العوارض، هي المؤشر الأولي على حالة المرض، والمدخل الإلزامي لمعالجته، إلّا أنها أيضاً يمكن أن تكون السبب في موت المريض، وذلك في حالتين: الأولى، إذا لم يتم التشخيص بشكل صحيح، والثانية إذا تمّت معالجة العوارض نفسها من دون التوصّل إلى معالجة المرض بذاته. هذا الموقف الجدلي الناتج من تزامن العلة مع النتيجة، يمكنه أن يشكّل، في حال تدقيقه، أساساً لمقاربات ربما أصبحت مطلوبة اليوم، ليس للحياة الصحيّة للمواطن فقط، بل في حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعيشة. الفساد، والسرقة، والهدر، والرشوة، والنهب... وغيرها من القضايا، هي مصطلحات دخلت بقوة في الحياة العامة، بمعانيها المُمَارسة كسلوك يومي؛ تمسّ بنتائجها حياة المواطن وتؤثّر سلباً في معيشته. ليس من عاقل يقبل بمثلها، ولو لفظياً، حتى وإن كان مشاركاً بها أو شريكاً فيها. هي منظومة مركّبة بين منتفعين، يحرسون هياكل المرافق العامة، وحماة لها، هم من يمتلك سلطة القرار. أبطالها موزّعون داخل مفاصل سلطة مترابطة كسلسلة، منتظمة في أدائها، ومحمية من نظام قائم بطبيعته على توزيع المغانم بنمط من علاقات زبائنية، فيها من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة إمكانات يجري تعميمها على أوسع طيف معشّش في دوائر الدولة ومواقع القرار فيها.
إن التصدي لمثل تلك الحالات «الضارّة» بطبيعتها، والمؤذية بنتائجها والمدمّرة والمعيقة ــــ على المديين المتوسط والبعيد ـــــ لعملية بناء اقتصاد حقيقي ومنتج، والهادرة للمال العام، والذي هو بالمناسبة، ملك الشعب وليس القلّة منه، بالاستناد إلى هذا التوصيف، تصبح مواجهة هذه الآفة ضرورة موضوعية تفرضها النتائج الكارثية المحقّقة على المصلحة العامة، وعلى السلم الاجتماعي الذي يتضرّر بدوره، بطبيعة الحال. يتطلّب هذا الأمر، في نهاية المطاف، التصدّي له واستئصاله، ولا سيما أنه بات اليوم شبكة متراصّة من علاقات بينية وبنيوية بين منتفعين، محليّين ومن خارج الحدود؛ ميزانها المحلّي محمي بمنظومة متسلسلة من الأدنى إلى الأعلى، والخارجي بعلاقات تبعية وارتهان، وهي بالمناسبة ليست مستجدّة بل موغلة في التاريخ، وبالتحديد مع الغرب.
لقد يمّم لبنان، السياسي والاقتصادي، شطر وجهه صوب الغرب منذ أن حطّت باخرة فخر الدين الثاني على شواطئ إيطاليا، منذ ستمئة عامٍ، ولمّا تزل حتى اليوم. لقد مرّت تلك العلاقات بين مدّ وجزر مترافقةً مع أمواج عاتية، عندما اختلّت التوازنات الداخلية ـــــ المشروطة بالرعاية الخارجية ــــ لغير مصلحة الغرب، مع الإشارة إلى أنّ أزمتي 1958 أو 1982، واللتين حطّ فيهما الغرب على شواطئنا عسكرياً بهدف تغيير موازين القوى لمصلحته أو تثبيتها لمصلحة حلفائه ـــــ والنتيجة المعلومة لكلتا المرحلتين ـــــ كانتا واضحتين، وشكّلتا الدليل الذي لا يقبل النقض. لقد تجذّرت تلك النمطية من العلاقات التي تقوم، من جهتنا على التبعية، ومن جهتهم على الهيمنة، ما جعل «الدينميات» المحلية تنعدم لمصلحة علاقات اتسمت بالزبائنية اقتصادياً وبالاستتباع سياسياً. وفي الداخل، أصبحت مفاصل النظام السياسي أداة للتحكم وللديمومة، وأساساً متيناً لطبيعته التي سادت ولمّا تزل، وأي تغيير مطروح في هذا السياق، كان يجب أن يأخذ في الاعتبار مهمة استبدال ذلك النمط بآخر؛ يعكس نقيض السائد، ويؤسس لقيام بديل يطاول البنى الاقتصادية الأساسية للنظام اللبناني، والذي سينعكس بالضرورة على شكل هذا النظام المعمول به وكذلك في وظيفته، وهذا لم يحصل حتى الآن.
إنّ الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بلبنان حالياً، وتداعياتها المحقّقة على الصعيدين المالي والاقتصادي، لا يمكن فصلها عن المسار التاريخي الذي اتّبعته المنظومات المتلاحقة من السلالات التي تحكّمت بمفاصل الدولة وهياكلها. لقد تجذّرت تلك النمطية المرتبطة بعلاقات تبادلية بين مكوّنات، اجتمعت فيها البرجوازيات التابعة مع شروط رأس المال المهيمن، معطوفة على طبيعة مختلقة لنظام سياسي مؤَسَّس على تركيبة موقوتة لمذاهب ومناطق، قابلة للانفجار في أي لحظة، جُمعت على عجل كي تؤسس ذلك «الكيان النهائي» الذي سُمي لبنان على حد قولهم. فتلك الولادة القيصرية، أعطت مولوداً لم يكتمل نموه بشكل طبيعي، ما استوجب وضعه في الحاضنة الاصطناعية كي تحافظ على حياته فقط، من دون الاهتمام بنموّه. هذه الحاضنة، تبدّل أصحابها كثيراً إلّا أن أوكسيجينها الضروي للحياة ظلّ ثابتاً؛ تبعية واستجابة لشروط الدول المموّلة؛ فاجتمعت حينذاك التبعية الطوعية مع الاستجابة المطلقة للشروط، والنتيجة الدائمة والمحقّقة كانت دائماً أزمات بمفاعيل متعدّدة: حروب، اقتتال، توتر، تعطيل، كيدية، اقتصاد معطّل، ولاءات، تدخل خارجي... بشكل طوعي وسلس، ما أفقد «الكيان» مناعة ضرورية لبقائه.
إن اللجوء إلى معايير جديدة بغية مواجهة الأزمة القائمة أصبح ضرورة تفرضها المستجدّات الحاصلة، وهذه المواجهة يجب أن تتوجه صوب الاستدامة وليس نحو الظرفية والآنية


على أساس تلك المشهدية المتكرّرة، بعد قرن على تلك الولادة القيصرية، توالت الأزمات واستمرت، وتبقى تلك المعالجات القاصرة ــــ والتي ثبت قصورها وعدم قدرتها وبالوجه الشرعي ــــ هي الملجأ؛ الثابت فيها كان المحافظة على الطبيعية الهجينة للنظام السياسي، والمتحرّك كان الانتقال الرشيق من وصاية إلى أخرى. إنّ الأزمة بجوهرها هي هنا، والمطلوب التصويب عليها وليس على عوارضها، فطرح المخارج المرتكزة على تبديل السلوك أو تغيره لن يكون في مكانه الصحيح، بل يجب المبادرة وبجرأة موصوفة، للضرب على رأس المشكلة كي نسقطها، وليس لتصحيح مسارها.
