مثيراً يبدو الاشتغال الفكري لبحث فرصة تحالف المدرستين البراغماتية والدوغماتية، ودراسة فرص نجاحه وأبعادها، فلسفياً وفكرياً... الأمر الذي نتركه لأهل الفلسفة، إلا أننا في محضر السياسة، تستوقفنا تجربة تحالف الولايات المتحدة وحركة الإخوان المسلمين مع انطلاق الحراك العربي، وهو التحالف الذي سرعان ما كشفت عنه الأيام وأخرجته للعلن بما لم يعد يقبل الشك.
هل أخفقت الولايات المتحدة في اعتماد الإخوان حليفاً رابحاً في المنطقة؟ وهل تتجه إلى التعديل؟
ليست المرة الأولى التي تذهب فيها الولايات المتحدة إلى خيارات يعتريها التسرع والسطحية المفرطة في مقاربة للمنطقة وطبيعة تشكلها الثقافي والاجتماعي... ولا تبدو الأخيرة. فتجارب العقدين الأخيرين لم تخرج عن هذا الادعاء، بدءاً من أفغانستان والعراق؛ إذ فشلت بما يعطي المشروعية البناء بعدما نجحت بالهدم، ثم سعيها المعلن لإسقاط المقاومة في لبنان بالأداة الإسرائيلية في حرب تموز 2006... وليس آخراً توقعها للحراك العربي وتمكنها من تقدير الموقف الذي يحقق مصالحها كما عوّدت التجارب العرب، الذين ما انفكوا ينظرون إليها على أنها الدولة التي لا تخطئ مصالحها!
ولعل خيارها الأخير للتحالف مع الإخوان في ضوء الحراك العربي كان إحدى أبرز هذه السقطات.
لا ينكر أحد حجم حركة الإخوان المسلمين وحضورها في أكثر من قطر عربي إسلامي، ولا ينكر ما جنته تاريخياً هذه الحركة من حضور كامن في المجتمعات، إن بخطابها الإيديولوجي أو بما تعرضت له من اضطهاد وإقصاء شديدين من السلطة السياسية، والذي بدوره شكّل لها وحولها تأييداً وتضامناً شعبياً كبيرين.
إلا أنّ هذا التحالف أغفل، أو ربما تغافل عن معطيات تخص طرفيه (أميركا والإخوان) وفضاء فاعليته والظروف المحيطة:
1ــ لم تكن الولايات المتحدة تدرك، ربما، أزمة الثقة التي سيخلّفها هذا التفاهم على حلفائها التقليدين، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية وحجم رد فعلهم عليه؛ حيث برز أنّ رد الفعل السعودي على الاتفاق المرحلي الإيراني (5+1) ما كان أكبر منه على وصول الإخوان في مصر... واقع المنطقة يقول إنّ تمدد الإخوان في جسم السلطة حيث يكونون، هو تهديد فعلي لأنظمة الخليج، التي تعاملت معه على هذا النحو، وما تصريحات قائد شرطة دبي ضاحي خلفان العدائية للإخوان، إلا واجهة بسيطة، كلامية، لما قامت به دول الخليج، سريعاً، لإجهاض التجربة الإخوانية في مهدها.
2ــ لم تكن تدرك الولايات المتحدة نظرة الشارع العربي عموماً للإخوان. فالتعاطف الناتج من الوحدة الدينية أو وجود الإخوان في موقع المظلومية، ليس كافياً للسير معهم في مشروعهم في قيادة الدول. الشعور بالتعاطف يتضاءل في مقابل الضعف في السلوك السياسي الإخواني. خطاب سياسي متقلب، يأتي كالزيت على نار الذاكرة المشحونة تاريخياً ضد الإخوان لجماعات واسعة الانتشار في العالم العربي.
3ــ لم يساعد الإخوان الولايات المتحدة لبلوغ الهدف، ربما لافتقارهم إلى الحنكة السياسية والدبلوماسية؛ إذ سرعان ما وقعوا في صدام مع مجتمعاتهم... وأُسقطوا.
4ــ لم ينتبه كلا الطرفين إلى أنّ هذه العلاقة الأثينية ستفسد للإخوان مشروعية حصلوها تاريخياً في عداواتهم لأميركا وإسرائيل وحكومات التبعية والتعاون مع أميركا وإسرائيل... يعني ذلك أنهم لن يستطيعوا على المدى البعيد تجاوز شارعهم وجماعاتهم المعبأة. ما سيؤدي تدريجاً إلى أزمة التناقض وبروز التيارات المختلفة في ساحتهم.
5ـ لم تدرك بعمق الولايات المتحدة أو الطوائف والمذاهب الإسلامية السنية من صوفية ووهابية ومؤسسات وعلمانيين وغيرهم، يختلفون في ما بينهم على أشياء كثيرة، ولكنهم يتوحدون على أمر واحد، هو عدم قبول تجربة الإخوان في الحكم (طبعاً لا تفترض أن تجربة تركيا هي تجربة إسلامية بقدر ما هي علمانية) والبيئة الاجتماعية والثقافية والتاريخية تختلف بين المجتمع التركي ومختلف الدول الغربية...
