لم تتصالح الولايات المتحدة بعد مع تاريخها العنصري الطويل (وأبشع التاريخ لم يُكتب بعد _ ذهاباً مع قول سعيد عقل: أجمل التاريخ كان غداً). هي دولة ليست كباقي الدول: ألمانيا لا تزال تعتذر بصورة شبه يوميّة عن التجربة النازيّة المُدمّرة وهي منعت إعادة إنتاج الحزب النازي بأي شكل، وهي (ظلماً) أغدقت مليارات الدولارات على دولة الكيان الغاصب للتكفير عن ذنوبها. الدولة الفرنسيّة والدولة البريطانيّة حاولتا (بصلف استعماري تقليدي) التعامل مع إرث استعماري لم تنته فصوله بعد من دمار وتقسيم وحروب وعنصريّات متنوّعة، بالإضافة إلى تدخّلات عسكريّة مستمرّة في أفريقيا خصوصاً.
أميركا دولة مختلفة تماماً. قال عنها ألكسي دو توكفيل (المفكّر الفرنسي المُحافظ الذي _ مثله مثل الآباء المؤسّسين في أميركا _ حذّر من شطط الديموقراطيّة، وهو المُعجب بالتجربة الأميركيّة وتقوم الحكومة الأميركيّة بتمويل ترجمات كتابه الضخم «الديموقراطيّة في أميركا» إلى كل لغات العالم، بما فيها العربيّة) إنّها معتدّة بنفسها بصورة لم يعهدها. وقال عن شعبها إنهم يريدون من كل زائر أن يثني على بلادهم، ولو أحجم قاموا هم بمهمة الثناء المفرط. أميركا ليست تلك الدولة التي تراجع أخطاءها أو تُخضع تاريخها للتمحيص والنقد والمراجعة. هي في ذلك مثلها مثل دولة الكيان الغاصب. قد يكون غرور الهويّة والنسق القومي نتاجاً للعنف المدمّر الذي تولّدت الدولة من رحمه. يرفض الرجل الأميركي الأبيض أن تقوم الحكومة بالاعتذار بالنيابة عنه على آثام وخطايا التاريخ الأميركي.
إن تجربة أميركا مع العرق الأسود تجربة مرّة، والمرارة لا تزال تسود في أوساط السود، وإن تذمّر البيض من استمرارها. لا يريد البيض (وهنا تعميم عن ملايين من الناس وهناك استثناءات في صفوفهم طبعاً، لكن الحديث هنا عن النخب السياسيّة والثقافيّة وعن سواد الناس وفق استطلاعات رأي منشورة) مراجعة التاريخ ويسأمون من الإشارات إلى تاريخ يرونه سحيقاً، مع أنه حدث من قرن أو قرنين أو ثلاثة (ومن عقود لو تحدّثنا عن نضال الحقوق المدنيّة في الستينيات الذي أرسى دعائم المساواة القانونيّة للمرّة الأولى في تاريخ البلاد). ما عليك إلا زيارة المستوطنات التي عُزل فيها السكّان الأصليّون في أميركا. يعيشون في فقر مدقع وفي ظروف تنعدم فيها الظروف الصحيّة ويسود فيها الإدمان على الكحول والاكتئاب (وسمحت الحكومة في السنوات الماضية بترخيص نوادي القمار فيها، ما يعود بالنفع على متموّلين بيض). مرّة في ولاية كولورادو، صعدت في سيّارة أجرة. سألني السائق عن مهنتي فأجبت. حدّثني عن السّكان الأصليّين وهو منهم. لم يفهم معنى اختصاص «العلوم السياسيّة» فشرحته له. صمت لدقائق، ثم سألني بجديّة صارمة: وهل تحدّث تلاميذك عمّا فعله الرجل الأبيض بنا؟ ذهلني بسؤاله وبقي معي على مرّ السنين. وعندما أتحدّث بنوع من الإجمال عن «الرجل الأبيض» يلومني البعض على تصنيف يرونه عنصريّاً، لكن «الرجل الأبيض» هو مفهوم سياسي وثقافي واجتماعي، وليس وصفاً لرجل مارّ في الشارع. الرجل الأبيض هو إشارة إلى نظام تراتبي من العلاقات الهرميّة القائمة على عنصر العرق والطبقة والإثنيّة.
