(1)
أعقب «الثلاثاء الكبير» ــ حيث عادت الإمبراطورية تضرب بقوّتها «الديموقراطية» الجبارة، عبر الوعي الزائف للمواطن الأسود في الجنوب الأميركي ــ شعورُ خيبة كبيرة. مع ذلك، كلّ شيء ما زال ممكناً، كلّ شيء داخل السياسة الديموقراطية ما زال ممكناً، لكن ما هو ذلك الـ«كل شيء»؟
تقول السردية الليبرالية الديموقراطية، بأنّ الديموقراطية هي في عملية التصويت الحر. يمكننا أن نعود إلى التعريف الماركسي للحرية الليبرالية: حرية التعاقد في السوق. عندما تنزل الحرية إلى المستوى الليبرالي، فصوت المواطن المتعرّض للآلة الإعلامية المملوكة لرأس المال، هو حرّ بمعنى حرية العامل نفسه، في بيع طاقة عمله للرأسمالي. الحرية الانتخابية هي في النهاية جزء من حرية التعاقد في السوق، وليس العكس.
حدود هذه السياسة هي، وإن فاز بيرني ساندرز في الانتخابات، أن تحافظ المنظومة على قدرتها على العودة، على كل مفاصل السيطرة على المجتمع. يمكن لليبرالية الديموقراطية أن تصل بأيّ شخص حرفياً إلى الحكم، إلا أنّ «ديكتاتورية البرجوازية» لا يمكن تفكيكها.
مع ذلك، أصيب شاب مثلي بخيبة أمل. فبيرني ساندرز، في النهاية، وإن لم يكن شيوعياً، هو من نسيم الماضي الشيوعي بالنسبة لي. ابتداءً من الحياة الشاقة في كنف الاسم الاشتراكي، والنضال غير المنقطع من أجل الكادحين، والأخلاق والشرف. سأكون آخر «التهكّميين» الذين يعتبرون أن ليس هنالك قيمة لمثل هذه الأمور: من وجهة نظري، فقيمة هذه الشكليات أكبر من قيمة التحقّق المادي للشيوعية. ماذا تريد السياسة الجذرية؟ تريد أن توجَد على وجه الأرض مادة، أي أن تكون واقعاً مادياً، لا تكون فيه شخصية بيرني ساندرز هي الاستثناء. نحن في النهاية، كما قال صديق إسلامي مرّة، لسنا خنازير لتُقاس حياتنا ونجاح مشاريعنا بتوافه الأكل والشرب واللذة. على الرغم من أنّ بيننا، ربما، عدداً لا بأس به من «الخنازير».
(2)

أريد هنا أن أذهب إلى خيبة أمل أخرى، تراجيديا لم تكتمل بعد في نظري. غريبة على القارئ ربما: واحدة من أجمل قصص السياسة الجذرية في هوامش هذا العالم، هي قصة الشاب بيتر جوزيف.
بدأت حكاية بيتر جوزيف (اسم غير حقيقي يختفي وراءه، خوفاً من تبعات الشهرة والموقف الحاد ضد النظام)، في أثناء ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، والأزمة المالية في العشرية الأولى من القرن. بيتر كان قد بدأ حياته فناناً، ودرس لفترة قصيرة الموسيقى، قبل أن يترك الجامعة مثقلاً بالديون ويتوجه إلى العمل في وول ستريت كمضارب محترف. أنت لن تأخذ كثيراً من الوقت لتشعر بالعبقرية الرياضية البسيطة لجوزيف، الأمر الذي جعله مضارباً ناجحاً، إلى حدّ ما. بعدما لمس الوعي، قرّر بيتر أن يترك وول ستريت، ويتوجّه إلى العمل في الدعاية الإعلانية، وهناك تعلّم أساليب تحرير الأعمال الإعلامية.
التجربة في وول ستريت، مع الحس الموسيقي والموهبة، والمعرفة بتقنيات الإعلام، كلّ هذه الأمور جعلت جوزيف مهيئاً، بصورة استثنائية، لإنتاج أول أعماله الشهيرة (فيلم زايتغيست Zeitgeist). والغريب في القصة هو أن الفيلم بدأ كأداء مفتوح. لا توجد نسخة مصوّرة من الأداء، إلا أنّ جوزيف يصفه كالتالي: بيتر يعزف على آلاته الموسيقية في الوسط، وعلى جانبية شاشتان للعرض. الموسيقى وتعليقات بيتر جوزيف تترافق مع تفاصيل الفيلم. فيلم على الهواء مباشرة، مادة خام فريدة. بعد النجاح الباهر للعرض قرر بيتر تحويله إلى فيلم شبه وثائقي وكان. نجح الفيلم بصورة منقطعة النظير.
فيلم «زايتغيست» Zeitgeist يحكي عن أحداث الحادي عشر من أيلو / سبتمبر، ويربطها بالأزمة المالية العالمية، وهو متوفّر على موقع «يوتيوب» لمن يريد مشاهدته. قيمة الفيلم هي في شكله وليس مضمونه، ذلك أنّ المضمون محفوف بنظريات مؤامرة لا يريد حتى جوزيف الدفاع عنها هذه الأيام.
بعد نجاح الفيلم، أنشأ بيتر جوزيف «حركة زايتغيست». و«زايتغيست» بالألمانية، تعني روح العصر. أخذت الحركة شكلاً مختلفاً تماماً عن الفيلم. ولذلك، كان من الضروري إنتاج فيلم وثائقي آخر، يتحدث عن الحركة ويفصلها عن الفيلم الأول. تعقيدات العمل العام المبني على تجربة الفرد، لاحقت بيتر جوزيف طويلاً، فالاسم والفيلم والحركة وشخصه لم يكن لهم أن ينفصلوا طبيعياً.
عبر الديموقراطية فضّل البشر، ولفترة طويلة، النقلات الصغيرة المرحلية والتي تنسف نفسها بعد فترة لتكون محصّلة التقدّم طفيفة


تطوّرت «حركة زايتغيست»، طوال العقد الثاني من الألفية، ولكنّها استمرت كحركة على هوامش الهوامش. مجموعات صغيرة جداً من الأشخاص أصحاب الوعي المضاد: النظام الرأسمالي متأسّس على مضاربات غير عقلانية على رأسها البنوك المركزية؛ المال نفسه نتاج للقوة وليس الإنتاج؛ النظام غير متوائم مع الطبيعة، إن كان الطبيعة البشرية (وهو بالتالي وفي حد ذاته مسبب لوباء صحي عام، متمثل في الإدمان، القلق، والموت المبكر)، أو الطبيعة البيئية (وهو بالتالي غير قابل لمواجهة الأزمة البيئية من داخله). لبيتر جوزيف كشخص، قدرة عجيبة على سرد تفاصيل دقيقة لهذه الادعاءات، ودعمها بإحصاءات علمية بصورة سلسلة شديدة الجاذبية. علّق أحدهم على قدرات جوزيف الإقناعية، بأنه «لا يحتاج لأن يتنفس بين الجمل»، الكلام ينساب واضحاً كالشمس. إلا أنّ سؤالاً آخر لا يجيب عليه جوزيف: ما النظام البديل؟ جوزيف يقدم مرافعة ألمعية ضد الإمبراطورية، إلا أنّه لا يملك الحدّ الأدنى من الإجابة على ما العمل؟ وبذلك، تتحوّل مرافعته إلى دعوة تلقائية لتبنّي الحلول المعروفة: الديموقراطية الاشتراكية (بيرني ساندرز مثلاً)، الديموقراطية الليبرالية (لأن بيرني ساندرز سيفشل)، وفي النهاية اللافعل.
هذا السؤال ــــ سؤال النظام البديل ــــ أخذه بيتر جوزيف بكامل الجدية. قاده بحث ماراثوني إلى «مشروع فينوس» (نسبة إلى كوكب الزهرة). و«مشروع فينوس»، هو قصة شخص آخر من مناضلي الهوامش، وهو جاك فريسكو. هذا الأخير الذي عاش لأكثر من مئة عام، قبل أن يتوفى في عام 2017، قضى غالبية حياته يدرس فنون المعمار والهندسة والتخطيط والنفس البشرية، في سعي أسطوري للوصول إلى نظام حياة متكامل، معمارياً، اقتصادياً وسياسياً، يؤدي إلى ازدهار الحياة، الفرد والمجتمع. التأسيس الفلسفي لعمل فريسكو، هو بالمجمل تأسيس بيتر جوزيف نفسه: المادية العلمية (يسميها سلافوي جيجيك المادية الفجة). ما توصل إليه فريسكو في النهاية، كان مشروعاً لبناء وحدات حياة متكاملة، منظمة بحيث تقتل الوفرة المنافسة، وبالتالي لا يحتاج الناس إلى الرأسمالية لتنظيم الإنتاج. لفريسكو تصاميم عملاقة للمدن المتخيلة، توجد حتى الآن في فلوريدا كمزارات للسياح. تبنّى بيتر جوزيف «مشروع فينوس» لفترة، بصفته الإجابة العملية عن سؤال البديل، قبل أن يختلف الرجلان حول من في القيادة (في الحقيقة لم يتحدث أي منهما علانية حول تفاصيل الخلاف).
السؤال التالي هو: كيف نعبر من النظام الحالي إلى نظام مبنيّ على أسس «مشروع فينوس»؟ هنا، تقف السياسة الديموقراطية كعقبة صلبة، ذلك أنه لتقنع الناس بنقلة كهذه ديموقراطية، فأنت بحاجة إلى وسيلة غير ديموقراطية. عبر الديموقراطية، فضّل البشر، ولفترة طويلة، النقلات الصغيرة المرحلية، والتي تنسف نفسها بعد فترة لتكون محصلة التقدم طفيفة. وربما لن ينتظر الكوكب نتيجة هذا التطور البطيء. هنا، وقف مشروع بيتر جوزيف. ومع خفوت أثر الأزمة المالية في تجذير فرص الوعي الجديد وعودة السياسة من «احتلوا وول ستريت الجنونية الانفجارية» إلى «بيرني ساندرز الجذري الديموقراطي العملي»، اختفى مشروع زايتغيست تماماً، اللهم إلّا بالنسبة إلى أمثال كاتب هذا المقال.
هنالك تفصيل في كل خطابات بيتر جوزيف العامّة تقريباً: جوزيف يكره الـism، أي الإضافة في اللغة الإنكليزية التي تشير إلى تحوّل المادة إلى فكرة. هنالك المشايعة Commune، وهنالك الشيوعية Commun-ism؛ الرأسمال Capital والرأسمالية Capital-ism؛ هكذا... الاسم والمنظومة، الهدف والمشروع، الكلمة والعقيدة. بيتر جوزيف يعتقد أنه لا داعي لما يسميه جاك لاكان الدال الأساسي Master Signifier، أي ارتباط الفرد مع الفكرة. كلّ ما هو مطلوب هو أن يرتبط الفرد مباشرة مع الواقع: ما هي أفضل السبل العملية لتحسين حياتي؟ لتحسين حياة المجتمع؟ ثم يبدأ الفرد بتحليل مباشر للواقع، كما هو بلا أي انحياز لفكرة معينة تخلق هي الواقع في نظر الفرد. لكن ماذا إن كان الواقع المباشر نفسه هو سبب عدم القدرة على تغيير الواقع؟ مثلاً: بالنسبة إلى الفرد النرجسي الرأسمالي الحديث، فالواقع المباشر هو حياته الخاصة الضيّقة، زمنه الضيّق، حقبته. من المنظور الواقعي المباشر غير المنحاز، فإنّ أي سياسة جذرية هي جزء من الجنون غير المنطقي حرفياً. حتى «التضامن» العمالي، حيث تكون مصلحة العامل المباشرة هي في دعم مصلحة كل العمّال، فإنه لا ينتهي إلى حزب يغير المنظومة، بل إلى نقابة تعمل داخل المنظومة. لأنّ ذلك هو منطق الواقع المباشر، المادي العلمي، والفج.

(3)

أنا لا أدعي أنّ مصير بيتر جوزيف لن يكون مصير الحركة الشيوعية. جوزيف استالين، وبقية الطغمة قتلوا، قبل المشروع الشيوعي، فكرة الحتمية التاريخية. ما يسمّيه سلافوي جيجيك «العودة من ماركس إلى هيغل»، والتي تميّز عدداً من المنظّرين الماركسيين في هذه الألفية، هي بالتحديد العودة من حتميات المادة ــــ أي المادية الجدلية Dialectical Materialism ــــ إلى «الجدلية المادية» Materialist Dialectics. الثانية، كما يقول آلان باديو تبدأ من أنّ الجدل هو جزء من المادّة، نتيجة أنّ المادّة نفسها غير مكتملة، بينما تبدأ الأولى من المادة الفجة وتحاول الوصول إلى توقّع الحتميات.
ما أقوله هو: لا بدّ من إكمال أي واقع بفكرة. فكرة يرى الفرد من خلالها الواقع، بحيث يكون ذلك الواقع قابلاً للتغير. ما تطلبه السياسة الشيوعية، هو نقطة الجديد بعد فهم التطابق الجدلي بين بيرني ساندرز وبيتر جوزيف. كلا الحدثَين (الظهور الديموقراطي الكبير مع إلغاء إمكانية الحل/ الاختفاء الكامل مع وجود الحل) ينتمي إلى فهمٍ غير جدلي للواقع، يرى في الإنسان والمادة شيئاً كلياً ثابتاً غير قابل للتغير، وبالتالي يكون الحل إما الانغماس الكامل داخل حدود الواقع، أو الخروج بالكامل منه. الشيوعية في المقابل، كما نظّر لها ماركس ومارسها لينين وماو وعبد الخالق محجوب، هي في التعامل مع الواقع مباشرة، وعبر تغييره التدريجي (الثوري/ المرحلي) حتى يناقض نفسه، بحيث يصبح المستحيل في مقام الممكن: عندما يؤسّس لينين لنظرية الحزب المتحالف مع تنظيمات السوفيتات، فهو يحارب الواقع من داخله، عبر أساليبه، بلا أي شطحات خيالية أو عنتريات، يتنازل ويراوغ كأيّ سياسي عادي في أيامه، إلا أنّه ينتظر كذلك لحظة إمكانية تحوّل الحزب الاشتراكي الروسي إلى الحزب الشيوعي الروسي، بكل العنف المتوقع (الاستعداد للعنف يأخذ في السياسة الحالية مكاناً جانبياً، إذ لا تستعد الأحزاب إلا لما ينتمي للواقع الحالي، بينما ينظر الشيوعيون إلى تحوّل الدولة الجذري، كتحوّل يحفّز كل طاقة العنف الفاشية في الطبقة الحاكمة، ويستعدون له مهما بدا الأمر بعيداً، وهو عنف دفاعي دائماً). إنجلز ذكر مرة أن الدولة تختفي في التصور الشيوعي، ليس عبر إلغائها، إنما عبر تكثيف شغلها بإدارة نفسها بما يمنعها من الانشغال بإدارة الناس. الدولة الغائبة هي بيروقراطية فائقة لدرجة تعارض تصور الدولة لنفسها. مثل هذه الأفكار، تشير إلى أنّ هنالك دائماً في التصوّر الشيوعي للعالم «مراحل»، مناطق للفعل المباشر تنتمي لكلتا المرحلتين السابقة والتالية. وليس لإحداهما حصراً.
ولتتم هذه العملية، فإنّ الفكرة الجديدة يجب أن تخلق تحتها آلات ظهورها في الأرض. ذلك هو الكادر. المجتمع الشيوعي (والذي هو الحل الوحيد من انهيار الرأسمالية المستمر)، هو نتاج تحوّل الفكرة إلى وجود، عبر التزام الكادر بها. الـism في الواقع، هو دائماً جزء من تغييره. إذ الواقع المباشر المادي الفج، هو في نهاية التحليل في حد ذاته أيديولوجيا تبرر نفسها. الموظف الذي يحترم مرؤوسه، هو جزء من الواقع المباشر (هو حقيقة مادية)، ولكنه في الوقت نفسه جزء من أيديولوجيا ما. الأيديولوجيا موجودة داخل المادة.
* كاتب سوداني