ليس الإنسان سوى قوى صيّرته ذاتاً سواء أقلنا من خارجه، كإرادة الله، أم من داخله من خلال الوعي الذاتي لقواه ومشاعره وإدراكاته وأهمية تعديلها بغية تأكيد هذه الذات، ومن ثمّ ضمان حركتها وفعّاليتها ونشاطها بما يؤسّس لتاريخ منضبط فردياً وجماعياً. في الوعي الذاتي المشكّل لحركة الإنسان على مستوى الداخل والواقع، تقع «الكلمة« كمفتاح إلهي متصل بالإنسان بطريقة حيوية مؤثّرة ودافعة نحو فعلٍ أصيل وقيمة رافعة لشأن اجتماعي أُريد لبني البشر معايشته بجدارة، وهذا ما عبّرت عنه آيات من القرآن في قولها : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ*} إبراهيم : 24- 26.الله جعل تشبيه مدلول المعقول بالمحسوس سبيلاً لتقديم المعقول إلى الذهن معلناً عن سر عميق، وارتباط دفين بين العقل والقلب والمحسوس. الكلمة الطيبة بأوسع معانيها، في مداليلها الفكرية والعملية جاءت للتدليل على ما يريد الله للناس أن يعيشوه في أفكارهم وعلاقاتهم ومواقفهم العامة والخاصة من أهمية التنبّه لتلك العلاقة، وعدم إيذائها والإساءة إليها عبر الفاسد والإفساد والتضليل ونشر الجهالات والضلالات وتزييف الحقائق والإمعان في قتل القيم، إذ كلما قتلنا القيم فإننا نزداد ضعفاً وترهّلاً وتغرّباً وسقوطاً، وكلّما ابتعدنا أكثر عن تمثل عناصر القوة والثبات والتجذر والاستقامة، وتالياً نفقد القدرة على التحكم والسيطرة على أوضاعنا ونصبح مجرّد أتباع ومرتهنين لقوى الاستكبار والاستعلاء، وهذا ما يحصل فعلاً حيث تبثّ القوى الاستعمارية سمومها، وتمارس سياستها التضليلية الهدّامة من خلال ما تجده من نقاط ضعف عندنا قد أدمنا التعايش معها.
إنَّ التمثل الحقيقي لحقائق الأشياء، يدفع الناس إلى التذكر عبر التأمل والتفكير العميق المنفتح على الحقيقة. في المقابل، إن الكلمة الخبيثة مفتاح كل شرور ومحرّك كل عصبية نجد أننا ندمن إتقانها في تاريخنا القديم والمعاصر، ولا نزال، إذ أسلوبنا في حلّ الخلافات يكون عبر العصبيات وإثارتها وما تتركه نيرانها، فنميل إلى ثقافة خلق المشاكل أكثر من التفكير بوقفها وحلّها أو التخفيف منها.
البعض لا تزال العصبيَّة لديه مستشرية، حيث يهبُّ لنصرة الظالم والوقوف مع أبناء عائلته أو جماعته، من دون أن يتعرَّف الحقّ أين هو، وإلى جانب من. فقط تستفزّه عصبيته الجاهلية، فكم من كلمة خبيثة في السياسة أو الإعلام أو الدين والثقافة لا تؤكد نفسها، إلا من خلال ما تثيره من ضوضاء وخلافات وفتن، كما نسمع ونشاهد على كثير من الفضائيات وما أكثرها.