السود في أميركا مرّوا ويمرّون بمعاناة لا تجد وصفاً لها في الكتابة العربيّة عن أميركا. لم تقم المنظمات العربيّة والإسلاميّة علاقات مع المنظمات السود. العلاقة بين السود في شيكاغو مثلاً وبين العرب ليست سويّة: يشوبها توتّر محكوم باستغلاق اقتصادي يشكو منه السود. والعربي يأتي بمتاع ثقيل من إرث عنصري ضد السود. لا، لسنا نحن في وارد وعظ الرجل الأبيض عن العنصريّة ضد السود، والعرب ساهموا تاريخياً في الإتجار بالعبيد (كتب المؤرّخ الصهيوني، «أفرايم كارش» كتاباً عن «الإمبرياليّة الإسلاميّة» ليدلّل على أوجه الشبه بين التاريخ الإسلامي والتاريخ الغربي الاستعماري). كيف نعظ ونحن نعيش في بلاد لم يُمنع فيها الرق إلا في الستينيات (في السعوديّة) وفي الثمانينيات (في موريتانيا). يتلذّذ عنصريّو الصهاينة هنا، من أمثال برنارد لويس وغيرهم، في نبش العنصريّة ضد السود في تراثنا (تحضر دائماً عندهم أبيات المتنبّي عن كافور الأخشيدي وكأنّ المتنبّي لم يكتب أبياتاً غيرها، وكأنه لم يكتب في مدح كافور).
اللافت أن الزوّار العرب إلى أميركا في كتاباتهم على مرّ السنوات عن أميركا قلّما يلتفتون إلى وضع السود في البلاد. هناك من يتجاهلهم كلياً. كيف ولا والعربي الذي خضع لاستعمار بريطانيا وفرنسا يخال أنه هو نتيجة خضوعه لاستعمار الرجل الأبيض أصبح رجلاً أبيض مثله. عبثاً تقنع لبنانياً مثلاً أننا لسنا بِيضاً، بل نحن ملوّنون أيضاً، في بقعة تتقاطع فيها آسيا وأفريقيا. نحن بيض بمقدار ما أن البقدونس هي فاكهة. لكن تنظيمات العرب، أو «السوريّين» في ذلك القرن، ناضلت بشتّى الوسائل كي لا يُعتبر المهاجر السوري من العرق الأسود أو حتى الأصفر. واعترض أمين الريحاني بشدّة على تصنيف العرب من العرق الأصفر. وكان للعرب ما أرادوا، فأدرجتهم دائرة الإحصاء الأميركي مع البيض (القوقازيّين حسب التصنيفات هنا). ومن الطريف أنّه بعد إدخال برامج المساعدة الاجتماعيّة للأقليّات في السبعينيات، حاول المهاجرون العرب الاستفادة منها وطالبوا بتغيير تصنيفهم السابق.
قد يكون سيّد قطب في كتاباته من أميركا أوّل عربي يكتب بمرارة عن وضع السود وعن العنصريّة ضدّهم (مع أن باقي كتابات قطب من أميركا مضحكة بعض الشيء، إذ إنه يزعم أن الأميركيات كنّ يرمين أنفسهنّ عليه _ كما يُقال بالإنكليزيّة _ بمجرّد أن ركب الباخرة. سيّد قطب شعر بمعاناة السود في تجواله في عدد من الولايات في أميركا وتألّم من العنصريّة التي على الأرجح طالته هو.
إن أوّل تطرّق عربي لمعاناة السود نجده في أوّل كتاب صدر عن عربي في أميركا، لميخائيل أسعد رستم (الشويري على ما جاء في تعريف الغلاف) بعنوان «كتابُ الغريب في الغرب» والذي صدر عن المطبعة الشرقيّة في نيويورك سنة 1895 (وأعيد طبعه حديثاً عن دار الحمراء في بيروت). كالعديد من المهاجرين العرب الأوائل الذين أرادوا التماهي (بالقوّة) مع الرجل الأبيض عبر اعتناق عقيدة العنصريّة ضد السود، جهد رستم في كتابه، نثراً وشعراً، لضخّ عنصريّة حاقدة ضد السود في أميركا، إذ قال فيهم: «وامتاز زنجي بيباس الرأس، كأنه خوذة من نحاس، كأنه من غير بنية البشر، مع أنه بذي الولايات انتشر، باقٍ على فظاظة الأخلاق، وزاد بعد العتق والإطلاق، يعيش بالإسراف والتراخي، وكثرة الأقذار والأوساخ» (ص. 35).
