«فلنحارب التكنوقراط على أرضيّتهم السياسية»بيار بورديو في خطابه أمام احتجاجات عمال القطارات (محطة دو ليون، 12 ك1 1999)

الهوّة عميقة وواسعة بين أسباب الأزمات السياسية والاقتصادية ــ الاجتماعية، التي دفعت الشباب والفئات الشعبية للتعبير عن الغضب في الشوارع، وبين سياسة منصّات الحراك الاجتماعي التي تعبّر عن مطالب سياسية واقتصادية تظنّها مغايرة للنظام والطبقة السياسية. فالفئات الشبابية والشعبية الغاضبة في الشوارع، تثير رفضاً لنتائج انهيار الدولة وخراب البنى الاجتماعية والمؤسسات الدستورية بسبب منظومة سياسات نموذج أميركي معولَم تتبناها السلطة، ولا سيما السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية، التي تنعكس عليها في أحوال المعاش وسبُل العمران تهميشاً وإذلالاً في عدم الاستقرار والأمان. لكن المنصّات تثير بغالبيتها مطالب سياسية باسم الحراك، لا تتعدّى الطموح إلى إصلاح واجهة السلطة وترقيع منظومة سياسات الخراب بأشخاص جدد في السلطة أو بأداء «علمي» منزّه عن النهب والفساد وعن السياسة أيضاً. وهي المراهنة العمياء التي تتخيّل أن مسبّبات الخراب نفسها يمكن أن تؤدي بالنوايا الطيبة إلى نتائج مغايرة.
المفارقة المُرّة أن ظاهرة جيو سياسية ــ اقتصادية ــ اجتماعية غير مسبوقة قبل التحوّلات النيوليبرالية، تعمّ المنطقة العربية بين لبنان والعراق والسودان والجزائر وغيرها من الدول، لم تلقَ دراسة جدّية لقراءة سياسات النموذج الأميركي المعَولم في ترابط الأزمات الاقتصادية والوطنية والاستراتيجية الناتجة عن انهيار دور الدولة في انكفائها عن بناء الحقل الإقليمي، نتيجة ارتباطها بمنظومة الانهيار السائدة. فالشباب، والأقل شباباً، من الفئات الشعبية المسحوقة والمتوسطة، ينتفضون في مواجهة سلطات الحكم التي يحمّلون أشخاصها، وليس سياساتها، مسؤولية انهيار سبُل العيش الكريم والحقوق الإنسانية في العمل والتعليم والطبابة والسكن والغذاء. هم يواجهون رموزاً ومؤسسات الحكم التي تتجسّد حركتها أمام أعينهم، فيعتقدون بعفوية تبسيطية أن تغيير أشخاصها الفاسدين بأشخاص أكفّاء غير مسيّسين (تكنوقراط) يلبي حقوقهم وطموحاتهم بالعيش الكريم والمستقبل الآمن. ومن الطبيعة العفوية، أن تستقي الغالبية العظمى الإرث القروي لحكايات «الأوادم والزعران» المتوارثة عن المخاتير ورجال الدين في القرى والأحياء الشعبية، أو أن تُلقى أساطير إيديولوجية النموذج النيوليبرالي بشأن المواطنَة المجرّدة عن الانتماء إلى فئات اجتماعية محدّدة، قابلية وهوى بين الشباب والطلاب والمختصين الذين يلحسون مبرد الثقافة السائدة. لكن من غير الطبيعي انخراط القوى والتيارات السياسية الوطنية في هذا السياق نفسه، متخيّلة التعويل على تغيير سياسات السلطة والدولة عبر تغيير قانون الانتخاب لاستبدال أشخاص الطبقة السياسية الفاسدة.

