباً محافظاً، بفعل اندماجه في السلطة، وكان عليه أن يجري حملة مراجعة لتجربته في الدولة (تشريعاً وتنفيذاً)، فما يكسبه في المقاومة يُستنزف في السلطة.
كان الانفجار الشعبي في لبنان في منتصف تشرين الأول 2019 عارماً وشاملاً، ولم يفارق أحداً (اتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة)، فقد طاول الانفجار كل الحصن والتابوات.
هو ليس انفجاراً خارج الجسد، بل هو انفجار من داخله. وإن ما جرى في كل مناطق لبنان هو رسالة إلى حزب الله وإلى الأحزاب والقوى السياسية كافة، بأن قواعدها الشعبية هي الموجودة في الساحات والشوارع، وهي من يغلق الطرقات ويحرق الدواليب ويخرج على التلفزيونات ويكتب في مواقع التواصل الاجتماعي. باختصار، هي من تعبّر عن وجعها بنفسها، وهنا تكمن الخطورة على مستوى الثقة، والعلاقة، والمصير بينها وبين التنظيمات التي تنتمي إليها.
مع عقلنة شعار «كلن يعني كلن»، بات التقسيم على النحو التالي: ضالع في الفساد، ومستفيد منه، وساكت عنه. وهناك كثيرون يصنّفون حزب الله في خانة «الساكت»، وقد يجنح بعضهم إلى تصنيفه في خانة «المستفيد» لفرط منافحته عن وحدة السلطة واستقرارها بالرغم من علمه المسبق بفسادها بما تمثّل وبمن تمثّل.
حزب الله صنع مقاومة معيارية تُحتذى، لكنه بعد انفجار الحراك الشعبي في لبنان، أصبح أمام اختبار جدّي ووجودي يمسّ كيانيته ومشروعيته التاريخية كجماعة مرجعية. ويزداد الأمر خطورة حين يضع الحراك حزب الله أمام جوهرته الفريدة: الصدقية.
ثمة من يجادل: وما العمل؟ وماذا لدى حزب الله من خيارات سوى المقاربة التسووية، مع إدراكه آثامها؟
كان على حزب الله تقدير الأمور وفق حسابات ثورية ومبدئية، بعيداً عن البراغماتية التي صبغت فوبياته جميعاً.
لم يكن الحزب مضطراً لتطمين حلفائه بالقدر الذي يسمح لهم استغلاله في ترسيخ أقدامهم في ساحات المواجهة مع مصالح الناس، ومع قيمه الأخلاقية والثورية أيضاً.
إن القبول بالانخراط في الجهاز البيروقراطي أفقد الحزب صبغته الثورية، وهذا ما يجري عادة. فإذا ما أردت تدجين حزب ثوري أو تنظيم راديكالي، أدخله اللعبة السياسية وسوف يصبح جزءاً من لعبة السلطة.
لا بدّ من مراجعة داخلية شاملة لسياساته وبرامجه وخططه، وأيضاً هياكله التي تتكلّس نتيجة رسوخ أقدام الجيل القديم في المناصب القيادية… وهذا يتطلب خطة تجديد الدماء، وترشيق الجهاز البيروقراطي للحزب.

* كاتب عربي