أنيس منصور في كتابه «حول العالم في 200 يوم» (والذي صدر في أوّل طبعة في عام 1963) كتب عن زنوج واشنطن ما يأتي: «معظم سكان واشنطن من الزنوج... إنهم أكثر من 80% من السكان (في مكان آخر من الكتاب يقول منصور إنهم نصف سكان واشنطن، لكن ما علينا) فواشنطن العاصمة يحكمها رئيس الجمهوريّة شخصيّاً... ولا يوجد فيها أي تفرقة عنصريّة. وتوجد هنا حماية الدستور... وكلهم يرتدون بلاطي أحسن وأفخم من البالطو المناسب لي... (ص. 616 _ والكتاب، على ما يُقال، هو من أكثر الكتب العربيّة مبيعاً لعقود، مع أنه يحتوي على أكاذيب وخزعبلات عن الحياة في أميركا، على الأقل، بالإضافة إلى عنصريّة وذكوريّة من هذا الكاتب الأقرب إلى أنور السادات).
يتناول فيلم «عبداً، لاثنتي عشرة سنة» التجربة الحقيقيّة لحرّ أسود تعرّض لاستعباد بعد خطفه، واسمه سولومون نورثب. وقد نشر كتابه عام 1853 بمساعدة رجل أبيض. وتعرّض للخطف في مدينة واشنطن العاصمة في عام 1841، وتم نقله إلى مزرعة رقّ في ولاية لويزيانا. ويصف الفيلم الذل والمهانة والتعذيب الذي خضع له لسنوات، قبل أن ينال تحريره في ما بعد. ونحن لا نعلم شيئاً عن سنوات الرجل الأخيرة، وليس هناك من شاهد لقبره، ولا نعلم حتى تاريخ وفاته، مع أن تاريخ وفاة زوجته مُسجّل في الصحف المحليّة في تلك الفترة من دون ذكر الزوج. هو اختفى بطريقة من الطرق، وهناك من رجّح أن يكون قد خُطف من جديد من قبل تجّار العبيد، لكن المؤرّخين باتوا يرفضون تلك الفرضيّة. الفيلم طبعاً يحاول أن يعيد النظر في التصوير النمطي (المُستمرّ) للسود في أفلام هوليوود، والمدينة تجود علينا مرّة كل عشر سنوات (أو أكثر قليلاً) بفيلم جيّد عن معاناة السود التاريخيّة، مع أن الأفلام عن معاناة اليهود تُنتج بصورة دوريّة (من الندرة أن تنتج هوليوود أفلاماً عن معاناة السكّان الأصليّين الذين قُتلوا على يد الرجل الأبيض بالملايين _ العدد الحقيقي غير معلوم، هناك ترجيحات فقط) طبعاً، الفيلم يعمل على التصوير التقليدي للرجل الأبيض المُنقذ دائماً.
تجد السلطة البيضاء صعوبة بالغة في التعاطي مع معاناة السود. هي ترى أن إعطاء الحقوق القانونيّة يكفي لمحو التاريخ الطويل من الاستعباد والعنصريّة الفظيعة. أميركا تختلف عن أوروبا في التشديد على الوحدة الفرديّة كمقياس اجتماعي، فيما تنتشر في بلاد «الديموقراطيّة الاجتماعيّة» فكرة المجموعة، أو التشديد على المساواة في نتاج التنافس الفردي، وتكتفي أميركا باحترام (نظريّاً طبعاً) شروط تكافل الفرص (قانونيّاً وليس اجتماعيّاً). النموذج الأوروبي الغربي يؤمن بـ«الحريّة السلبيّة» و«الإيجابيّة»، حسب تصنيف الفيلسوف البريطاني، أشعيا برلين، في كتابه «أربع أطروحات عن الحريّة». أما أميركا فهي لا تقبل إلا بـ«الحريّة السلبيّة»، التي تقي المواطن من سلطة الحكومة (إلا إذا كان من المهاجرين العرب والمسلمين هذه الأيّام). أميركا تأسست على نمط المفهوم الليبرتاري، فيما تأسّست جمهوريّات أوروبا الحديثة (بعد الحرب العالميّة الثانيّة خصوصاً) على الفكرة الليبراليّة عن تدخّل الدولة لصالح العدل الاجتماعي.
