في الوقت الذي تعاني فيه البشرية من خطر فيروس «كورونا» الذي ـــــ بحسب التهويل ـــــ يعيد التذكير بهول الطاعون الأسود الذي قضى على ثلث سكّان أوروبا في القرن الرابع عشر، طلع لبنانيون ليبراليّون يبشّرون الشعب اللبناني، والإنسانية جمعاء، بقرب التوصّل إلى علاج لهذا الفيروس من قِبل علماء إسرائيليّين. ومن شدّة إيمان هؤلاء بالعبقرية الإسرائيليّة، بلغ بهم الأمر أن بشّروا بقرب إنتاج العلاج (حدّدوا مدّة أسبوعيْن، مضت وولّت)، داعين إلى ضرورة وصوله إلى لبنان. وطرح هؤلاء، كالعادة، معضلة أخلاقية ـــــ سياسية: هل ننشد الترياق لو أتانا من دولة العدوّ الإسرائيلي، أم نموت في سبيل المقاطعة؟ طبعاً، لا من ترياق إسرائيلي ولا من يحزنون، لكنّ عقليّة هؤلاء تتمنّى لو أنّ إسرائيل تتوصّل إلى أدوية شافية لكل الأمراض المستعصية، كي يصبحوا مروّجين لها (الوكلاء الشرعيّين) في العالم العربي (ويجنون من خلال الترويج نصيباً ماليّاً على الأرجح). ولم يعوّل الإعلام العالمي ـــــ بما فيه الإعلام الصهيوني الأميركي ـــــ على خبر عارض مرّ عن أبحاث لاكتشاف علاج لـ«كورونا» في إسرائيل. إلا أنّ هؤلاء أرادوا فقط تحدّي فريق مقاطعة إسرائيل، بعدما تكالبت كل الأنظمة العربية لتشكيل جبهة متنوّعة (من الأصوليّين المتزمّتين إلى الليبراليّين، مروراً باليساريّين المنضوين في فريق النظام السعودي أو الإماراتي أو القطري في العالم العربي)، لصدّ ومحاربة مقاومات إسرائيل. وفي الوقت الذي تتنامى فيه حركة مقاطعة إسرائيل في الغرب، يتنامى في العالم العربي فريق ليبرالي يُنفق الساعات ومساحات الإنترنت، فقط للسخرية من مقاطعة إسرائيل وللتقليل من فعاليّتها. المفارقة، أنّ العدو نفسه يعترف بخطر المقاطعة، ويكرّس ملايين الدولارات لمحاربتها، بينما تضغط اللوبيات الإسرائيليّة حول العالم على حكومات الغرب لسنّ قوانين ضد المقاطعة، لكنّ ليبراليّي لبنان يصرّون على أنّ المقاطعة بلا جدوى ويعلنون عزمهم ـــــ من دون إعلان ذلك بالحرف ـــــ على التفرّغ للسخرية من حملة مقاطعة إسرائيل، لأنّ ذلك برأيهم قضيّة عادلة تستحق الجهد والوقت.
عمل للفنانة الألمانية أنغريت سولتو

هذه السمة في محاربة مقاطعة إسرائيل، هي من سمات اللوثة الليبرالية في الثقافة العربية. وهذه اللوثة لم تكن يوماً منفصلة عن حملات ومؤامرات الغرب في بلادنا: منذ الفوج الأوّل لليبراليّين العرب في القرن التاسع عشر، كانت الليبراليّة العربية مشروعاً لاستبدال الحكم العثماني بالاستعمار الغربي. ويروي في ذلك شكيب أرسلان، عن أن دول الغرب استغلّت تنامي النقمة ضد الحكم التركي، في أوائل القرن العشرين، كي تغزل للعرب وعوداً عن استقلال ناجز، وعن إرجاع أمجاد العرب القديمة. لكنّ هذا التطلّع نحو الغرب (الذي يعدّه ألبرت حوراني دليلاً على النهضة العربية) لم يكن سارياً بين الناس، بل كان شعور النخبة الطبقية في المدن (هل شهد اندحار الإمبراطورية العثمانية تظاهرة واحدة للاحتفال بسقوط الحكم التركي؟ حتى في لبنان، حيث أنتجت النخبة هناك ـــــ الفينيقية والعروبية على حد سواء ــــــ سردية خيالية عن مقاومة لبنانية ضد نير العثمانيّين، لم تكن هناك أي بادرة ابتهاج بنهاية الحكم التركي).
ولم يكن الفكر الليبرالي في أطواره المختلفة، منفصلاً عن مصالح طغاة محليّين أو مستعمرين غربيّين: كان الفكر الليبرالي، في عصر الحرب العربية الباردة في زمن عبد الناصر، مرعيّاً مباشرة من النظام السعودي والكويتي (والأردني والخليجي بشكل عام)، لأنّ ذلك كان عنوان معاداة عبد الناصر وعنوان معاداة الشيوعية. والطرف العربي في هذه الحرب العربية الباردة الذي كان يقف في صف أميركا، كان يستعير من مصطلحات الدعاية السياسية الأميركية الرسمية، فأصبح شعار هؤلاء الطغاة المتخلّفين (حتى عن ركب الحضارة الغربية التي كانوا من أدواتها) الحرية مقابل طغيان جمال عبد الناصر المزعوم. ظنّ هؤلاء أن أنظمتهم الاستبدادية الرجعية يمكن أن تعطي دروساً لنظام عبد الناصر الحداثي، فقط لأنّهم ساروا ويسيرون في ركب الاستعمار الغربي. وحتى الساعة، تجد في إعلام الأنظمة الخليجية تعريضاً بنظام عبد الناصر (الذي قضى قبل نصف قرن من الزمن)، لأنّ ذلك يُنعش خطابهم المُنتقم من زعيم أذلَّهم (قبل هزيمة ١٩٦٧).
آثار الليبراليّة العربية بادية، اليوم، في عصر الانتفاضات العربية: عكست هذه الانتفاضات نفوذ وأثر الفكر الليبرالي العربي في الثقافة السياسية العربية. لكنّ الليبرالية العربية التي يريدها الغرب، هي غير تلك الموجودة في دول الغرب. خذوا وخذن حرية التعبير مثلاً: يفرض الغرب ضوابط وقيوداً على حرية التعبير في كل ما يتعلّق بـ«العدو» (بتعريفه)، كما أنه يفرض ضوابط وقيوداً على كل ما يتعلّق بمقدّساته الإيمانية أو السياسية. وقد تطوّرت قوانين حرية التعبير في الغرب، إلى درجةٍ تتيح التجديف والذم بالدين والله والأنبياء (لكنّ القوانين تختلف بين دولة غربية وأخرى)، لكنّ المقدّسات السياسية باتت أقدس ممّا كانت عليه. تمنع كندا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول، إنكار المحرقة النازيّة ومعاداة السامية، مثلاً. هذه القوانين سياسية الهدف، وتتعلّق بمراعاة دولة إسرائيل، وليس بالإنسانية. لكنّ حكومات الغرب ترفض، مثلاً، حظر حرية التعبير عن المجاهرين بالصهيونية في بلادنا (مع أنّهم أعداؤنا الرسميّون، كأن إيران والقاعدة وروسيا أعداؤهم)، أو عن عملاء العدو الإسرائيلي الذين سرعان ما يصبحون سجناء رأي، في العرف الغربي. إنّ معاقبة مؤيّدي إسرائيل بين العرب، مسألة تثير حفيظة الليبراليّين والمحافظين الغربيّين، على حد سواء. كان كاتب السيناريو علي سالم (الذي اشتهر بسبب مسرحية مقتبسة)، يجد الترحاب في ندوات اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، لأنّه كان مِن أوائل مَن خرق مقاطعة إسرائيل بين المصريّين، وقد تُرجم كتابه الذي يروي عن رحلته إلى إسرائيل، إلى لغات أجنبيّة (والكتاب يعترف بالإذلال والعنصريّة، التي لاقاها الكاتب في الدولة اليهودية، لكنّها لم