قد نُفاجأ عندما ندرك أن جسم أي شخص بالغ ويتمتع بصحة جيدة قد يحتوي على ثلاثة آلاف مليار فيروس تنتمي إلى أنواع متعددة. 10 في المئة فقط من الفيروسات تشكل خطراً على صحتنا، وكثير منها ضروري لنا من حيث فعاليته في قتل البكتيريا المضرة، وفي المحافظة على نوع من التوازن «البيئي» داخل جهازنا الهضمي . لكن المفاجأة الأكبر تكمن في معرفة أنّ 8 في المئة من جينوم الجنس البشري مكونة من جينات فيروسية نجحت في دخول خلايانا والاندماج في جيناتنا، لتصبح جزءاً منها على طول التطور البيولوجي للثدييات (ونحن نوع منها). بعض الفيروسات قد تكون ظهرت على سطح الأرض حتى قبل بداية ظهور الكائنات الحية، لكن أغلبها تطور وتبدّل وتكيّف مع تطور الكائنات الحية منذ ظهور أول بكتيريا (أي منذ 3.5 مليار سنة).
(توماس ماجيفسكي ــ بولنده)

إذاً، قصتنا مع الأوبئة مسألة بيولوجية قديمة، بعضها سببه الفيروسات وبعضها الآخر سببه ميكروبات أخرى (بكتيريا وكائنات مجهرية أخرى). ساهمت هذه الميكروبات في تأقلمنا كما ساهمت في قتلنا (مع العلم أن الموت الذي تسببت به هو أيضاً جزء من عملية الإنتقاء الطبيعي وبالتالي تطورنا).
مع التفشي الحالي للفيروس التاجي «كوفيد-19» الذي أجبر كثيراً من الشعوب على الإنعزال وإقفال الحدود في مشهد يذكر بقوقعة ما قبل التاريخ، تكثر الأسئلة عن أسباب التفشي المتسارع لأوبئة جديدة مع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين (السيدا، السارس، إنفلونزا الطيور والخنازير، إيبولا...)، أو عن عودة أوبئة قديمة منسية.
ظنت الإنسانية في بلدان ما يسمى العالم الأول (أوروبا وأميركا الشمالية) أنها أضحت محصنة ضد الأوبئة بعدما أدى تطور الطب في القرن العشرين الى القضاء على أوبئة فتكت بالبشرية. الجميع يعرف، مثلاً، أن الطاعون الذي تسببه أنواع من البكتيريا التي تنتقل من الجرذان الى الإنسان عبر نوع من الحشرات يدعى القراد، نتج عنه وفاة مئات الملايين من البشر منذ ظهوره في القرن الخامس الميلادي في مصر حتى آخر انتشار له حصل في أوروبا في القرن التاسع عشر. إضافة إلى أوبئة أخرى قتلت الملايين مثل الكوليرا، الملاريا، التيفوئيد، السل، الأنفلونزا الأسبانية، الحصبة، الجدري، الخ.
نجح الطب في القضاء على الطاعون الكوليرا والملاريا، مثلاً، من خلال اكتشاف مضادات حيوية قاتلة للبكتيريا التي تتسبب بها، وتمت السيطرة - من خلال لقاحات - على أوبئة أخرى تتسبب بها الفيروسات مثل الحصبة والجدري. مع العلم أن هذه السيطرة تبقى نسبية وانتقائية استفاد منها البعض، فيما لا يزال كثير من الفقراء في البلدان الأفريقية وبعض بلدان آسيا يعانون من الأوبئة نفسها منذ عصور. فوباء السل، مثلاً، قتل نحو مليون إنسان في العالم عام 2017، بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية، ولا تزال الملاريا تقتل نحو نصف مليون شخص في افريقيا سنوياً.
يتساءل الباحثون عن أسباب وراء تفشي الأوبئة الجديدة منذ مطلع هذا القرن، وعما اذا كان هناك رابط بين هذا التفشي وطرق العيش الحديثة: المدن المكتظة، تلوث الهواء والمياه والتربة، التغيير المناخي، وسائل الإنتاج الزراعي والحيواني، قطع الغابات، الخ. هل هناك فعلا من رابط مباشر؟ ألم ينتشر مرض الطاعون منذ عشرات القرون من خلال التجارة عبر طريق الحرير من دون أن تكون هناك حداثة وتلوث واكتظاظ سكاني وقطع غابات؟ هل الأوبئة متصلة مباشرة بنظامنا العالمي الجديد؟ هل الجشع والاستغلال المتسارع لكل الموارد الطبيعية بهدف الإنتاج والإستهلاك في ظل الأنظمة الأقتصادية الحالية يقودنا إلى كوارث صحية رغم تطور الطب؟ وهل تطور العلوم الطبية قادر على حمايتنا في ظل تحويل القطاع الصحي إلى شركات خاصة تهدف إلى الربح؟
لا يمكننا الجزم بأن الأوبئة مرتبطة دائماً بمشاكلنا البيئية المستجدة وبعصرنا الحالي. منذ بداية الزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة في العصر الحجري الحديث الذي بدأ قبل 12 الف سنة، والإنسان معرض لللأوبئة بحكم احتكاكه القريب بالحيوانات. إذ انتقلت إليه، مثلاً، فيروسات الحصبة والجدري من البقر. لكن ما يمكننا جزمه هو أن أساليب عيشنا الحديث واستغلالنا المفرط لمواردنا الطبيعية ولهاثنا وراء الربح السريع وتراكم الثروات أدت بشكل نهائي إلى تفاقم إنتشار الأوبئة وصعوبة السيطرة عليها.