الكلمة في كل آنٍ وحي متصل بين الله والإنسان، ونحن من يقفل قلوبنا ويعمي أبصارنا ويمنع عقولنا وأسماعنا وضمائرنا عن تأثيراتها. فهل فكَّرنا يوماً كأفراد وأمَّة أنَّ علينا مواجهة الكلمات في مداليلها الفكرية والشعورية والعملية؟ وفي تأثيرها على وعي الشخصية الإنسانية للفكر، وعلى حركة الساحة في الواقع، وعلى عمق النتائج في الحياة؟ للأسف، لم نصل إلى هذا المستوى من الوعي والتفكير، إذ تعوّدنا نفخ دخان الغرائز والشهوات في ساحاتنا المتنوعة، وتركنا لعنجهياتنا المريضة وتبعيتنا العمياء أن تتحكم بمصائرنا وبعدها نطالب بالتغيير. وهل التغيير سوى إرادة حرة للانتفاض أولاً وآخراً على ذات مَرَضِية؟
دائماً يحركنا الله بنِعمِه المتنوعة الظاهرة والباطنة، وأهمها الوعي فهو مشارك لوعيِنا بإيجابية بما يدفعنا إلى الاستقامة على المحبة والرحمة، ثمّ بعدها نعثر على مآسٍ كثيرة اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وثقافية جرّاء تنحي الذات عن فعلها وممارسة دورها في ترجمة الحب إلى نوع من الجهاد في كتابة تاريخنا بأفضل السلوكيات والمواقف والحركية التي تبث الحياة في عروقنا المتجمّدة. لقد عزل كثيرون الله عن ميدان العمل والتمثُّل وقيَّدوه بجهالاتهم، وجعلوه فكرة مجرّدة يتلذّذون بها وينعشون أوهامهم، فيما الله تعالى حياة ومعانٍ حية تتمثلها في كل شيء وتترجمها في كل شيء. لقد تحوّلت قلوب كثيرين إلى مكان يسكنه الشيطان بدل أن يسكنه الله، فلا معنى لقلب يهادن الظالم أو الفاسد ولا معنى لقلب لا يرفض التبعية العمياء ويرفض المظاهر الخدّاعة ولا يرفض النزوات والأهواء الآنية التي تكرس الذاتية المفرطة التي تدمر العالم من أجلها. أضف إلى ذلك تبديد الثروات الهائلة من دون الاستفادة منها في تثبيت أمن الأمة وأمانها الاجتماعي والسياسي والأمني والاقتصادي والثقافي، وكأننا مولعون بثقافة الهدر والتبديد لكل شيء يبعد الأمة عن النهوض. كلّ ذلك أدّى بنا إلى أن نتفنّن في طرق العيش في كل شيء في طعامنا وشرابنا وأزيائنا، وطريقة كلامنا ومخاطباتنا وتكوين أفكارنا وقناعاتنا وننسى طرق الحياة. فالأمة الحية هي صاحبة حياة بقيمها ومفاهيمها وحضارتها وأصالتها وإنتاجها ووعيها لذاتها وغاياتها النهائية، أما العيش فهو مجرد انغماس آنيّ عبثي وأناني في صخب الماديات والمظاهر، حيث تغيب شمس الحياة فعلاً لصالح الظلامية والسوداوية، وشتّان بين العيش والحياة.
مشكلتنا مع أصحاب العقول المقوننة المحضة، أنهم يسقطون قوالبها العقلية على إيمانهم فلا يؤمنون إلا بعقولهم ولم يجرّبوا أن يروحنوا العقل كي يتنفس، لأنّ هناك أشياء في الحياة كثيرة لها لغتها الخاصة وليس بالضروري أن تكون عقلانية. لا نريد أن نكون على طريقة بعض الغربيين في عقلانيّتهم الرعناء، التي أفرغت كثيراً من القيَم وجعلت مجتمعاتها باردة ومتجمّدة لا روحانية فيها. كذلك، فإن مشكلتنا أيضاً مع أصحاب القلوب أنهم لم يعقلنوا عواطفهم، فأطلقوا العنان لانفعالاتهم من دون ضبطها ولجمها، فوقعوا في الأوهام والانفصام عن الواقع وأبحروا في متاهات منفصلة عن الحياة لا وجود لها سوى في أذهانهم، فانقطعوا عن فعلهم المطلوب ودورهم المسوؤل في إحداث التوازن في الحياة، عبر رفض العصبيات الطائفية والمذهبية وتقديس الشخصيات ومواجهة الانحرافات. وهذا ما خلق نقاط ضعفٍ كبيرة تسلّل إليها كثيرون من أصحاب المشاريع المُغرضة والنفعية داخلياً وخارجياً.
