كأنّ لبنان، بأزماته السياسيّة والاقتصادية، لم ينقصه سوى فيروس يتحدّى نظامه الصحّي، ويجرّب خططه في حالات الطوارئ، والقرارات التي يمكن أن تتخذها الدولة حيال أي حدث غير متوقّع. كأنّ الظروف الأخيرة التي عصفت بالبلاد لم تكن كافية لإدراك حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق الجميع، إن لناحية وقف الانهيار الاقتصادي وهدر المال العام والمترتّبات الناجمة عن ذلك، أم لناحية الإجراءات الوقائية الصحيّة المتوجّبة على شعوب طاولها فيروس كورونا المستجد. في لبنان، كما في بلدان أخرى، هنالك من يعرّض حياته للخطر يوميّاً وتطوّعاً، منذ أسابيع، ومن يترك أسرته من الصباح حتى المساء، ثمّ يعود ليجحر نفسه بعيداً عن أطفاله. هناك من يعاني من مرض مزمن فقرّر المكوث في منزله بدلاً من الذهاب إلى المعالجة، خوفاً من فيروس أقسى يفتك به. هناك من خسر ــ ربما ــ فصله أو عامه الدراسيّ، وشُلّت حركته التعليميّة. هنالك من أقام العزاء لعزيز وحيداً، من دون استقبال المعزّين. هنالك من توقّفت أعماله، وطاول ذلك لقمة عيشه خوفاً من طلقة جهل قد تصيبه من لا مبالٍ هنا أو هناك، والكثير غيرها من التضحيات والتداعيات على الأفراد ومستقبلهم، ثم يأتي أحدهم مستخفّاً، وعن قصد، ليهدم كل شيء. المسألة لا تحتمل التأويل، الكل يعلم بالتوصيات. ومن أهملها، قام بذلك عن سابق إصرار وتصميم.
لقد نجح الشعب اللبناني، فعلاً، في تحطيم الرقم القياسي بالنكات والسخرية حول الفيروس الأخير، لكنّه فشل، من دون شك، في تحمّل مسؤولياته الوطنية والأخلاقية والإنسانية. صحيح أنّ للدولة «حصّة الملك» في هذه الأزمة، لكنّ الشعب، في مثل هذه الحال، وفي غياب نظام صحّي مؤهّل، يلعب الدور الرئيسي في رفع خطر انتشار الفيروس، سواء سُجّل لأول مرة عبر مسافرين قادمين من إيران، أو من غيرها من البلدان المفتوحة لها الأبواب برّاً وجوّاً. كان من المتوقع أن تقع هذه الواقعة من «مصادر مجهولة»، وهذا ما أعلنت عنه وزارة الصحّة لحالات مصابة سُجّلت في اليومين الماضيين، ما يضعنا تحت المسؤولية القصوى. وفي مثل هذه المرحلة، مرحلة الخروج عن السيطرة، ومع مثل هذا النوع من الفيروسات السريعة العدوى، لا يمكن تحميل العبء لجهة واحدة، فالمسؤولية تقع، جنباً إلى جنب، على عاتق السكان كما الدولة في التزام التعاميم الصادرة عن وزارة الصحّة وعن منظمة الصحّة العالمية، وغيرها من الجهات المعنية. في إيطاليا على سبيل المثال لا الحصر، يقبع سكان البلاد تحت الحجر الصحّي. فيها، بدأت الإصابات بفيروس كورونا بحالات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ثم أودى التعاطي مع الأزمة إلى تزايد الأعداد في أيام قليلة، من عشرات إلى ملايين.
هل المطلوب في بلد لا يتمتع بأدنى المقوّمات الطبية اللازمة تسجيل مئات الوفيات لنستفيق من هول المرحلة؟


لكن، الأشدّ فتكاً من الفيروس نفسه، هي المشاهد الموثّقة التي انتشرت نهاية الأسبوع للعائلات في الأماكن العامّة في لبنان. الصدمة كانت كفيلة بالتفكير، للحظة، أنه ربما أخطأ وزير التربية والتعليم العالي في قراره بالتعطيل، الذي استُغلّ من قبل البعض لقضاء «عطلة عيد كورونا»، فذهب للتنزّه وعقد التجمعات من دون خجل أو خوف. كأنّ المزاح وحده لم يكن كافياً لإشباع لذّة الاستخفاف لدى هؤلاء. ربما كان الأفضل، يوم أمس، الحجر على هؤلاء في أماكنهم، وسجنهم لأسبوعين بل أكثر، كخطر محتمل، بجرم ارتكاب جريمة بحق الوطن، وبحق أنفسهم وذويهم وكل من له صلة بهم. هذا التشابك الاجتماعي، الذي لا يعرف منطقة أو عمراً أو طائفة، يضع الجميع تحت سقف خطر واحد، ينال من الحريص والمهمل من دون تفرقة، لأنّ خطر الجهل يبدو أسوأ بكثير ممّا يظنه البعض.
لقد بلغ عدد الحالات المصابة في لبنان، حتى الآن، أكثر من خمسين حالة مثبّتة، لكنها، منطقيّاً، ليست الوحيدة، وقد يكون هذا الرقم أضعاف ما هو عليه. ألم يحن القرار بعد، لأن تتخذ الوزارات المعنيّة والمؤسسات الصحيّة والتربوية والإعلاميّة القرار برفع أعلى درجات الاستنفار؟ ليس لدخولنا مرحلة الخطر اليوم، فقد دخلناها منذ الإصابة الأولى، لكن لضرورة تدارك التداعيات التي تتسارع وتيرتها في كل لحظة. هي الآن مناشدة:
- لوزارتي العمل والداخلية لإصدار قرار بوقف الأعمال وإقفال المنتجعات والمنتزهات والأماكن العامة التي تتشكّل فيها التجمّعات، تماشياً مع عطلة الطلّاب لحين تجلّي الرؤية حول المرحلة المقبلة
- للنواب والجهات المعنية لاقتراح وتشريع قانون يجرّم انتهاك «عزل النفس» أسوة بروسيا
- للمؤسسات الصحيّة لنشر التوجيهات الوقائية اللازمة
- للمؤسسات التربويّة لضخّ المواد التوعوية المناسبة
- للبلديات لمنع الأنشطة التفاعلية والتجمعات المناطقية
- للمؤثّرين في الرأي العام لاتخاذ دورهم في تخصيص منابرهم للتوجيه ورفع الصوت
- للجمعيات والمجتمع الأهلي، لرجال الدين ومنابرهم، لكل فرد، أن يكون مسؤولاً أمام نفسه والآخرين
بات تكاتف هذه الجهات جميعاً، ضروريّاً لرفع الوعي إلى حين لجم خطر الانتشار، ولا سيما لإمكانية استمرار الفيروس في الانتقال، بحسب التقارير الأخيرة، حتى في فصل الصيف، ولعدم توفّر لقاح أو علاج حتى هذه اللحظة.
رغم هذه الكارثة التي يرتكبها بعض المسؤولين وجزء من الشعب، إلا أنه هو الأخير، لا ينسى رمي التهم على أي جهة يجدها أمامه، ليوفر على نفسه الالتزام بواجباته. لأنّ ذلك بالنسبة إليه، الخيار الأسهل والأقل جهداً. إن لم تكن هذه القرارات ضرورية، الآن، حرصاً على المستخفّين بصحّتهم أولاً، وبصحّة من حولهم ثانياً، فلتكن رأفة بالعُجّز الضِّعاف، وبالأطفال، وبالمرضى الذين يعيشون على آخر رمق مناعة لديهم. هل تخيّل أحد «المتنزّهين»، مثلاً، لو أنّ عزيزاً له فقد أنفاسه الأخيرة باحثاً عن سرير مستشفى يُؤويه؟ ماذا لو لم تكن هناك أسرّة شاغرة؟ ماذا لو انتقلنا من مرحلة الانتشار إلى مرحلة الوباء، وفاق عدد الحالات المصابة القدرة الاستيعابية للمستشفيات؟ هل يمكن لأحد أن يتصوّر النتائج والمشهد الذي ستكون فيه البلاد؟ هل المطلوب، في بلد لا يتمتع بأدنى المقوّمات الطبية اللازمة، تسجيل مئات الوفيات لنستفيق من هول المرحلة؟ للاستيقاظ قبل فوات الآوان.

*كاتبة لبنانية