في خضم الضغط الشعبي ومعركة محاربة الفساد، بعد 17 تشرين، أبلغت السلطات القضائية المختصة الجمعيات والكُتل النيابية التي تتابع ملفات الفساد الواقع على المال العام وجرائمه، أنّها تُصِّر على مفهوم واسع لمعنى الإخلال بالموجبات المترتبة على الوزراء الوارد في المادة 70 بحسب ما أعلن النائب حسن فضل الله، وتالياً، فهي أخرجت من صلاحيتها عملية الادعاء والمحاكمة في الأفعال المرتكبة من الوزراء، والتي تكون قضاياها مرتبطة بالفساد والهدر والاختلاس، وغيرها من الجرائم الواقعة على المال العام. بمعنى أنّ أيّ صلاحية لن تنعقد لها في هذا الخصوص، من دون تعديل دستوري، حاصرةً بذلك الصلاحية بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المنعدم الوجود.
اتهام الوزراء في لبنان ومحاكمتهم
تنصّ المادة 70 من الدستور اللبناني على أنّ «لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس...». وتضيف المادة اللاحقة: «يحاكم رئيس مجلس الوزراء والوزير المتهم أمام المجلس الأعلى». وإذا تتبعنا رأي العلم والاجتهاد، في خصوص الجرائم التي يقترفها الوزير، يمكن أن نخلص إلى استقرار في تقسيمها إلى فئتين، الأولى تلك المذكورة في المادة 70، أي الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتبة، وتناط فيها صلاحية الاتهام للبرلمان والمحاكمة للمجلس الأعلى ــ المنعدم الوجود. وفلسفة هذا الاختصاص متعلّقة بطبيعة هذه الأعمال وارتباطها بوظيفة الوزير السياسية، أما الفئة الثانية فهي تلك التي تندرج تحت لواء الجرائم العادية، وتالياً، تنعقد فيها صلاحية القضاء العدلي ــ أي القضاء الجزائي العادي ــ في الملاحقة والتحقيق والمحاكمة.
تنصّ المادة 70 من الدستور اللبناني على أنّ «لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس


لكنّ المشكلة تكمن في تكييف الوقائع وتحديد الأفعال التي تدخل ضمن كل من الفئتين؛ ففي قضية وزير النفط السابق شاهيه برسوميان، ظهر اختلاف كبير في الآراء الصادرة عن المحاكم، بحيث ذهب قضاء التحقيق إلى اعتبار أفعاله المتعلقة باختلاس المال العام داخلة ضمن فئة الجرائم العادية، أي إنّها تدخل تحت صلاحية القضاء العادي، بينما ذهبت محكمة الجنايات في بيروت إلى رأي معاكس، إذ اعتبرت أنّ «الأفعال المُسندة إلى المتهم تدخل، تبعاً لنوعها، في اختصاص محكمة استثنائية هي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء» (جنايات بيروت، قرار 350/2002). بكلام آخر، ثمة اختلاف في ما هي الأفعال التي تنزل تحت ما نصّت عليه المادة 70 حول الإخلال بالموجبات المترتبة، وعلى رأسها جرائم الفساد المتعلق بالمال العام، فكلّما وسعت مفهوم الإخلال بالموجبات المترتبة، ضاق حيّز صلاحية القضاء العادي في ملاحقة الوزراء. وإذا أخذنا بعين الاعتبار انعدام وجود المجلس الأعلى، فإنّ مثل هذا الفهم يعني في الواقع استحالة محاكمة الوزراء، ووضع حصانة دائمة عليهم. أما تضييق دائرة فهم مقصود المشرع الدستوري من الموجبات إياها، هو ما يُطلق يد القضاء في ملاحقة الوزراء ومحاكمتهم (وسيم منصوري، 2008، ص: 983)، بما قد يسمح للقضاء العادي بمحاكمة الوزراء في قضايا الفساد.

التفسير اللاديموقراطي للمادة 70 دستور
إذن، أصرّت الجهات القضائية المختصة على الأخذ بالتفسير الأعم لمضمون المادة. تبِعات الأخذ بهذا الاجتهاد ضخمة، فهو يكرّس تفسير المادة 70 دستور، بما يتناقض مع الفقرة «ج» من مقدمة الدستور ذاته، والتي تنصّ على أنّ «لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية»، إذ إنّ هذه المقدمة والمبادئ الواردة فيها تشكل جزءاً لا يتجزأ من الدستور وتتمتع بقيمة دستورية (مجلس دستوري، قرار1/97)، ما يعني أنّها واجبة الاحترام، خصوصاً أثناء تفسير السلطة القضائية للدستور ــ بما هو تفسير فرعي ــ وبمناسبة قيامها بعملها، ولأنّه لا يمكن بأي شكل تفسير معنى «ديموقراطية» راهناً، من دون وجود العلاقات المؤسساتية التي تنتج نظام المساءلة (accountability) للسياسيين داخل إطار الدولة (Mark A. Graber, et al, 2018, p: 34).
إنّ دور السلطة القضائية هو أن تُحاسب، لذا يُفترض أن تفسر الدستور بما يفتح مجال المحاسبة، وتالياً، يرسخ المبدأ الديموقراطي المنصوص عليه في مقدمة الدستور. أما التفسير الذي يقيّد المحاسبة، بل ويجعلها معدومة، فهو تفسير يناقض النمط الديموقراطي، ويجعل من النظام في لبنان أقرب إلى دولة في أوروبا القرون الوسطى منه إلى دولة القانون في القرن الواحد والعشرين.

* كاتب حقوقي