العقل، إنّما يتبوّأ مكانته الرفيعة إذا احتفظ بشؤونه بما هو عقل، ونهض بمهمته بما هو دليل مأمون، فلم تزغ به أهواء النفس، ولم تجنح به ميول الغريزة، ولم يتخبط في معارفه وأحكامه على غير علم ولا رشد ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ ﴿...وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
لم يفكر الخلفاء والزعماء والأمراء بنتيجة عدم التوازن في عقل الأمة وقلبها، بل ثبّتوا هذا الضياع خدمة لمصالحهم الضيّقة والخاصة. فمن الخلفاء والملوك والأمراء قديماً من كان يقدّم أهل الحديث والسنّة، ويمعن قتلاً بالآخرين وتنكيلاً لهم ومنهم من كان يقرِّب أهل العقل والرأي، ويُبعد أهل الحديث ويمعن تنكيلاً وسجناً ونفياً للآخرين. نحن لا نتحدث عن قناعات كانت موجوده عند هؤلاء الحكام، إنّما نتحدث عن ذهنية وروحية عامة مسيطرة لم تفكّر يوماً بوضع الأمة على السكة السليمة وتجنيبها الكثير من الويلات والتعقيدات. وإلى اليوم، لا تزال هذه الذهنية واحدة لم تتغيّر، إذ ليس من جهة أو مؤسسة أو دولة أو جماعة تفكّر على الالتقاء على الخطوط العامّة وتعزيزها للعقيدة والشريعة والسياسة، بما يخدم الأمة كأمة ويعمل على تقدمها، بل لا تزال عقلية الإبعاد والنفي والإقصاء والوقيعة بالآخر والتقوقع، موجودة في كل مجتمعاتنا وساحاتنا فيما الاستكبار يزداد همجية وشراسة للقضاء على روح الأمة وهويتها. وهو لا يوفِّر جهداً سياسياً، أو ثقافياً، أو عسكرياً، أو اقتصادياً لأجل ذلك، إلاّ ويفعله ونحن مجرد مشاهدين، وشهود على سقوط الأمة وتيهها بين عقل يجتر وتبريري في كثير من أموره وأفكاره لم يتعود أن ينتج، وبين قلب مليء بالعواطف والانفعالات لا يبصر طريقه وهدفه.
إنَّ أحزاب المقاومة مطلوب منها أكثر من غيرها إعادة التركيز تعبوياً على موضوع تجذير مفهوم الأمّة وتوضيحه ورفعه كشعار أوّلي وأساسي والعمل عليه كما ينبغي


ليس من جماعة على وجه الأرض تتعرّض لتحديات في وجودها، إلا وتتحرك بنسبة معيّنة حسب ظروفها، إلا أمّتنا التي أدمنت التسوّل في كل شيء، في اقتصادها ومالها وثقافتها ومظاهرها الاجتماعية. فهي مستعدة لإفراغ كلّ ما لديها من قيم في مقابل إشباع نهم البعض وتعطشه لمظاهر تزهق كل ما لديه حتى ماء وجهه الذي لم يعد مهما بالنسبة إليه.
من هنا الدعوة الملحة إلى من يعنيهم أمر «الأمّة» أن ينتبهوا، ولا يتغافلوا عن دورهم التاريخي والمفصلي في إعادة نوع من التوازن إلى واقع الأمة فمن بيده القدرة على ذلك. فليتذكر عين الله عليه وأنه محاسب عن مسوؤلياته تجاه أمته بعيداً عن انتمائه الطائفي أو المذهبي، فمن يعرف جدياً حقيقة الخطوط والقواعد العامة التي جعل الله الأمة عليها، فليفعل فعله أو ينسحب وكفاه تمثيلاً واستهتاراً وتخريباً وتجميداً لجسد الأمة لحساباته.
