ثمّة فكرة مُتداولة على نطاقٍ واسعٍ، تقول إن الدولة الصفوية هي التي فرضت التشيُّع على الناس في إيران بالقوّة والإكراه. بُغيَتنا في هذه المقالة أن نتفحّص الفكرة بذهنية المؤرّخ الحر، المُلمّ بالمقدار الكافي بمواصفات تلك الفترة الانقلابية من تاريخ إيران.
الإمام علي متوسطاً الحسن والحسين وفي الخلفيّة قنبر وسلمان الفارسي، وحولهم أشعار منسوبة إلى جلال الدين الرومي. لوحة من المرحلة القاجاريّة، بريشة الرسام ميرزا باقر صورتگر (1326 هـ)، محفوظة في «متحف ملك

( 1 )

ثمّة حقيقتان ينبغي الإلمام بهما في مطلع بحثنا:
ــــ الأولى: أن الصفويين الأوائل لم يكونوا شيعةً إماميةً مثلما نفهم نحن التشيُّع الإمامي. بل كانوا حتى الشاه طهماسب الأوّل (930 ـــ 984هـ/1524 ـــ 1576م) من أتباع الطريقة البكتاشية، التي لا تزال مُنتشرة في الأناضول وتركيا وألبانيا وبعض البوسنة. ومن المعلوم أن البكتاشية طريقة صوفية، نبتت في إطار نمط التشيُّع الساذج، الذي كان سائداً في أنحاء آسيا الصغرى والشام (التشيُّع الشامي)، على قاعدة من تقديس أهل البيت (ع ) إلى حدّ الغُلو. وليس لديها أدنى علاقة بالتشيُّع الإمامي الكلامي ــــ الفقهي، الذي ازدهر وتطوّر في قم ونطاقها (الرّي وما وراء النهر)، ثم في بغداد، فالحلّة، فطرابلس، فجبل عامل. ومَن يقرأ ديوان شعر مؤسّس دولتهم الشاه إسماعيل الأوّل بالتركية الآذريّة، الذي يتلخّص فيه بـ(خطايي)، يرى ما نقوله بكامل الجلاء والوضوح.
ــــ الثانية: حقٌّ أنّ الشاه إسماعيل استعمل سيفه، بأن أمر بقتل بعض الفقهاء السُنّة في هراة، منهم شيخ الإسلام أحمد بن يحيى التفتازاني، المعروف بأحمد الحفيد. ولكنّ هذه حالةٌ فريدة لسنا نعرف لها ثانية، لا ضدّ أحدٍ من النخبة، ولا ضدّ جمهور الناس. ليست تُبرّر إطلاقاً الزعمَ السائد القائل إنّ الصفويين نشروا التشيّع في إيران بالقوة والإكراه. ومع أنّنا لا نعرف السبب الذي ألجأ الشاه إلى هذا التدبير العنيف، فإنّنا على شبه اليقين من أنّ شيخ الإسلام لم يترك خياراً آخر للشاه، الذي كان يُدرك بعبقريته السياسية، أنّ مَرماه بتوحيد إيران لا يُمكن أن يتمّ إلا عَبرَ تعطيل عوامل التفتُّت التي نخرت الجسد الإيراني طويلاً. وفي طليعتها الفوارق الأقوامية، بغطائها المذهبي، والتي كانت وسيلة الإقطاعيين (الخوانين) والمُغامرين العسكريين، إلى إشغال الجماهير عن حقوقها المشروعة، بتسعير كل عوامل التفتيت الكامنة، واتخاذ جانب أحدها. وهذه قاعدةٌ من قواعد العقل السياسي الشرقي، لها ما لا يُحصى من أمثال.
( 2 )