المعارضات الوطنية لا تقرأ ولا تكتب
المنظمات غير الحكومية والأطراف السياسية النيوليبرالية الداعية إلى المدنية الأميركية، تنسجم مع نفسها في التصويب على نتائج المنظومة في فساد السلطة والطبقة السياسية، داعية إلى استبدال أشخاصها وانتخاب منزّهين غيرها. فهي في حقيقة الأمر، لا تُحقق معجزة في الكشف عن مظاهر ذئبية من الفساد ونهب المال العام الذي يرقى إلى مصاف الجرائم الاقتصادية. لكن هذه الجماعات معدّة ومدرّبة بمهارة على هذا النوع من التصويب بحرفية عالية، بهدف تسويق منظومة النموذج الأميركي المؤسّس لانهيار الدول وخراب المؤسسات والمجتمعات، بدعوى أن تطبيق سياسات المنظومة بكفاءة نزيهة يؤدي إلى نتائج باهرة من الازدهار والاستقرار الأمني والاجتماعي ولا يفسدها سوى فساد السلطة. وفي مقابل هذه المنظمات والأطراف، تناضل مجموعات شبابية ضد استغلال المصارف وأوكار فساد السلطة والطبقة السياسية، بموازاة محاولات بعض الاختصاصيين بالهندسة المالية والمحامين والقضاة لاقتراحات حلول قطاعية، أملاً في البحث عن معالجات مأمولة. فمجمل هذه الجهود والنشاطات تدلّ على حيوية مرموقة مكتسبَة لحركة مطلبية واحتجاجية واسعة، وهي مسبوقة قبل الحرب في لبنان حين كانت البُنى الاجتماعية أقلّ طائفية وأقلّ عصبوية وتشرذماً. لكنها لا ترقى إلى مصاف الثورة لتغيير بنية النظام السياسي والاقتصادي ــ الاجتماعي وإعادة بناء الدولة. وهي ككل حركة احتجاجية واسعة تشهدها الدول العربية وبعض الدول الأوروبية (اليونان، فرنسا، البرتغال، إسبانيا....) تفتقد القوى والأحزاب السياسية المؤهلة لتوظيف الاحتجاج والانتفاضة على طريق تغيير المنظومة. ولعلها في لبنان، فضلاً عن تجذّر خراب الدولة والمؤسسات وذئبية السلطة المتوحشة خلال عقود طويلة، تعاني هذه الحركة أزمة المعارضات السياسية الوطنية التي تجمّدت عند السبعينات من القرن الماضي، في عجزها عن قراءة أسباب الضياع وقصورها الذاتي عن الاهتمام بالمعرفة الفكرية لمواكبة إيديولوجية التحولات المستجدة في منظومة النموذج الأميركي المعَولم، من أجل كسر الشرنقة وسياج قن الدجاج.
في ردّه على مقالة إبراهيم الأمين (الأخبار، 27 ك2، 2020)، يستعرض الحزب الشيوعي نضالات وتضحيات الحزب الطويلة بذريعة أنه «يُقدّم الشرح في الشارع» (الحزب هو الحزب الشيوعي اللبناني، الأخبار، 31 ك2، 2020)، والمفارقة أنه يعتقد تضحيات مناضلي الحزب رأسمالاً رمزياً وملكية خاصة لقيادة الحزب في صكٍ على بياض، وليست مسؤولية أخلاقية وسياسية ثقيلة تفرض على الحزب بالحد الأدنى تقديم الاعتذار والتعمّق في الشرح والتحليل لأهالي المناضلين والشهداء وناسهم بشأن فشل الحزب في تحقيق آمالهم وتضحياتهم. لكن الحزب الذي يعقد مؤتمراته المفصلية بناءً على «وثائق» لا تتعدى قصاصات جرائد، يعجز عن امتلاك أدوات معرفية لتقويم تجارب المرحلة واستخلاص الدروس لمواكبة التحولات الكونية والمتغيرات التي تبتلع الكينونة والمجتمعات والبلدان في السياسة والاقتصاد والمعادلات الاستراتيجية... فيتراءى له أن «الحركة الثورية التي قدّمت مشروعاً وطنياً للتحرير والتغيير» في مرحلة غابرة طوتها تحوّلات المنظومة النيوليبرالية في كل البلدان التي يتقوقع عنها حزب ينظر بعيون لبنانيته، فيتخيّل حركته «استمرت حتى اليوم».
الإيحاء بمقاربة سياسية خارج السياق في الحديث عن «تبعية النظام الطائفي بالأساس للرأسمال المعولم»، يبدو إنشائياً مصطنعاً من دون معنى سياسي. فجديد الرأسمال المعولَم هو منظومة الرأسمالية النيوليبرالية التي تستهدف في المقام الأول تعزيز انكفاء كل بلد على «شؤونه الداخلية» أولاً وزرع الوهم بإمكانية تغيير سياسات نظام كالنظام اللبناني عبر إصلاح السلطة والشأن الداخلي، بينما تتحكم منظومة النموذج المعولم بكل مفاصل سياسات السلطة وسياسات الدولة. ولا يمكن مواجهتها بمعتقدات غيبية نتيجة التكلّس الفكري والتوهّم بـ«لا حلّ إلاّ بكسر هذا النظام عبر الانتقال إلى نظام انتخابي قائم على النسبية خارج القيد الطائفي... ولا يمكن بناء الدولة الوطنية إلّا من هذا الباب».

الحقل الإقليمي لتفكيك منظومة الخراب وبناء الدولة الوطنية
الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية الواسعة في كل من لبنان والعراق والسودان والجزائر... تثبت أن منظومة الانهيار والخراب تعصف بدول المنطقة ومجتماعاتها، بل تتعدى الحقل الإقليمي إلى فرنسا والدول الأوروبية في حقول إقليمية أخرى، وأن المسبّبات النيوليبرالية نفسها في الاحتكام إلى حريات السوق والاستثمار والنمو والاستهلاك البذيء...، تؤدي إلى إلغاء دور الدولة وحقوق الفئات الاجتماعية وإلى النتائج عينها في الإقصاء والتهميش والفساد وفوضى الغابة المتوحّشة. ولا تساعد سياسة منصّات الحراك التي تقتصر على المطالبة بتغيير أشكال الحكم متجاهلة سياسات المنظومة المفروضة على الدول، في انتقال الاحتجاج والانتفاضة إلى العمل لوقف الانهيار وإعادة البناء في تغيير السياسات.
الارتقاء على الضفة المقابلة إلى مستوى المنظمات غير الحكومية التي تتناقل المعارف النظرية والخبرات العملية في ما بينها على الصعيد الإقليمي والدولي من أجل التشبّع بقراءة أبعاد منظومة السياسات النيوليبرالية، هو الحد الأدنى في مسؤولية القوى والتيارات الوطنية المعارضة في سبيل الإدراك أن التغيير في الطربوش لا يمسّ البدن والهندام. ولا مناص لهذه القوى التي تنقل نزق الادّعاء بالمعرفة الطليعية إلى أمراض شبابها ومناضليها في منصّات وخيم الحراك، من التواضع الثوري لتحمّل مسؤولية الانحلال الفكري الذي أدّى إلى انحلال سياسي وتنظيمي خلال ثلاثين عاماً بعد فشل مراهناتها القديمة على «البرنامج المرحلي للانتقال الديمقراطي». ولا ريب أن مسؤوليتها دفع الاحتجاج والانتفاضة في مواجهة فساد السلطة، ولا سيما جرائم نهب الديون والمال العام وفي مواجهة فساد أشكال الحكم وما يسمى الديمقراطية التوافقية والمحاصصة السياسية، من أجل جمعية تأسيسية لتنظيم شكل الحكم وقطع الطريق على التعيين في القضاء والإدارات العامة وطريق الفساد في الجمع بين العمل العام والعمل الخاص...، وأيضاً مواجهة فساد أنماط العيش البذيء في استهلاك السموم المستوردَة. لكن مسؤولية القوى والأحزاب الوطنية الأساس والأولوية هي السعي لتفكيك منظومة سياسات النموذج الأميركي في سبيل مشروع إعادة البناء.
سياسات النموذج المعولم المؤسّسة لخراب المجتمعات وانهيار الدول، لا تقيم حدوداً فاصلة بين السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية النيوليبرالية وبين القضايا الوطنية في الحقل الإقليمي. فهي استراتيجية متكاملة ورؤية مدرسة كونية على نقيض ما سبقها من مراحل الرأسمالية الوطنية والديمقراطية الأوروبية، لا تتيح تغييرها أو حتى مواجهاتها لدول بحجم فرنسا والدول الأوروبية بسبب سيطرة النموذج في الاتحاد الأوروبي الذي يتحكّم بمفاصل السياسات في كل الدول الأوروبية، ولا يعير أدنى انتباه لانتخابات السلطة أو الانتفاضات الشعبية. لكنها تتيح مقاومتها والحدّ من آثارها المدمّرة في بلادنا على صعيد الحقل الإقليمي، نتيجة مواجهة محور المقاومة على مستوى المنطقة. فمن هذا الباب يمكن دخول قوى وأحزاب التغيير في التقاطع مع محور المقاومة في المواجهة الوطنية، وفي الاختلاف معه بشأن التغيير السياسي والنموذج الاقتصادي ــ الاجتماعي. غير أنه اختلاف رؤى في الضفة الواحدة المواجِهة للضفة النيوليبرالية في «جبهة مقاومة شاملة» يعوزها بعض تراث المدرسة «الأممية».

* باحث لبناني