6ــ تعاملت الولايات المتحدة هذه المرة عمّا أطنبت به الدول أن الديموقراطية ليست صندوق، بل ثقافة وفلسفة، بادعائهم، والغرب نفسه عاش مخاض عشرات السنين حتى بلغ حد التلازم، وهو مسار ليست أي من دولنا العربية اليوم مهيأة له... بمعزل عن رأينا بالديموقراطية ومدى نجاعة تبنيها في أقطارنا.
7ــ وكأن الولايات المتحدة تغيّب وتدلّس على الشعوب الغربية نفسها، أن أغلب الفطريات والحركات ذات الطابع الإرهابي، التي هددت الغرب وضربته بالعمق هي من نواتج خطاب الإخوان وتنشئتهم ومن تحت منبرهم، أو أقله بتأييدهم وفتاويهم الفقهية والشرعية المعلنة والمضمرة. يبقى نقطتان يمكن المحلل أن يعذر الولايات المتحدة عن عجزها في تقديرهما، الأولى أنّه لم تكن تتوقع الولايات المتحدة صمود سوريا ومحور المقاومة ومن خلفهما، وما تحولها إلى الفتنة المذهبية إلا انعدام السياسة وفعل اللاخيار. والثاني أنّه لم تكن تتوقع الولايات المتحدة ما ستثيره هذه الخطوة على الضفة الأخرى من العالم (روسيا والصين)، فإذا بتحالفها مع الإخوان، يستفز الاتحاد الروسي وتعجل لإيقاظه بإطلاق دينامية خارجية واستباقية لضمان أمنه الاستراتيجي، فضلاً عمّا أتاحته لروسيا والصين من فرصة تقديم نفسيهما كحليف وداعم سياسي، عسكري واقتصادي، بكلام آخر كبديل، أو لنقل خيار ثانٍ للعديد من الدول والقوى المعادية للنموذج الإخواني (نموذج المشير السيسي في مصر).
مجمل هذه الملاحظات يؤكد فشل هذا التحالف وسقوطه كخيار استراتيجي، دون أن يعني مباشرة فضّ الولايات المتحدة لعلاقاتها مع قوة وازنة في المنطقة اسمها الإخوان.
والمعطيات التي بدأت تتبدى تباعاً في غير دولة من منطقتنا، تشير إلى نوع من التعديل والانعطاف التدريجي الأميركي. يبدو أحد تمظهراته بالتوافق الأميركي السعودي لتقديم المملكة كقوة فعل سياسي في المنطقة، بعد فشل فعلها التفجيري في الحرب على سوريا عبر:
إبعاد الأمير بندر بن سلطان عن الملف السوري. وإسناد قرار المعارضة المسلحة في سوريا إلى المملكة السعودية وحصرها بها. وتثبيت النظام السعودي على زعامة الخليج بعد إضعاف دور قطر (الإخواني) وإخراجه تدريجاً من صدارة الواجهة.
وتغطية النظام السعودي للحرب على «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وتقديمها محرقة على مذبح المصالح السياسية.
وإدراج السعودية لجماعة الإخوان المسلمين على لائحة التنظيمات الإرهابية، يتجاوز حدود الصراع السعودي _ القطري في ما يخص «الولاية» على الأنظمة التي بدأت تتشكل في دول «الربيع العربي»، وتفجير الأزمات بوجه حكم أردوغان الإخواني في تركيا من على أرض الولايات المتحدة حيث ينشط فتح الله غولن.
وتأكيد الدور السعودي في لبنان بإعادة تثبيت وتعويم تيار المستقبل إلى واجهة الحكم السياسي بعد التنامي الكبير للتيار الاسلامي على حساب المستقبل في السنتين الأخيرتين. وتغطية للسلوك السعودي العسكري لدعم نظام البحرين بوجه ثورة سلمية عارمة. وإقصاء للإسلاميين والجماعة الإسلامية.
وكل ذلك أبداً ودائماً يجري على حساب الإخوان وبغطاء أميركي معلن أحياناً ومضمر أحايين أخر، أو بأقل تقدير غض نظر أميركي عنها.
يبقى أن نقول إنه مع كل التعديلات والانعطافات الأميركية ولو المرحلية القائمة اليوم... فالحقيقة الصعبة على أميركا «أنه بقدر ما إن الإخوان لا يشكلون خياراً رابحاً للأسباب الآنفة... إلا أنه ولأسباب مشابهة لا يبدو الخيار السعودي هو الآخر خياراً استراتيجياً أفضل. فالمملكة ومن يدور في فلكها لا يمتلكون مقومات المشروع الحضاري وقدرة الفعل والتأثير على المديات البعيدة.
الخلاصة الوحيدة وكيفما قلبنا الأمور ليست إلا «أن الولايات المتحدة تعيش سطحية مفرطة في اقتراباتها لمجتمعات منطقتنا ودولها، وتعاني من اضطراب مقلق في سياستها».
* باحث سياسي