تزعجه، كما أنّ تصريحات مناحيم بيغن التي كانت تسخر من العرب وحقوقهم، لم تكن تزعج أنور السادات). لو أنّ أميركياً جال في إيران بسيّارته، وكتب في حب النظام الإيراني، لَما كان سيُستقبل استقبال الأبطال هنا. وهناك قوانين ضد التعامل مع العدو، لكنّ الغرب يريد من العرب إلغاء تجريم التعامل مع العدوّ (ضغطت واشنطن على حركة «النهضة» لمنع تجريم التعامل مع إسرائيل في تونس، بعد الانتفاضة، ووافقت «النهضة» على ذلك مقابل دعم أميركي). أي أنّ الليبراليّة الغربية تريد أن تكون الليبراليّة العربية نسق خاص، يسمح بالتعبير متى كان في صالح إسرائيل ودول الغرب، ويمنعه متى كان في صالح مقاومة إسرائيل (كل دول الخليج والأنظمة المطيعة لأميركا تحظر الدعوات إلى مقاومة عسكرية لإسرائيل). أميركا وإسرائيل ترصدان وسائل الإعلام العربية، وتحضّان الحكومات على منع حرية التعبير، متى كانت ضارّة بمصالح إسرائيل وأميركا. كذلك، توافق الحكومة الأميركية إسرائيل على أنّ «مسيرة السلام» يجب أن تتضّمن الحدّ من حريّة التعبير عند الشعب الفلسطيني، من أجل منع أصوات المطالَبة بتحرير فلسطين ومقاومة إسرائيل.
عند الليبراليّة العربية، اليهود وحدهم الذين يستحقّون الحنين إلى زمنهم، فيما لا يتورّع هؤلاء الليبراليّون عن دعم تنظيمات دينيّة تؤمن بتكفير وقتل الشيعة والمسيحيّين والعلويّين والدروز


إذا كانت الليبراليّة العربية حركةٌ إعلاميّة أدبية، تنشر في معاداة الشيوعية والاشتراكية والقوميّة العربية (خصوصاً في العهد الناصري)، فإنها تحوّلت إلى حركة مختلفة بعد حرب الخليج، في عام ١٩٩١. أرادت أنظمة الخليج، من وراء تلك الحركة (وهي أداة، أي أنها ليست نابعة عن إرادة شعبية، ولا تزدهر إلا في إعلام الدول الخالية من الانتخابات والتمثيل السياسي)، محاربة الفكر القومي الوحدوي، فتفرّغت أصوات الليبراليّة إلى الترويج للفكر القطري، وحتى القبلي (في زمن إنعاش القبيلة والعشيرة، بعد الاجتياح الأميركي للعراق في عام ٢٠٠٣). وفجأة، راجَ المديح بالعشائر العربية، وصرتَ تقرأ أخبارها في الصحف بعدما كانت قد بادت في عصر التحرّر العربي. وقد قضت الثورة العراقيّة، في عام ١٩٥٨، على السيطرة القبليّة في التمثيل السياسي، والتي كانت من فعل الاستعمار. وفي زمن الحرب العربيّة الباردة، كانت الليبراليّة العربية تتراوح بين الدعوة الإسلامية، وبين الدعوة العربية، إلى أن تكون بقيادة أنظمة الخليج. لكنّ الهويّات تغيّرت، وصلابة الأنظمة ترسّخت، والحاجة إلى التجاوب لعواطف وأهواء الجماهير قلّت. وأصبحت ثقة أنظمة الخليج بنفسها قويّة، إلى درجة أنّها باتت تقولب وتصنّع الرأي العام، ونجحت في ذلك كما نجح أنور السادات في القضاء على الهويّة العربية في مصر، والدفع باتجاه قومية مصرية فرعونيّة ذات نزعات عنصريّة.
والليبراليّة العربية تتشبّع من فكر الـ«إن.جي.أوز»، الذي يضخّ في الثقافة العربية مفاهيم معيّنة. النسويّة مسموح بها، على أن تكون نسويّة استعمارية، أي تلك التي تذمّ بالثقافة العربية والدين الإسلامي، والتي تعظّم من دور الخصائص الثقافية في قمع المرأة وتنقص من الخصائص العالميّة الذكوريّة. والنسويّة الاستعماريّة تتحدّث عن التعنيف وعن قتل المرأة، لكن من دون إيجاد حلول أو اقتراح سنّ قوانين جديدة محدّدة، كأنّ المسألة لا تُحلّ إلا بتخلّص العرب من الثقافة العربية والدين الإسلامي. الدعوات إلى وضع قمع المرأة في سياق القمع العالمي للمرأة (ليس للتخفيف من وطأته، بل على العكس لمحاربته عبر فهمه تاريخيّاً واجتماعيّاً، وهذا بديهي في النسويّة الراديكاليّة والنسويّة ما بعد الحداثويّة) تُقابَل بالاستهجان وبالاعتراض الصبياني، أنّ هذا الفهم من شأنه التخفيف من معاناة المرأة، أو التقليل من حجم المشكلة.
وفي الاستنسابيّة النسويّة، يتسرّب الغرب في معايير موضوع ما يُسمّى بالأقليّات (طبعاً، يجب أن نصل إلى مرحلة تتنافى فيها حظوة الأكثريّة ـــــ على أنواعها ـــــ وذلك في وضع المساواة بين الناس). تجعل معايير الغرب من الأقليّة اليهودية ذات سحر خاص، فيما الأقليّات الأخرى لا أهميّة لها. وعند الليبراليّة العربية، اليهود وحدهم هم الذين يستحقّون الحنين إلى زمنهم، فيما لا يتورّع هؤلاء الليبراليّون عن دعم حركات وتنظيمات دينيّة تؤمن بتكفير وقتل الشيعة والمسيحيّين والعلويّين والدروز. وقد بات التاريخ الصهيوني لوضع اليهود، هو السائد: فتقرأ أن اليهود «طُردوا» من العالم العربي برمّته (وهذه سرديّة صهيونيّة تهدف إلى مساواة «طرد» اليهود العرب مع طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، من أجل نفي حق العودة عن شعب فلسطين). لكنّ وضع اليهود في الدول العربية، اختلف بين دولة وأخرى، وليس صحيحاً أنّهم طُردوا من كل الدول العربية. هناك دول لم يخرج اليهود منها، إلا بضغط إسرائيلي ـــــ أميركي: الإدارة الأميركيّة هي التي كانت تضغط على حكومات سوريا واليمن لإخراج اليهود منها، كما أنّ حكومة العدو مسؤولة (كما في تهجير يهود العراق) عن خروج اليهود من الدول العربية. وتجنيد اليهود العرب من قبل «الموساد» (وبعد سنوات قليلة فقط من إنشاء دولة الاحتلال، كما في حالة خلايا الإرهاب الإسرائيلية في مصر في فضيحة «لافون» في الخمسينيّات)، هو الذي وضع اليهود في موضع الشك، وزاد من ضغط الحكومات عليهم. هذا لا ينفي أنّ حالة من العداء تنامت في أوساط الشعب العربي ضد اليهود المحليّين (كما في تونس أو لبنان أو سوريا)، وقد ساهمت إسرائيل في ذلك، عبر تنصيب نفسها كدولة لكل اليهود ـــــ المقيمين فيها وغير المقيمين.
ويدرج في أدب الرواية العربية الاستنجاد بالحنين لليهود العرب، لأنّ ذلك من شأنه ضمان ترجمة العمل إلى اللغات الأجنبية. كذلك، يُكثر الإعلام العربي من تناول موضوع اليهود العرب، لكن وفق السرديّة الصهيونية. لكن، كان هناك فلسطينيون ومسلمون في بيروت الشرقية، وعاشوا فيها لعقود طويلة: وليس هناك في كتابات الليبراليّة العربية (في لبنان أو خارجه)، أي تناول لهم، بل إنّ النسيان طمس تاريخهم بالكامل. ليست هناك روايات عن حي النبعة، أو تل الزعتر، لأنّ الليبراليّة العربية متصالحة مع الانعزاليّة اللبنانية، إذ إنّ للطرفيْن راعٍ واحد في الرياض. ولماذا ليس هناك حنين إلى الجالية الفلسطينية في الكويت، والتي تعرّضت للقمع والتهجير بعد اجتياح العراق في عام ١٩٩٠؟ تعرّضت أملاك وثروات هؤلاء للسرقة من قبل شركاء محليّين. وكانت الجالية الفلسطينية عنصراً أساسيّاً في بناء الكويت الحديث، وفي إصدار إعلام الكويت. والليبراليّة المصرية مسموح لها أن تتذكّر تاريخ اليهود في مصر، لكن ليس تاريخ الشيعة العريق فيها، لأنّ ذلك يتعارض مع غرض الليبراليّة في استغلال الحساسية الاستنسابية في صالح مشروع التصالح بين العرب وإسرائيل.
ليست الليبراليّة العربية مشروعاً شعبياً. إنها مشروع نخبوي مفروض من فوق (كما كان إبان الحرب العالمية الأولى في بلادنا وتحت شعارات التحرّر العربي). يتسرّب الغرب إلى دولنا وثقافتنا، عبر مجالات متنوّعة لا تخترقها جحافل الجيوش، أو أن جحافل الجيوش تحتاج إلى ثقافة محليّة مُساندة. والمشروع الديموقراطي العربي هو مشروع استنسابي ليبرالي عربي، ينطلق من غرض الغرب في فرض استعماره. تريد الليبراليّة العربية انتخابات في سوريا وإيران فقط، لكنّها لا تريدها في الرياض أو الدوحة أو أبو ظبي أو الرباط. أي أنّها تريدها شعاراً يحرج أعداء أميركا. والأنظمة التي أنشأتها أميركا في العراق وأفغانستان، تتعارض مع أبسط مفاهيم الليبراليّة النظريّة، لكنّها لا تتعارض مع ليبراليّة حروب الاستعمار الغربي. والنظام العراقي الطائفي كان مقصوداً في ترسيخه للهوية الطائفيّة التي كانت شبه غائبة عن العراق، لأنّ زرعها يقوّض المشروع والهويّة الوطنيّة في العراق. والذين تظاهروا تحت شعارات «بدنا وطن» في الانتفاضة العراقيّة الأخيرة، نسيوا أنّ الحكومة الأميركيّة هي المسؤولة الأولى عن ضياع وطنهم، لكن يبدو أن حرق القنصليّة الإيرانيّة في النجف كان أسهل لهم في مشروع بناء الوطن الذي يبحثون عنه. وهذا الأسبوع أدّى رئيسان ـــــ لا رئيس واحد ــــــ يمين القسم الرئاسي في كابول، لأنّ الانتخابات (التي لم تكن إلا مزوّرة في ظل الاحتلال الأميركي) لم تفضِ إلى نتيجة مقنعة أو لم تكسب نتائجها مشروعية، ربما لأنّ الاحتلال هو ناخب أساسي فيها. يصمت الذين روّجوا لاحتلال أفغانستان عن نظام برأسيْن.
الليبراليّة العربيّة سلميّة باتجاه واحد: هي مع السلم بالمطلق ضد إسرائيل، وتعتنق الخطاب الصهيوني في وصف العمل الفدائي بـ«الإرهاب» (قد يكون اللبناني ــــــ اليساري السابق ــــــ وضّاح شرارة، السبّاق في وصف جورج حبش بـ«الإرهابي» في جريدة «الحياة» اللندنيّة في التسعينيّات. وشرارة كان سابقاً من «مؤسّسي منظمّة العمل الشيوعي»، قبل أن ينتقل إلى محاولات تنظيميّة أخرى لم تعمّر. واختيار «الحياة» لإطلاق وصف الإرهاب على مقاومة إسرائيل ليس عشوائيّاً: المشروع الليبرالي الخليجي كان ينطق في جريدة «الحياة» في زمن الحرب العربية الباردة في الستينيّات، وهو عاد وجدّد اختياره لـ«الحياة» في التسعينيّات، عندما استأجر خالد بن سلطان الجريدة من مالكها اللبناني، وذلك لغرض مساندة الحرب الأميركية في العراق. وجريدة «الشرق الأوسط» كانت هي، أيضاً، منبراً لليبراليّين التطبيعيّين العرب وصهاينة الغرب). الليبراليّة العربية مع حروب الغرب وإسرائيل ضد العرب، وضدّ حروب العرب ضد الاحتلال الإسرائيلي والأميركي. الليبراليّة العربية سلميّة في ما يتعلّق بإسرائيل والدول المطيعة لأميركا، ومع حرب ضروس ضد كلّ أعداء أميركا وإسرائيل. بين المقاومة والاحتلال، هي حتماً مع الاحتلال، وبين الطغيان والديموقراطية هي حتماً مع الطغيان. هي ليبراليّة فقط في معنى استغلالها لشعارات ليبراليّة، تخدم أغراض استبداد أنظمة الخليج ونشر الاحتلال الإسرائيلي والغربي.
والليبراليّة العربية ليست مشروعاً محليّاً: هي مشروع متنافر في تكوينه، إذ أنه يفتقر إلى قاعدة محليّة شعبيّة، فيعوّض له الغرب عن ذلك بتمويل سخي. هل يعقل، مثلاً، أنّ كل هذه المواقع الإخباريّة والسياسيّة العربيّة على الإنترنت تنطق بالخط الليبرالي نفسه؟ لو أنّ بعضها انتهج سياسة معادية للغرب، هل يستمرّ التمويل؟ ومؤسّسة جورج سورس (والتي تعرّضت لتشنيع معادٍ للسامية في بعض دول أوروبا الشرقية، بحكم دورها في تفريخ منظمات غير حكومية، وهناك مبالغة في دورها من قبل معادي اليهود)، تلعب دوراً متنامياً في الإعلام العربي. والمؤسّسة التي وُجدت لإعانة الاستعمار الأميركي في الحرب الباردة ومحاربة الشيوعيّة (كان هذا الغرض الأساسي التكويني لمؤسّسة سورس) هي اليوم تخدم غرض الغرب في تجذير استعماره ونشر سيطرته، ومحاربة فكر المقاومة في العالم العربي. لم تتأخر مؤسسة سورس عن تمويل مواقع لبنانيّة تنطق باسم «ثورة» لبنان الراحلة. وهذه المواقع، كالعادة، لا شغلَ لها إلا تقويض فكر وممارسة المقاومة وتفنيد خُطب حسن نصر الله. لكن بين غرض سورس وشركاه في حكومات الغرب، وبين المشاعر والطموحات العربيّة هوّة لم تُردم. أميركا ودول الغرب يفرضون مقاطعات ضد أعدائهم، ويفرضون حصارات خانقة وتجويعاً، لكنّ مقاطعة سلمية لدولة الاحتلال الإسرائيلي تخدش مشاعر ليبراليّتهم التي يروّجون لها. ليبراليّتهم هي مشاركة منظّمة صهيونيّة أميركيّة في رعاية أفسد برنامج حوار سياسي لمارسيل غانم على شاشة «إم.تي.في»، والمنظمّة تدرّب الحضور على أصول المناظرة وآداب الحوار، مع أنّ البرنامج من أكثر البرامج ضجيجاً وصراخاً ومقاطعةً. لكنّ الغرض هو المضمون السياسي الفاسد.
وصلت الليبراليّة العربية إلى طريق مسدود، لأنّ وجودها (مثل الليبراليّة في مصر) مرتبطة عضويّاً بالاستبداد العربي المرعي من قبل دول الغرب. أي أنّ توق العرب للحرية يتعارض مع الحركة السياسية، التي تتشدّق بشعارات الحريّة. والحرية الحقيقية ستطيح بالحركة التي نطقت زوراً باسمها على مدى عقود. عندها فقط، تصبح الحرية حريّتيْن: حرية في داخل البلد العربي تحميه من الاستبداد، وحرية تحميه من السيطرة والاحتلال الإسرائيلي والغربي.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)