لم تمت دودة العنصريّة في أميركا. ألكسي دي توكفيل، الذي سبق الحديث عنه، حذّر في القرن التاسع عشر في كتابه المذكور أعلاه من مغبّة عنصر التناحر بين البيض والسود، ورأى فيه خطراً مدمّراً (كما أنه حذّر من صعود طبقة جديدة من الأرستقراطيّين الجدد). عالم السياسة، كنيث أورايلي، كتب كتاب «بيانو نيكسون» عام 1995 عن السياسات العرقيّة من عهد جورج واشنطن حتى عهد بيل كلينتون. يرى أورايلي أنّ كل الرؤساء الأميركيّين من دون استثناء حكموا بعنصريّة ضد السود وشاب خطابهم وسياساتهم عنصريّة ضدهم. جورج واشنطن نظّر للحريّة، فيما كان يملك العبيد (كتب في وصيّته أن عبيده يصبحون أحراراً فور وفاة زوجته، وعندما قرأت الأخيرة الوصيّة سارعت إلى إعتاق العبيد خوفاً من مسارعة العبيد إلى نيل حريّتهم بطريقة سريعة)، فيما كان توماس جفرسون (الذي ألهم كتابة إعلان الاستقلال وحتى كتابة الدستور _ عن بعد عندما كان سفيراً لبلاده في فرنسا) يدفع لأخذ «التعديلات العشرة» على الدستور والتي تلخّص حريّات المواطنين) يشبّه السود بالقرود في كتاب له غير معروف في بلادنا عن ولاية فرجينيا (وقد اغتصب واحدة من الجواري التي ملكها، مع أن الثقافة الأميركيّة تتعامل مع علاقته مع الجارية، سالي همنغ، وكأنها علاقة بين حرّ وحرّة). لم يجد المؤسّسون الأوائل تناقضاً أبداً بين اللهج بحمد الحريّات والتنظير لها والزهو بالنموذج الأميركي، فيما كانوا يستثنون من حريّاتهم العبيد والنساء وباقي المهاجرين «الملوّنين» _ حسب وصف سنوات خوالٍ.
تحاول أميركا تسويق نفسها بشتّى الطرق إلى العالم، فيما يراها أكثريّة في 65 دولة في العالم وفق استطلاع جديد على أنها تشكّل الخطورة الأكبر للسلم العالمي. إن التغنّي بـ«الحلم الأميركي» هو كذبة مثلها كذبة «أسطورة المعادن» في جمهوريّة أفلاطون: المُراد واحد، في تسويغ نظام تراتبي جامد وجائر. وقد شحن انتخاب رئيس أسود في عام 2008 ثقة البيض، لا السود بالضرورة، بنموذج بلادهم. يريد الكثير من البيض أن يتوقّف السود عن الشكوى (أو «النق») عن ماض سحيق لهم في العبوديّة والظلم. عندما يُسأل الأميركيّون إذا ما كانت العنصريّة حالة في الماضي أو الحاضر، تختلف الإجابة بين السود والبيض. البيض يرون أنّ أميركا تعيش في عالم حرّ ومتساو. يرى السود خلاف ذلك فهم يعيشون في «جمهوريّتين» حسب وصف أندرو هاكر في كتابه «جمهوريّتان» عن التفاوت في الحظوة الحياتيّة (في مختلف جوانبها) بين البيض والسود. تزيد نسبة الفقر عند الولادة عن الضعف بين السود والبيض، ولا تزال المدارس التي يؤمّها سواد السود تفتقر إلى الكثير من الموارد، مقارنة بين مدارس يؤمّها سواد البيض. لا يزال الفصل العنصري سائداً، ليس بالقانون بل وفق الفصل الطبقي والاجتماعي بين السود وبين البيض. كيف يمكن أن يشعر الرجل الأسود بالمساواة ونسبة توقيفه عشوائيّاً من قبل الشرطة هي 75 مرّة أكثر من نسبة التوقيف العشوائي للرجل الأبيض. لا تزهو أميركا بهذه الحقائق، ولا تتضمّن الدعاية الأميركيّة في هوليوود ما يزعج سياق «الحلم الأميركي». والسجن في أميركا (بمستوياته المختلفة) يقيّد حريّة نحو ثلث الرجال السود في الجنوب الأميركي (ويُحرم من التصويت في أميركا مَن أدين بجرم، أي أن مجمّع صناعة السجن في أميركا _ وهي تخضع أيضاً للتخصيص على طريقة الشركات الأمنيّة التي يتقاعد معها الجيش الأميركي في حروبه _ يسلب نحو ثلث السود من حق الاقتراع).
قد يكون انتخاب أوباما ألحق ضرراً بمصالح السود في أميركا. يُقال لهم بطريقة التوبيخ إن وصول أوباما أثبت بالقاطع اندثار العنصريّة، وفي القول من السخف ما لدى القول إن وصول امرأة إلى الحكم ينهي التمييز الجنسي في مجتمع ما. على العكس، إن وصول ممثّل «رمزي» للأقليّات أو للنساء يلحق ضرراً بمصالح الاثنين لأن الممثّل الرمزي يكون عرضة للتأثير من مصالح الرجل الأبيض النافذ. هو بمثابة تعيين شفيق الوزّان رئيس وزراء في عهد أمين الجميّل لإيهام الرأي العام بأن حكم الجميّل ليس فئويّاً طائفيّاً محضاً _ وهو كان كذلك. أوباما (أو غيره) هو مدير لشركة إمبراطوريّة تتحكّم فيها أهواء ومصالح خارج نطاق الفرد، مهما كان. وأوباما المرشّح والحاكم ابتعد عن عرقه بقدر ما ابتعد عن تهمة الإسلام. هو قلّما يتطرّق إلى مسألة العرق، والسود باتوا معتادين على تجاهله لقضايا تعنيهم. هو يريد أن يكون أبيض أسود، كما أنّ هيلاري كلينتون أرادت في سنوات اقترابها من البيت الأبيض أن تكون «أخت الرجال» بمفهوم المجتمع البطريركي الأميركي.
أمرت الحكومة الأميركيّة في الثمانينيات بصرف بضعة آلاف من الدولارات لصالح العائلات الأميركيّة من أصل ياباني، الذين واللواتي سجنوا وسجنّ خلال سنوات الحرب العالميّة من دون جرم؛ خلا جرم الانتماء العرقي (وضع الأميركيّون والأميركيّات من أصل ياباني في معسكرات اعتقال). ترفض أميركا أن تصرف أي تعويض لعائلات تتحدّر من عبيد بعدما كانت قد قدّمت وعداً لهم بذلك في القرن التاسع عشر. تعتبر أميركا أنها قدّمت خدمة للإنسانيّة جمعاء عبر تحرير العبيد، مع أن الثورة الفرنسيّة سبقت أميركا بقرن في تطبيق مبدأ الحريّة على مُستعبدين سابقين. تقوم حركة مُهمّشة بالمطالبة بتعويضات، لكن ليس هناك من يتلفت لها. تحرّر العبيد في أميركا قبل أكثر من قرن ونيّف من الزمن، لكن الحريّة لم تقترب منهم حتى عقد الستينيات من القرن الماضي. قاد مارتن لوثر كينغ حركة الحقوق المدنيّة التي حرصت على طمأنة نظام السيادة البيضاء ورفعت شعارات اللاعنف الغاندي، مع أن العنف الأبيض لم يتوقّف في تعاطيه مع حركة الحقوق. ناصر كينغ حرب فييتنام كي يبدو أميركيّاً أصيلاً. حاولت منظمة «الفهود السود» في الستينيات والسبعينيات أن تشنّ حركة كفاح مُسلّح (أو دفاع مُسلّح)، لكن «مكتب التحقيقات الفدرالي» (بالتعاون من الشرطة المحليّة) شنّ حرباً بلا هوادة ضد عناصرها وقتل منهم غيلة العشرات أو أكثر. لا تريد الأكثرية البيضاء في أميركا المشاركة في الحكم. يُسمح بعنصر أقليّات هنا أو هناك (حتى في البيض الأبيض) لكن بشرات وجوه التحكّم هي هي، بعد كل هذه السنوات والعقود والقرون.
تعرض الشاشات أفلاماً عن معاناة السود، ثم يذهب الجميع ليشربوا أنخاب مجتمع المساواة. يروي من في البيت الأبيض أنّ الخدم هناك يشعرون باعتزاز لدى مرور الرئيس الأسود. هو يلقي عليهم التحيّة بين الحين والآخر، يا للتواضع. لم يعد السود هم أكبر أقليّة في أميركا. فاق عدد الأميركيّين من أصل أميركي لاتيني عددهم، كما أنهم ينافسونهم في الفقر. المجتمع الذي يروّج لنفسه في العالم هو الأقل عدلاً بين معظم الديموقراطيّات الغربيّة. فيكفّ بعض العرب عن مناشدة أميركا كي تصبح سياساتها الخارجيّة متسقة مع عدل سياستها الداخليّة. إن جوْر السياسة الخارجيّة الأميركيّة ما هو إلا نتاج طبيعي للجور الداخلي الأقلّ شهرة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)