علينا الآن أن نتفحّص التوزيع الجغرافي للشيعة في إيران قبل الصفويين، لأنّه الطريق الوحيد لبناء تصوّرٍ أقرب ما يُمكن من حقيقة دورهم في صورة إيران اليوم. بمساعدة المصادر البلدانية والتاريخية، نجِدُ أنّ أكبر تجمُّع سُكّاني شيعي في ذلك الأوان في إيران، يتركّز في الوسط باتجاه الشمال، أي في الحواضر الثلاث التي تضمّها دائرةٌ مركزها قُم، ثم الرّي (طهران اليوم) شمالاً، وكاشان جنوباً. يتّسق هذا التوزيع مع حقيقةٍ تاريخيةٍ ثابتة، هي أن قُمّ قد مُصّرت على أساسٍ شيعي، وكانت ولا تزال مركزاً علميّاً ودينياً منذ إمامة الصادق (ع) (114ــــ 8 14هـ/732 ــــ 765م). وما من ريبٍ في أنّ التشيُّع قد شعّ منها، وأنّ نطاقها البحثي ما لبث أن اتّسع ليُنبت مراكز موازية في الرّي وسمرقند وكَشّ، وغيرها من بلدان ما وراء النهر. ومن الواضح أنّ هذا يدلّ على وجود حاضنةٍ سُكّانية واسعة، بدونها لا يُمكن أن يكون نهوض هذه المراكز مُمكناً. ومنذ أوائل القرن 6هـ/12م، على الأقل، كان أهل كاشان شيعةً إمامية، وقد استقبلت الشاه إسماعيل يوم دخلها فاتحاً بحماسة، وكذلك بلدة فين المجاورة. وكان كلّ أهل ماه آباد المجاورة أيضاً شيعةً إمامية. فإذا تطلّعنا خارج هذه الدائرة، نجد تجمّعات شيعية كبيرة في كل أنحاء إيران تقريباً: قُرب أصفهان قرية شيعية اسمها آوه، ارتبط اسمها بمحاولتين لإقامة سُلطةٍ شيعية. حتى أصفهان نفسها، كان قسمٌ كبيرٌ من أهلها شيعة. ساوه المجاورة كان أهلها شافعية، لكن سكان ريفها كانوا اثني عشرية.
أمّا المناطق الجبلية الشمالية على سواحل بحر قزوين، فقد كان أهل جرجان مشهورين بالتشيّع منذ إمامة الرضا (ع) (183ــــ 202هـ/789 ــــ 817م). وكانت جماعات شيعية كبيرة تعمّر طالقان. وكذلك طبرستان (مازندران)، وخاصّةً في قراها: ساري، إرم، آمل، ثم في شوشتر ورستمدار. إقليم جيلان كان أهله زيدية، وعندما تمكنّت الدولة الصفوية لم يجدوا أدنى صعوبة في إعلان أنفسهم إثني عشرية. يُضافُ إلى ذلك مراكز متفرّقة: فراهان، من رساتيق همذان، وتفريش واردستان ونهاوند ومشكين، وأقلية في قزوين. خراسان، كان الشيعة يتمركزون فيها في نيشابور، التي كانت مركزاً شيعياً مهماً منذ زمان الإمام الرضا (ع)، وفي سبزوار ومشهد. وفي فاتحة الدولة الصفوية، أقدم الخان محمد شيباني الأوزبكي على ذبح الشيعة فيها بوحشية، ما أثار غضب الشاه إسماعيل فحاربه وقتله.
ذلك كلّه فيما يرجع إلى ما نعرفه عن المُكوّن السُّكّاني لإيران قبل الصفويين. ولم يبقَ علينا إلا أن نُضيف أنّ تلك التجمّعات الشيعية لم تكن خامدة، بل أنشأت مراكز علمية عدّة عاملة في الريّ وقم وكاشان وأوه وورّامين وسبزوار. كذلك، علينا أن نذكر الحركات الصوفية التي استقطبت جمهوراً واسعاً، واستقت مادّتها من تصوّف ذي صبغةٍ شيعية. نذكر منها الطريقة النوربخشية، التي حاولت إقامة دولة شيعيةٍ صوفية، كما فعل الصفويون من بعد، وذلك عام 826هـ/ 1423م. لكن حركتهم أُجهضت، واستمرّت النوربخشيّة حركةً صوفيّة، التقت مع مرامي الدولة الصفوية، بحيث إنّ أتباعها لم يجدوا عناءً في إعلان أنهم شيعةٌ إمامية، وبحيث إن الشاه إسماعيل عندما دخل تستر كان يرضى من الناس جواباً حين يسألهم عن مذهبهم «نحن على طريقة السيد نور الله النوربخشي». ونذكر حركة المُشعشعيين في جنوب إيران، التي بدأت غالية وانتهت إمامية مُعتدلة كالصفويين.
علينا أن نتفحّص التوزيع الجغرافي للشيعة في إيران قبل الصفويين لأنّه الطريق الوحيد لبناء تصوّرٍ أقرب ما يُمكن من حقيقة دورهم في صورة إيران اليوم


حصيلة هذا السرد تُنبئ عن تغلغل التشيّع كلامياً وصوفياً في المجتمع الفارسي، قبل الصفويين. ونُضيف الآن، إن التشيُّع كان أملاً تعلّقت به الطبقات الضعيفة من الحِرفيين سكّان المدن، وصغار الملّاك والصنّاع في غيرها، وإن الحركات الثورية الفلّاحية كانت مصبوغةً بالتشيُّع بنحوٍ أو بغيره. وما من شكٍّ في أن هذا الوضع يُفسّر لنا محاولات إقامة أنظمة سياسية ذات صبغةٍ شيعية في إيران قبل الصفويين، بالإضافة إلى الحركة النوربخشيّة التي أشرنا إليها قبل قليل. وأعرف تلك المحاولات اثنتان:
الأُولى منهما تتريّة إيلخانيّة. صاحبها غازان خان محمود (679 ــــ 703هـ/ 1280 ــــ 1303م) أوّل السلاطين الإيلخانيّة في إيران، والذي أعلن تشيّعه يوم اعتلى العرش، وضرب نقوداً ذهباً كبيرة، مُحلّاة بآيات قرآنية وأسماء الأئمة الاثني عشر. وظلّت هذه المحاولة محصورة، حتى جاء إلى الحكم أخوه أُلجايتو محمد خدابنده (703 ــــ 716هـ/ 1303 ــــ 1316م) فأعلن التشيّع مذهباً رسمياً للدولة.
الثانية خراسانية. صاحبها علي بن المؤيّد ملك خراسان (ت: 795هـ/ 1392م)، الذي ضرب السكّة بأسماء الأئمة الاثني عشر، ثم التفت صوب جبل عامل، فبعث صاحبه شمس الدين محمد الآوي برسالةٍ إلى الشهيد الأول يستقدمه، فأبى واعتذر إليه. ومن الغني عن البيان، أن هذين العاهلَين لم يكونا ليُقدما على هاتين الخطوتين الانقلابيّتيَن لولا حاجتهما إليهما سياسياً، بوصفهما وسيلة تواصُل وتماهٍ مع قاعدة شعبية قوية فاعلة بحجمها على الأقل.

( 3 )

ومع ذلك، مع هذا الحضور الشيعي الغالب في مختلف أنحاء إيران، فإنّ كلّ ما بأيدينا يدلّ على أن هذا الحضور الكمّي كان، عشيّة قيام الدولة الصفوية، يفتقر افتقاراً شديداً إلى ما يُكافئه على المستوى الفكري. إنّ التشيّع الذي بلغ قمّة حضوره الفكري في إيران، إبان القرون الثالثة والرابعة والخامسة للهجرة، قد انحدر من بعد انحداراً سريعاً، بسبب دخول العناصر التركية، من سلاجقةٍ وتتر في الصورة السياسية للمنطقة، حيث باتت السُّلطة مقسومةً بين الإقطاعيين والمغامرين العسكريين، وانعزلت الفئات الشعبية، ومنها طبعاً الغالبية الشيعية، إلى قاع المجتمع. وفي هذا السياق، غاب الفقيه العارف المُنتمي إلى الغالبية، غياباً شبه تام، في الوقت الذي ازدهر فيه في الحلّة وجبل عامل. ومن هنا، نعرف سبب لجوء علي بن المؤيّد إلى فقيه جبل عامل البارز في زمانه، مُستنجداً به ليمنح مشروعه السياسي مضموناً فكرياً، الأمر الذي لم يكن ليحصل لو كان في إيران مَن يمكن أن يقوم بالمُهمّة.
ذلك الغياب نقرأه ضمناً في كتاب الفهرست لمُنتجب الدين الرازي، من أعلام القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد، الذي ترجم فيه لـ 544 رجلاً، أكثرهم إيرانيّون. موضع المُلاحظة هنا، أنك لا تجد بينهم إلا قلّةً قليلة ممّن منحهم المؤلف وصف «فقيه»، وأقلّ منهم مَن له كتاب مُصنّف. أما الأكثر فهم بين «صالح» «فاضل» «ديّن» «أديب» «عَدل» «واعظ» «ورع» «قة»، ما يدلُّ على هبوط الاعتبارات التي دعت مؤلّف الكتاب إلى نسْق الشخص في كتابه.
وإن أنسَى فلا أنسى يوم راسلني مدير القسم الإسلامي في متحف برلين برسالة، أرفقها بصورة محراب مسجدٍ محفوظٍ في المتحف أصله من كاشان، من القرن الثامن/ الرابع عشر، رُقم عليه بعض «آياتٍ قرآنية» ركيكة، فتساءل: هل أنّ هذا يدلُّ على أنّ لدى الشيعة قرآناً غير الذي بين يدي المسلمين من غيرهم؟ وفي الجواب قلتُ: بل هذا يدلُّ على جهلٍ مُطبقٍ بالقرآن لدى الراقم، بحيث لا يُحسن آية، بل وجهل مُماثل لدى أهليها كافة، بشهادة أنهم لم يُدركوا المُفارقة في تلك الآيات. فإذا كان هذا هو الشأن في «بلد الإيمان»، فما قولك بغيرها؟!
( 4 )

نخلصُ من مُجمل هذا التوصيف لإيران عشية قيام الدولة الصفوية، بقسمَيه السُكّاني والمعنوي، أنّ الشيعة كانوا الغالبين كميّاً فيها، ولكنّهم على درجةٍ فظيعةٍ من الغُربة والاغتراب عن ذاتهم الثقافية. تلك هي القاعدة التي ينبغي أن نبدأ منها التقييم التاريخاني لدور الدولة الصفوية في توحيد إيران أوّلاً، ثم في استعادة وهجها الفكري ثانياً. هنا، ثمة أُعجوبة لا مثيل لها، يقرأها المؤرّخ العارف، ويحارُ عندها الآخر المُتحيّز أو الفقير البضاعة، فيقول إن التشيّع قد فُرض على الناس فرضاً كُرهاً منهم، ما يُفسّر بزعمه سرعة تحوّل أهل إيران من مذهب إلى غيره. والحقيقة أنّ العمل الذي أدّاه المهاجرون من علماء جبل عامل بكامل الجدارة والكفاية، هو عملٌ تبليغي بكل ما للكلمة من معنى، ولم يكُن عملاً مذهبياً انقلابياً. وعلى كلّ حال، فهم بالتأكيد لم يكونوا بحاجةٍ إلى ذلك، شأن العالم العامل حيث يحلُّ بين مَن يحتاجون إلى المعرفة التي يملكها. وهذا يُفسّر لنا السهولة والتلقائية التي صاحبت ظهور وسيطرة الوجه الشيعي لإيران، كما لا يزال حتى اليوم. وهو الوجه الذي كان خفيّاً من قبل، بسبب سيطرة السياسي الأجنبي وذيله الإقطاعي، وعلى هامش الاثنين الفقيه غير الشيعي. كذلك، فإنه يُفسّر ما هو ثابت ومؤكّد، أن خريطة إيران المذهبية بقيت بعد الصفويين على ما كانت عليه قبلهم.
في هذا السياق، من العمل الدائب برزت نخبة جديدة من الفقهاء والمحدّثين والعلماء والعارفين والفلاسفة، الذين أغنوا المكتبة الإسلامية بمئات المؤلّفات في كل فروع المعرفة، ممّا لا يزال الكثير منها موضع الاستفادة حتى اليوم، الأمر الذي يدلّنا، أيضاً وأيضاً، على حقيقة العمل التبليغي الذي أدّاه الصفويون بمعونة العلماء المهاجرين من جبل عامل.

*مؤرخ لبناني