ليست القضية في تسجيل النقاط من هذه الدولة أو الجماعة على تلك، أو من هذا الحزب على ذاك، لأن الأمر لا يحتمل مثل ذلك، وهذا غاية في الشر إذا ما راجعنا حالنا وأوضاعنا بروية. فكل شيء من حولنا تسيطر عليه التوترات والعصبيات، ويتّصف بالتشتّت والضياع، فلا وحدة حقيقية أمام غزو الاستعمار الجديد ووحش الاسكتبار النهم، الذي يضع يده على كل شيء بعنجهية بشعة يصادر من خلالها حقوقاً ليست له ويبيع حقوقاً ليست له. وكأنّ الفرعونية اليوم ماثلة بقوة في ترامب وأزلامه، ومن يناصره في مدائنه على طول العالم سراً وعلناً.
إن الأحزاب، من إسلامية وغير إسلامية، ومن يمينية ويسارية، كلّها مدعوّة إلى مراجعة حساباتها وخطاباتها وأساليبها وأين أخطأت، وكيف تعالج الأخطاء، انطلاقاً من الإحساس بالمسؤولية في إعادة تركيز نشاطها حول أهداف شريفة وكبيرة، رأفة بحال الأمة، وحتى نعيد بعضاً من البريق المغيّب عن خير أمّة أخرجت للناس، فأين دور العرب والمسلمين اليوم من فلسطين إلى العراق إلى اليمن إلى غيرها من الساحات؟ وضع خطة سياسية إعلامية فاعلة لتأكيد الحقوق من أبسط المتطلبات، يجري صرف ملايين الدولارات للأسف على برامج إعلانية وإعلامية فارغة وسطحية، ولكن لا دعم لقضايا المقاومة والحقوق المسلوبة، وكأنّ القضايا المحقّة باتت عبئاً على أنظمتنا ومجتمعاتنا.
على صعيد آخر، رُفعت شعارات كبيرة في السابق من قبل أحزاب دينية تحت عنوان «أمّة»، «نحن أمة حزب كذا» و«نحن أمة حزب كذا» في وجه زحف المصطلحات الحزبية بمعناها الغربي القانوني والإيديولوجي الضيّق، فأين نحن من هذا الشعار اليوم في زحمة الانغماس في الحسابات الحزبية والسياسية المحلية الضيّقة والخاصة؟
إنَّ الجميع مطالبون بالابتعاد والتطهّر من لوثة السياسة ووحولها، الأمر الذي حوّلنا جميعاً إلى عبيد وأتباع لمحدوديّاتنا الطائفية والمذهبية والحزبية والجهوية. يجب محاولة تنشيط الذاكرة والوعي وتربية الأجيال على مركزية الأمَّة كمجتمع واحد وأسرة واحدة وأهداف قيمية واحدة ومشتركة، فالأمة قامت على أن تكون واحدة من البداية، تتنوّع فيها الإسهامات وتلتقي عندها الأهداف والنتائج والطموحات. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء/92).
إن مسؤولية الأمة، في التعبئة العامة والمواجهة الشاملة بكل طاقتها ضد الإرهاب الأميركي والصهيوني الذي يضغط على المسلمين في سياستهم واقتصادهم وأمنهم ومساعدة المجاهدين في خط الجهاد والمقاومة والدفاع عن الحرمات والحقوق والمقدسات. إننا باختيارنا وضيق أفقنا أَمتْنا حلمَ الأمّة والتجأنا طوعاً، أو كرهاً، إلى عصبياتنا الحزبية والعائلية وإلى التمسّك بزعاماتنا وكأننا بدائيون في الذهنية والتفكير ونمط السلوك مع فارق الاستغراق في عيش متمدن ندّعيه. ما نفع عيش متمدّن، وما نفع جهاد ومقاومة ما لم يكمله تمدّن ذهني وفكري وروحي يترجم تواصلاً بين الناس ودفعاً نحو الوحدة في الآلام والآمال ومواجهة للفساد والمفسدين والفتنة والمبطلين والظالمين؟ ألا ننزل قليلاً إلى أرض الواقع ونرى التخبّط الكبير والاهتزاز الخطير في طبيعة علاقاتنا وأوضاعنا الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية اليوم؟!
لم يخترنا الله كخير أمَّة لأننا عرب أو مسلمون أو مسيحيون، سوى بمقدار ما نلتزمه من أمانة في وعي الذات والأهداف والمسؤوليات عن الناس والحياة أمام الله والتاريخ. فنحن مسلمون في خط الإسلام الأصيل، ونحن مسيحيون في خط المسيحية الأصيلة، حيث تلتقي الأديان على تفعيل دور الإنسان الأممي والكوني. نحن من يقرّر إذا كان واقعاً تحت اختيار الله ومحبته البسيطة والعفوية غير الميكانيكية والمسقطة، فزمان الإنسان مفتوح على كل ما يحييه.
إنَّ محورية الأمة تعني محورية الإنسان في عملية الاندفاع الإيجابي والحيوي في التغيير والإصلاح ورفع الرتابة عن الواقع، وإعادة النشاط إلى ساحاته بعفوية وإخلاص وصدق وإيمان متجذر يفوق قوة العقل وقوة الجهل. من هنا ضرورة خلق أسلوب جديد ورشيق وفعّال، في تقريب القيَم والمفاهيم وربط الأجيال بهويتها الأصيلة وزرع محبة الآخر والتسامح والحوار والإحساس بالمسؤولية عن الأمة كمعنى واسع ورحب، بعيداً عن التأطّر المذهبي والطائفي والعائلي.
أجيالنا اليوم في خطر كبير، وباتت في أكثرها من فئة المقلّدين العميان في كل شيء، وهو ما انعكس قلباً في المفاهيم والقيَم لصالح العبثية والاستهتار واللهو والتنكر للمسؤولية والخوف من تحمّلها، فهذه الأجيال مسؤولية من يا ترى؟ هي ليست حصراً نستعملها كخزّان بشري لولاءاتنا، إنّها أمانة في أعناقنا وسنُسأل عنها... إنَّ أحزاب المقاومة مطلوب منها أكثر من غيرها اليوم، إعادة التركيز تعبوياً على موضوع تجذير مفهوم الأمّة وتوضيحه ورفعه كشعار أوّلي وأساسي والعمل عليه كما ينبغي، وعدم التهامل في لحظة تاريخية مفصلية في مسيرة الأمّة.
إذا أردنا للأمة أن يعانق بعضها بعضاً، لا بدّ من بناء عقلها وقلبها من جديد، لا أن ترمي عقلها وقلبها في ضياع وتيه لا يقظة منهما. فالاتِّزان عبر القلب والعقل في حسن الفهم والقراءة لكتاب التاريخ والحياة، ولاقتحام زمن الله الأبدي عبر تسجيل حريتنا واختيارنا في ما نقول ونفعل ولنكتب تاريخنا من جديد على أساس إحياء الأمة لإحياء الذات. قديماً قال القديس أوغسطينيوس: «إن تاريخ العالم يكتبه شكلان من الحب، حبُّ العالم حتى فناء الذات، وحبُّ الذات حتى فناء العالم». ونقول، اليوم من وحي كلامه، إن تاريخ الأمَّة يكتبه شكلٌ واحدٌ من الحب هو حبُّ العالم حتّى إحياء الذات وبعثها من جديد.
إنّ المؤمن الحقيقي من يجمع بين إيمانه وعقله جمعاً صحياً في تكامل مستمر على مدى الزمن، فنحن كبشر كما قالها يوماً المطران جورج خضر: «نحن مسعى بين قلب وعقل»، فلنجعل من هذا المسعى حجّاً متواصلاً للخروج من زمن الغربة والمآسي إلى شمس التحرّر والعودة إلى قلب الزمن.

*أكاديمي وحوزوي