لطالما حذر علماء البيئة من خطر القضاء على المساكن الطبيعية للحيوانات البرية مما يهدد التوازن البيئي ويتسبب بخلل كبير قد لا يتمكن الإنسان من التحكم بتبعاته. وأظهرت دراسات عدة أجريت في السنوات الأخيرة أن ميكروبات جديدة مسببة لمرض الملاريا بدأت بالتفشي منذ عام 2002 في ماليزيا وجنوب شرق أفريقيا. ربطت هذه الدراسات التفشي بقطع الغابات في هذه المناطق لأن اختفاء الأشجار يعزز ظهور نوع جديد من الحشرات الناقل لهذه الميكروبات. كما أظهرت أن فيروس ايبولا الذي تفشى بشكل كبير في قرى أفريقية عام 2013 كان أكثر انتشارا في مناطق أفريقيا الغربية والوسطى التي تعاني من أعلى نسبة قطع للغابات (لانشاء اراض زراعية أو مناطق سكنية أو تجارة الخشب). المخزون الطبيعي لفيروس ايبولا هو خفاش الليل الذي يعيش في الغابات، ويتعايش هذا الفيروس مع الخفاش من دون أن يسبب له أي أذى. وقد كان هذا الفيروس بعيداً عن الانسان لأن الخفافيش كانت بعيدة عنه أيضاً عندما كانت تسكن في الغابات. ولكن، بعد القضاء على مساكنها الطبيعية، اضطرت للجوء إلى الأشجار المثمرة الموجودة في المدن للبقاء على قيد الحياة، ما سبب تخالطها المباشر مع البشر ونقلها لهم ايبولا المميت.
وأظهرت دراسات أخرى أن تفشي فيروسات أنفلونزا الخنازير والطيور ناتج عن ظروف الإنتاج الحيواني في المزارع الحديثة حيث تتكدس كميات كبيرة من الطيور أو الخنازير في مساحات ضيقة تسمح للفيروسات بالإنتشار السريع والتكاثر، وتعزّز الطفرات الجينية التي تجعلها أكثر خطراً على الإنسان، إضافة إلى استعمال كميات هائلة من المضادات الحيوية التي تحقن بها الحيوانات المدجنة والتي تسهل عملية اصاباتها بالفيروسات (يشكل قطاع تربية الحيوانات والتدجين 80 في المئة من سوق المضادات الحيوية في الولايات المتحدة).
قد لا تكون أنظمتنا الاقتصادية الحالية القائمة فقط على الإنتاج واستغلال كل شبر من هذه الأرض هي الوحيدة المسؤولة عن إنتشار الأوبئة. لكنها تساهم في تفاقم انتشارها ولا تعالج أسبابها بل نتائجها.
معالجة النتائج من خلال السباق الى اختراع لقاحات أو أدوية لا تختلف، من حيث الجوهر والآلية، عن عقلية استغلال الموارد الطبيعية: الهدف الأول والأخير هو الربح وتراكم الثروات من دون أي اعتبار لأرواح الناس وصحتهم ولا لروح الارض وصحة نباتاتها وحيواناتها.
لقد دمرت أنظمتنا المبنية على الإنتاج البيئة، وبنت بنفسها ولنفسها «منظمات» لحماية البيئة!
قد يكون تسطيح المسائل الأساسية في حياتنا وتجزئتها هو سلاح هذه الأنظمة الأكثر فعالية في عصر الإعلام الممسوك من كارتيلات المال رغم مظاهر الحرية والديمقراطية. والمعالجة الإعلامية لوباء «كورونا» عالمياً - وليس فقط في لبنان فقط - يظهر مدى هذا التسطيح. إذ تتمحور كل التغطية على التعقيم وتقوية جهاز المناعة والعزل المنزلي (كم من شركة تعقيم وكم من شركة إنتاج للمعقمات والفيتامينات استفادت من هذا الضخ...) من دون أي توقف عند أسباب انتشار الأوبئة بشكل متسارع منذ بداية القرن الواحد والعشرين. هذه التغطية لا تختلف عن تغطية مشاكلنا البيئية، واختصار معالجة الوباء الجديد بالتعقيم وتقوية جهاز المناعة لا يختلف عن اختصار مشاكل البيئة باستبدال البلاستيك بالزجاج مثلاً.
أما في ما يخص إيجاد اللقاحات أو العلاجات الجديدة، فهي بالتأكيد ليست لشفاء سكان الكرة الأرضية غير القادرين على شرائها. هنا يمكن أن نستذكر ما قالته قبل سنوات نائبة رئيسة منظمة الصحة العالمية، ماري بول كياني عن فيروس ايبولا: «هذا الفيروس يصيب بشكل خاص الفقراء في البلدان الفقيرة حيث لا توجد سوق لشركات إنتاج الأدوية، هذا فشل لمجتمع مبني فقط على قانون السوق، الأموال والربح».

* أستاذة إيكولوجيا في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية