من مستلزمات تشخيص الحرب على سوريا وأسبابها القريبة والبعيدة، البحث الوافي والدقيق عن دور النخب السورية، وكل من انبرى للسير مع الحراك السوري فيما سمي بـ«الثورة السورية» أو ركبهُ أو رُكِّبَ عليه، أو تلك التي وقفت للتصدي «لمؤامرة» تفتيت الجسد السوري وضرب انسجامه المجتمعي الظاهري الهش منه أو الحقيقي المتأصل تاريخياً عبر الحقب الزمنية الطويلة، بقصد تغيير وجهة القاطرة السورية وحرفها عن مسارها القديم وضمها إلى حلف «المتأمركين» في المنطقة.
في الوقت الذي يغادر فيه القطار الأميركي بعرباته المنهكة جامعاً سككه المهترئة، مخلفاً والى الأبد موظفيه من قاطعي التذاكر وحاملي الإشارات، وموظفي التحويلات ومشحمي العربات، والعاملين على مواقد نيران الفحم الحجري والغاز، وبقية المخلفات البترولية.
فوجئت النخب السورية بما يجري في بداية الحراك، سواء تلك الخارجة للتو من كهوفها الأيديولوجية والفكرية أو التي انزاحت من أقصى يسار الطيف السياسي إلى أقصى يمينه أو تلك التي لم تجد لها أسساً فكرية، عدا استعادة خطاب «الإسلام السياسي» التقليدي من جديد، وانساقت تمتطي مطالب الناس. لم تكن النخب قادرة على ضبط الشارع وتوجيهه بالطريقة التي تحقق شعارات «الثورة» بأقل الخسائر، إنما الذي حدث كان معاكساً، إذ أصبحت القيادات الطارئة المتسلقة على الحراك السوري مضطرةً لأن تسايره وتزايد عليه، وتتبنّى شعاراته بما فيها من تطرّف مبالغ فيه وأوهام وأمانٍ صعبة التحقق، وشتائم وسباب، أطلقتها حناجر الفئات العمرية القائمة بالثورة (معظمها من الشباب المتحمس).
كان لزاماً عليها توجيه الشارع إلى مطالب سياسية ومجتمعية وأهداف عقلانية، وليس الانسياق معه في شيطنة الدولة والنظام والدخول في منولوجات يومية، من السباب والشتائم التي تطال الموتى والأحياء، بما يناقض الموروث الأخلاقي والديني عند غالبية الشعب السوري، وبما سيؤدي لاحقاً إلى استباحة الوطن دولةً وشعباً ومقدرات.
ظهرت النخب السورية خصوصاً تلك الـُمصنَّعة على عجل في الخارج، والتي أُتيحت لها منابر العولمة الجديدة ليل نهار، هزيلة متخبطة في إيديولوجيتها، شعبوية، متطرفة، توقظ الأحقاد القديمة، منساقة بألف خيط وألف يد ومرتهنة من أخمص قدميها لأعلى رأسها، بعيدة عن واقعها، تناقض موروثاً سورياً تاريخياً من الاستقلالية والوطنية.
فلم توفر هذه النخب بديلاً فكرياً متيناً يعبّر عن تطلعات الشعب السوري في الديمقراطية والتخلص من الاستبداد الأمني، والدخول لعملية تقويم ذاتية للوطن السوري في القرن الجديد، والبناء على الثوابت السورية المتجذرة. وراحت تدغدغ عواطف الناس وتتطرف في أطروحاتها الشعبوية بعيداً عن «عقلنة» الشعارات وعن النقد الذاتي للحراك، الذي أصبح منذ بدايته مليئاً بكل المتناقضات وكل الفاسدين والمتسلقين والضالين والمتآمرين... وأُلبِس بدلاً من ذلك ثوباً من القداسة والطهر بما يناقض حقيقته وواقعه، وتاهت النخب وغيّرت لبوسها وخطابها مرات ومرات من ليبرالية إلى فاشية دينية، إلى نخب طفيلية لا تعرف لها فكراً عقلانياً متأصلاً.
سقطت النخب بالتبعية والارتهان والشعبوية والتطرف وتأجيج الأحقاد ومخاطبة غرائز الشارع، وأصبحت مطية لمشاعر حقد غير منضبطة، ثم لم تلبث أن بدأت تلعب على مشاعر طائفية قاتلة، لتراهن على حرق مركب الوطن والوصول بسوريا إلى بيئة مُخرّبة محروقة، مُعقّمة تصلح كمَعملٍ بحثي لبناء تجريبي في إعادة إعمار جديدة بعد سقوط النظام، وحتى المراهنة على بناء كيانات جديدة مقسمة على الأرض السورية.
لكن سريعاً ما لبث السوريون أن ارتابوا في «أهداف الثورة» حينما شاهدوا أن أعداءهم التاريخيين من استعمار قديم وحديث (أميركا وفرنسا وبريطانيا ومن لف لفهم من محميات ومستعمرات خليجية ووكلاء إقليميين) هم الداعمون الرئيسيون لهذه الثورة ولنخبها المصنعة، فصار على السوري أن يعطّل عقله طوال «الثورة» ليقنع نفسه أن الديمقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن يبشر بها أكثر الدول تخلفاً فيهما، من محميات ومشيخات نفطية فرضتها على الساحة الدولية، طفرة النفط والغاز، وهي المحميات التي لا تحتاج إلى «ثورات ربيع عربي» فحسب، بل تحتاج إلى «ثورات استقلال وتحرير وطنية». فإذا كانت سوريا بحاجة إلى إصلاحات سياسية واجتماعية، فإن من داعمي الثورة السورية مَن يحتاج إلى ثورات تحرّر وطني من الاستعمار بشكله المباشر (قوات عسكرية في قطر والبحرين والسعودية والإمارات...)، إضافة إلى ذلك الشعور بالمهانة الوطنية التي يشعر بها السوريون وهم يرون نخبهم تُساق كالقطعان وتُعلف في مؤتمرات لا تنقطع من أصحاب براميل النفط والغاز أو الواهمين بعودة أزمنة ظلام فائت. ولتسجل هذه المعارضات الثورية الجديدة سبقاً نضالياً، نضال الفنادق والسفارات، وهم (أي السوريون) المغرقون في الحضارة حدّ التخمة والمعتزون بقرارهم الوطني.
خلاصة القول أن سوريا ابتُليت في أهم مفصلٍ تاريخي في القرن الجديد، بعد ذلك الذي تقسمت فيه إلى أربع دول وجزء سليب في مطالع القرن المنصرم، بنخب شعبوية مراهقة، طفيلية، سطحية التفكير انفعالية حاقدة ومرتهنة، بعيدة عن التيار الجارف للشعب السوري، ومتصادمة مع تطلعاته الحقيقية. ولم تقدّم البرنامج الوطني الجامع (حتى الجزء النظري منه على الأقل) الذي ينقل سورية إلى عصر جديد بعد القضاء على رواسب الماضي من تسلط واستبداد أمني.
اليوم وقد استعارت «الثورة السورية» كل ثياب الحرب والمؤامرة للقضاء على الدولة السورية، وتفتيت كيانها الجغرافي والتاريخي والمجتمعي، وكشفت هذه الحرب عن ساقيها وعن كل عوراتها وسوءاتها الكثيرة، فقد أصبح على الشعب السوري الواعي المتمسك بثوابته وأرضه أن يفرز نخبه الجديدة من عمق معاناته. نخب واعية ناقدة للواقع تعمل على القضاء على الاستبداد والتخلف والظلم الاجتماعي.
نخب تدرس الواقع وتؤمِّن للشعب مطالبه في حياة مستقبلية متساوية الفرص والحقوق والواجبات في ظل منظومة قانونية محترمة، تستشرف أخطار سوريا في القرن وتعمل على صوغ فكري ينسجم مع مشروع قومي حضاري منفتح متين الأركان.
نخب غير حاقدة، متسامحة مع ماضيها لتبني مستقبلها، فالدماء التي سقطت على كامل التراب السوري ستغرق الجميع إذا نبشوا أحقادهم الشخصية والطائفية والمذهبية. ولكن التسامح والحب والتعالي على الجراح، ستكون بمثابة النسغ الكامل الضروري لعملية التحول لسوريا المتجددة وخروجها الآمن من الشرنقة.
نخب تؤمن بالوطن السوري وبالمواطنة السورية خياراً واحداً ووحيداً بعيداً عن أزقة الطائفيين والمذهبيين والعرقيين الضيقة، ويجب إلقام كل من يطالب بالمحاصصة في سوريا حجراً حتى لو كان صديق سوريا مدفيدف ذاته.
وإلاّ ستتحول حياة السوريين كما كل العرب على امتداد رقعة الوطن إلى ساحة تعارك محلي وإقليمي ودولي طويل الأمد لا ينتهي إلا بانتهاء الكيان السوري نفسه، ونشوء صراعات تديرها جهات قذرة، تكرس الشقاق والتفرقة والتطرف ولا نصل فيها إلى كلمة سواء، تحفظ سوريا كياناً ومكونات، وتنقذها في قرن رسم الخرائط الجديدة وانزياح الجغرافيا ومآسي اجترار التاريخ.
* كاتب سوري