إن اللجوء إلى معايير جديدة بغية مواجهة الأزمة القائمة، أصبح ضرورة تفرضها المستجدّات الحاصلة، وهذه المواجهة يجب أن تتوجه صوب الاستدامة وليس نحو الظرفية والآنية. فمنظومة العلاقات وشبكاتها المتعددة، والتي تُعطي المنظومة السياسية جرعات استمرارها في السلطة، اهتزّت اليوم وأثبتت عدم نجاعتها، وستودي بالنظام السياسي إلى الهاوية. لقد أصبحت اليوم تلك العلاقات القائمة، والتي كانت نتيجة لنمط الشراكة المفتعلة بين مستفيدين من مظلات حماية تحكمها الولاءات، موضع مساءلة من مشغّليها ومن المستفيدين منها، ما يجعل إمكانية إطاحتها متاحة فيما لو تمت المقاربة من زاوية كسر الاحتكار الغربي للوصاية الاقتصادية لمصلحة الداخل في بعض جوانبه عبر تعزيز قطاعاته المنتجة وتطويرها، أو باتجاه صوغ علاقات جديدة مع أفق عربي مفتوح على نوع من التكامل، أو لنقل التعاضد، مع فتح نوافذ من العلاقات على اقتصادات صاعدة وقوية يمكن أن تؤمن شبكة أمان اقتصادي غير مرهونة بشروط أو تبعية أو استغلال أو مقايضة. عند هذا الحدّ، يصبح ضرب الأساس الزبائني لطبيعة العلاقات القائمة اليوم في النمط السياسي ــــ الاقتصادي السائد ـــــ والذي ثبُت إفلاسه ــــ ضرورة حتمية، فيما لو قرّرنا حلّ الأزمة الحالية التي تعصف بالبلد.
من هذا المنطلق، وفي ظل الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 تشرين الأول / أكتوبر، أصبح من الضروري الانتقال بها من مرحلة الاحتجاج الناشط إلى مرحلة التصعيد الفاعل، وذلك من خلال تجذير الخطاب السياسي، بحيث يتعدى مرحلة التجميل في طرح المقاربات لمصلحة المبدئية المُؤَسِّسة لنمط جديد من العلاقات، التي ترفض السابق وتطرح الآتي والمرتكزة على كسر البنية الموجودة والمنتظمة لمصلحة قوى السلطة والمنتفعين منها باتجاه أخرى، منحازة إلى مصلحة الشعب اللبناني وخصوصاً فقراءَه وأصحاب الدخل المحدود، والذين يشكّلون أكثرية الشعب اللبناني.
إن ما طرحه «لقاء التغيير»، في إعلانه نهار الأحد في 23 شباط / فبراير 2020، كان المدخل الذي يجب أن يُبنى على منطلقاته، باتجاه فتح أفق أمام جمع كل قوى المواجهة في ائتلاف وطني في وجه المنظومة الحاكمة، وببرنامج واضح ورؤية مختلفة، وليتقدم باتجاه وضع الإصبع على المشكلة مباشرة، من دون إضاعة الوقت في التفتيش عن الموقف الجامع بشكله، بل العمل على المضمون؛ وفي هذه الحالة، تصبح استدامة المواجهة وتجذيرها، وبأفق تغييري حقيقي، منشودة من جميع الحريصين على تغيير هذا النظام القائم، بقواه وسياساته وعلاقاته، الداخلية والخارجية، ويمكنه أن يضع الحجَّةَ أمام الجميع.
المرحلة المستجدّة تتطلّب الانتقال إلى وضع الأسس اللازمة لبرنامج عمل، تكون مواجهة السلطة ومنظومتها أساساً صلباً وواضحاً فيه، وكيفية إحداث التغيير المطلوب هدفاً معلناً، بشقّيه السياسي والاقتصادي، ما قد يطرح أمامنا معضلة جديدة تتجسّد في طبيعة القوى الواجب العمل وإياها والمشاركة معها! ربما تكون المهمة صعبة بعض الشيء، لكن تبقى المراهنة قائمة على حجم المسؤوليات الملقاة على كتف كل من نزل إلى الشارع... التحدي كبير، ولا مناص من الاستجابة المشتركة والمسؤولة.

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني