تُعتبر الدولة العميقة أو المتجذّرة، أو الدولة داخل الدولة، مفهوماً شائعاً لوصف أجهزة حكم غير منتخبة تتحكّم بمصير الدولة، بحيث تصبح أقوى منها ومن توجهاتها. ويفترض بأنّ للدولة العميقة عناصر متغلغلة في مؤسسات ومفاصل الدولة، تعمل باتجاه أهداف مشتركة للتأثير عليها وتوجيهها والتحكم بقراراتها.في لبنان، تغلغلت الولايات المتحدة من خلال الدولة العميقة، لتُحكم سيطرتها وقبضتها على البلاد، وتحاصرها اجتماعيّاً ومعيشيّاً، وتخضعها سياسيّاً واقتصاديّاً. وللدولة العميقة هذه، مؤسسات وامتدادات وأدوات، من السياسة النقدية المتمثلة بالمصرف المركزي والمصارف وسياسة الدولرة، إلى الأمن والقضاء والطائفية والاحتكارات والمنهج العلمي للتعليم العالي، وأخيراً الإعلام.
ما لم تلتفت إليه الولايات المتحدة، أنها تسببت أخيراً بخلل كبير في مؤسسات الدولة العميقة، وفضحت طريقة عملها، عبر خطأ جسيم تمثّل في الضغط الكبير للإفراج عن العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري، وبهذا جعلت شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني تسلّط الضوء على كيفية كسر هيمنة هذه الدولة العميقة على القرار السيادي اللبناني.
وهكذا، بدأ الكثير من اللبنانيين يلمسون بجديّة كبيرة مساوئ السياسة الأميركية على الاقتصاد اللبناني والإنسان. وهنا تحضر أولويّة مواجهة الأدوات في هذه الدولة العميقة وكسرها، وهو ما أصبح واجباً وطنيّاً، فأضحى من المنطقي العمل على تصحيح هذا الخلل في النظام السياسي والاقتصاي، وبتنا اليوم أمام فرصة استثنائية للتخلّص من هذه السيطرة. ولعلّ الطريق إلى تحقيق ذلك، يمرّ بمحطات عدّة للوصول إلى حالة «السيادة الوطنية»:
أولاً: تنويع الخيارات الاقتصادية في مواجهة الدولة العميقة والهيمنة الأميركية، فنحن اليوم أمام فرصة تاريخية لنثبت أنّ ما تحاول الولايات المتحدة فرضه ليس قدراً، وأنّ التوجه إلى تنويع الخيارات يساعد لبنان على إنقاذه ممّا وصل إليه من انهيار بسبب المنهج الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي المتّبع من أدوات الدولة العميقة، وبالتالي علينا العمل على إعادة دور الدولة في التحكّم بقرارها واستعادة إيراداتها المالية.
بدأ الكثير من اللبنانيين يلمس بجديّة كبيرة مساوئ السياسة الأميركية على الاقتصاد اللبناني والإنسان


ثانياً: الخروج من نظام عام 1992، والتوجّه للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث إلى وضع رؤية اقتصادية حقيقية لا تقف عند موانع ومصالح الدولة العميقة، بل يكون أساسها مصلحة الناس والمجتمع السليم.
ثالثاً: إعطاء مكتسبات للسياديين الاقتصاديين في التعيينات الحسّاسة، تبدأ من المرتكزات السياسة النقدية، وذلك من خلال تعيين نواب لحاكم مصرف لبنان لا يكون ولاؤهم للولايات المتحدة بل للوطن والناس، وأن تكون هيئة الرقابة على المصارف هي الحامية للمودعين، لا أن تكون حليفة للسياسات الأميركية ومصالحها. وهنا، قد يرى البعض أنّ ما نطرحه هو ضرب من الخيال، وأنّه لا يمكن أن تكون جميع التعيينات لصالح الولاء للوطن، ولذا، يجب بالحد الأدنى أن تكون الخطوة الأولى هي المناصفة بين الخيارين.
رابعاً: إقرار قانون استقلالية القضاء، مدعوماً بورشة تشريعيّة لتحديث القوانين، بما يحمي السيادة الاقتصادية والمالية والسياسية، لا أن يكون القضاء في خدمة تشريع القوانين التي تفرضها أميركا.
خامساً: إخراج الأجهزة الأمنية من تبعية المساعدات الأميركية الخارجية، عبر تصحيح وضعها المالي في الموازنة اللبنانية، وتنويع المساعدات العسكرية.
سادساً: كسر عالم الاحتكارات الذي يسيطر عليه رجال أعمال حقّقوا ثروات كبيرة، على حساب إيرادات الدولة وحقوق الفقراء والطبقات الاجتماعية، خاصة في عالمَي النفط والأدوية.
سابعاً: حلّ ملف الكهرباء الذي عملت الولايات المتحدة على عرقلة حلوله، فمنعت شركات أجنبية، وبالتحديد من الشرق، من حلّ هذه الأزمة بهدف تعميق العجز في البلاد، خاصة أن لبنان لو قبل العروض التي قُدمت له منذ عام 2008، لكان وفّر على الخزينة ما يقارب الثلاثين مليار دولار، أضيفت كحمل ثقيل على الدين العام، أي أننا بكل بساطة لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم بفضل ولاء الدولة العميقة ومصالحها، وارتباطها الخارجي.
بالمحصلة، لقد حان الوقت للاعتراف بأنّ الولايات المتحدة لها باع طويل في الإشراف والهيمنة على عملية الفساد الداخلي في لبنان، وبطرق ذكيّة، انطلاقاً من سياسة الفوائد، مروراً بدولرة الاقتصاد والعقوبات، بالإضافة إلى الاحتكارات ومنع الاستثمارات، وصولاً إلى وضع يدها على الملف الأساس الذي يشكّل النفط والغاز بيت القصيد فيه.
وأمام هذه الهيمنة، لا بدّ لنا من مواجهة الدولة العميقة ومصالحها، لنصل إلى السيادة الاقتصادية والوطنية، وذلك يكون بحماية ملف النفط والغاز قبل استخراجه، والإصرار على عدم التنازل في ملف الحدود البحرية، وتلازمه مع المسار البري، وتنويع الخيارات الاقتصادية، وأخيراً إقرار قانون استعادة الأموال المنهوبة.

* باحث وخبير اقتصادي