في أولى إطلالاته الإعلامية، رفض وزير الطاقة والمياه ريمون غجر إطلاق الوعود، ووضع مهل زمنية لتأمين الكهرباء ٢٤ / ٢٤، كما صارح اللبنانيين بصعوبة الموقف. بدا الوزير مستسلماً أمام ما وصفه بالـoxymoron، أي إنّها عقدة تتّسم بالتناقض الذاتي، بحيث إننا نحتاج إلى أموال واستثمارات لزيادة إنتاج الكهرباء وتلبية الطلب، كما أننا نحتاج إلى زيادة إنتاج الكهرباء لنتمكّن من تخفيض العجز المالي، عبر رفع كلفة دعم سعر الكهرباء. مثله، فعل البيان الوزاري الذي شدّد على الالتزام بخطّة قطاع الكهرباء المقرّة سابقاً، بحجّة أنّ الوقت لا يسمح بوضع خطط جديدة. تشتمل الخطة، ببندها المتعلق بالإنتاج، على حلّ دائم وحلّ مؤقت. إلا أنّ معامل الإنتاج التقليدية (الحلّ الدائم)، تحتاج إلى سنوات عديدة، قبل أن توضع على الشبكة، بينما تواجه الحلول المؤقتة والسريعة رفضاً شعبياً، تحديداً في حالة الاستجرار عبر البواخر. وقد تضمنت الخطة طرحاً لدمج الحلَّين، الدائم والمؤقت، مع ما يعنيه ذلك من فتح للباب أمام حلول سريعة أخرى غير البواخر، كالتي تمّ التداول بها سابقاً، والتي يمكن أن تؤمّنها شركات كبرى مثل «سيمنز» و«جنرال إلكتريك»، في غضون أشهر، عبر تكنولوجيات إنتاج سريعة، إضافة إلى الشروع في تنفيذ معامل الإنتاج الدائمة. على أنّ الوضع الاقتصادي والمالي المتأزّم والمتفاقم، بعد ١٧ تشرين، يطرح تساؤلات جدية بشأن إمكانية تطبيق بنود هذه الخطة، لا سيما لجهة تأمين التمويل اللازم في ظل المخاطر المالية والاستثمارية الكبيرة. وقد يحتاج ذلك إلى غطاء دولي متمثّل في برنامج لصندوق النقد الدولي، كما حصل في مصر، أو لدعم مباشر من الدول الراعية لهذه الشركات الكبرى ضمن شروط وآليات محدّدة، كما هي الحال في «مؤتمر سيدر».أمام هذا الواقع، وفي زمن البحث عن خيارات بديلة، قد لا يحتاج الوزير إلى البحث بعيداً عن حلّ مختلف؛ ففي مقال علمي نُشر العام الماضي، يتناول الوزير نفسه (وهو بروفيسور في نظم الطاقة) خيار التحوّل إلى نظام طاقوي غير مركزي يعتمد على مصادر إنتاج موزّعة ضمن شبكات صغيرة تُعرف بالشبكة الميكروية (microgrid)، مربوطة بالشبكة العامة لمؤسسة كهرباء لبنان. ويتم ذلك عبر تجميع مولّدات الكهرباء التي تعمل على المازوت، والمنتشرة في الأحياء والبلدات ودمجها بنظُمٍ للطاقة الشمسية الكهروضوئية. يخلص بحث الوزير إلى أنّ كلفة الإنتاج عبر هذا الترتيب أقلّ من الكلفة الحالية، كما أنّ ضرره الصحي والبيئي أقل، وذلك استناداً إلى التخفيف من الإنتاج عبر مولّدات المازوت العالية الكلفة والضرر. ويسهم هذا الترتيب، أيضاً، في تخفيف الضغط على الشبكة العامة وتخفيف الهدر الفني منها، وبالتالي تقليص العجز المالي في القطاع. وفي دراسة علمية أخرى نُشرت حديثاً من إعداد باحثين في جامعة كلية لندن، تُطرح لامركزية الطاقة كسبيل لحلّ العديد من الأزمات الاجتماعية في لبنان، وعلى رأسها أزمة الكهرباء، إضافة إلى أزمات التغيّر المناخي والنزوح الجماعي. هذا التوجه إلى اللامركزية، أضحى عالمياً بعد تطوّر تكنولوجيات الطاقة المتجدّدة، وتخزين الطاقة وانخفاض كلفتها، فهل يكون حلّاً لمعضلة الكهرباء في لبنان على المديين القريب والبعيد؟
عوائق عديدة قد تواجه حلّاً كهذا، منها ما هو تقني وقانوني، ومنها ما يتعلق بالسياسة وبالتمويل. تقنياً، يحتاج الترتيب إلى إجراء مسح لتوزّع الطلب على الطاقة وتوزّع المولّدات وطبيعة الشبكات الموجودة في مختلف المناطق، كما إلى تحديد أفضل أماكن لتركيب النظم الشمسية، لتأمين أعلى فعالية تقنية ومالية ممكنة من جراء الدمج. من المفترض أن تكون هذه المعلومات موجودة، وقد تحتاج إلى مطابقتها فقط. كذلك، فإنه يحتاج إلى وضع نظام لإدارة الطاقة يعطي الأولوية للطاقة الشمسية عند توافرها، ومن بعدها للشبكة العامة، ومن ثمّ الاستعانة بالمولّدات لسد العجز، ما قد يستدعي إنشاء مركز وطني للتحكم. تشغيلياً، يمكن الاستفادة من تجربة مماثلة موجودة في بلدة قبريخا الجنوبية، في مشروع تمّ تنفيذه ودعمه من قبل الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. في القانون والإدارة، يحتاج هذا الترتيب إلى تطبيق القانون ٤٦٢ أو تعديله، بما يتلاءم معه لجهة تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء لتنظيم عمل الشبكات اللامركزية والأطراف المعنية بها، ووضع أسس ومعايير تقنية ومالية لتبادل الطاقة بينها وبين الشبكة العامة. قانونياً أيضاً، يطرح السؤال حول التراخيص المطلوبة لإشراك القطاع الخاص في تنفيذ مشاريع إنتاج الطاقة اللامركزية، ومنها الشمسية، وتطوير شبكات النقل المحلّية والجهات المالكة والمشغّلة لهذه المشاريع.
وهنا يأتي السؤال عن العائق الأبرز، وهو مولّدات المازوت وإمكانية تشريعها. ينطوي الترتيب المطروح على الاستفادة منها، بحكم وجودها كأمر واقع، ليكون هو الحلّ المؤقت الذي تبحث عنه الدولة، علماً بأن الدولة شرعنت وجودها عبر تنظيم التسعير وتسطير المخالفات على التسعير من قبل وزارة الاقتصاد. ولكن، هل يقبل أصحاب المولّدات أنفسهم الانضواء إلى حلّ كهذا؟ وما هو المقابل لذلك؟ والأهم هو هل تقبل مافيا المازوت التي تقف خلف المولّدات بهذا الحل؟ الترتيب المقترح سيؤدي حكماً إلى تخفيض فاتورة استيراد المازوت لتشغيل المولدات. كذلك، لا يمكن لهذه المولّدات، على المدى البعيد، أن تبقى جزءاً من أيّ حلّ مستدام، وفي حال الاستمرار في صيغة اللامركزية ومع تحسّن إنتاج المعامل الدائمة يتمّ استبدالها بنظم تخزين الطاقة. في هذا السياق، يمكن الاستفادة من تجربة كهرباء زحلة، وصيغة التسوية التي حصلت في ما يخص عمل المولّدات، وهو طرح قد يلقى دعماً سياسياً كما تردّد عن رئيس مجلس النواب.
العامل الآخر هو مسألة التمويل، فكيف سيتمّ تمويل هذه المشاريع؟ على صعيد النظم الشمسية، يبرز نشاط الاتحاد الأوروبي في دعم مشاريع مماثلة في لبنان، عبر الهبات أو القروض الميسّرة، وقد تكون مرشّحة للاستمرار عبر مشاريع «سيدر». كذلك، قد تفتح مشاريع كهذه باباً للتعاون والاستثمار بين لبنان والصين، المصنّع الأول للألواح الشمسية في العالم. بدلاً من ذلك، يمكن تأمين التمويل محلياً عبر إنشاء تعاونيات للطاقة تسهم فيها صناديق بلدية أو اتحادات بلديات من جهة، ويسهم فيها الأهالي والمواطنون من جهة أخرى، لا سيما المتموّلون من أبناء الاغتراب، وهو ما قد يحتاج إلى تطوير قوانين ترعى عمل تعاونيات كهذه. ومن الممكن للقطاع المصرفي المحلّي أن يلعب دوراً داعماً لمبادرات أهلية من هذا النوع بعد إعادة هيكلته، ليضطلع بدور جديد يسهم في كسر الاحتكارات وتنمية الاقتصاد المحلّي وخلق فرص عمل جديدة.
قد لا يكون هذا الطرح هو الأمثل بالمطلق، إلّا أنّه جدير بالدراسة في الوضع الراهن، للاستفادة من القدرات الموجودة بحكم الأمر الواقع على مدى القصير، إلى حين الوصول إلى الحلول الدائمة واستقرار الوضع المالي والاقتصادي في البلد، ما سيشكل أرضية للتحوّل الطاقوي المستدام على المدى البعيد.

*باحث في دراسات الطاقة