سألني قبل أيام حسن خلف عن توافر مواد منشورة عن فشل تجربة اليسار اللبناني الثوري. فكرتُ في الموضوع وحفّزني السؤال على المساهمة الجنينيّة في محاولة الإجابة عن السؤال. تجربة اليسار اللبناني والفلسطيني لم تكن واحدة، إذ إن عوامل مختلفة شابت التجربتيْن وأعاقت عملهما، وإن تشابكت التجربتان، خصوصاً خلال سنوات الحرب الأهليّة. وقد بات الحديث عن اليسار الثوري له شهية خاصّة في لبنان، بعد انتشار اسم علي شعيب على جدران بيروت وانتعاش ذاكرة أُريدَ لها أن تُغيّب. قصة علي شعيب، التي تجاوزت تخليد أغنية مارسيل خليفة وقصيدة عبّاس بيضون لها، باتت راهنة (وقد أعاد التذكير بها كتاب عباس الحسيني الأخير عن عمليّة بنك أوف أميركا). علي شعيب ذكّر جيلاً جديداً من اللبنانيين بمحاولات ثوريّة لجيل سبقه، ونشطَ قبل اندلاع الحرب الأهلية. وساد شعار علي شعيب الجدران، ومواقع التواصل، إلى درجة تنبّه إليها الرجعيّون في الإعلام السعودي والقطري، وحذّروا من مغبّة الانجرار (مع أن إعلام النظاميْن المذكوريْن يصطنع التعاطف مع انتفاضة شعب لبنان، لا بل يصرّ على وصفها بالثورة، لأن سلالات الخليج مرجع أكاديمي في شؤون الثورات).لم يكن اليسار اللبناني والفلسطيني الثوري من نهج اليسار التقليدي نفسه. اليسار التقليدي في لبنان تمثّل بالحزب الشيوعي اللبناني، وحليفه منظمّة العمل الشيوعي (يبدو أنّ التناحر والخلافات بين التنظيميْن ذابت بعد اندلاع الحرب، وساعد في التقارب الوئام بين محسن إبراهيم وجورج حاوي، لكن كل محاولات الاندماج، المنطقيّة، لم تفضِ إلى نتيجة، وبقي الحزبان محافظيْن على تمايزهما التنظيمي، حتى بعد انتهاء الحرب). كان اليسار اللبناني الثوري يطرح شعار تغيير النظام اللبناني بالقوة، فيما كان اليسار الفلسطيني يعوّل على الكفاح المسلّح، في أرض فلسطين وفي «كل مكان»، أكثر من فصائل المقاومة الأخرى، كوسيلة وحيدة لتحرير فلسطين. الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، ارتاحا للنمو المطّرد في صفّيهما، وعوّلا على ثمار النضال البرلماني: أي العمل السياسي والنقابي المنظّم، بهدف إيصال ممثّل للحزب إلى المجلس النيابي. وكان الحزب الشيوعي في طريقه لإيصال نائب أو نائبيْن بعد سنوات عديدة، لو لم تندلع الحرب الأهلية (نال نقولا الشاوي ٧٦٠٩ أصوات في انتخابات ١٩٧٢)، هذا لو اضمحلّ تدخّل السلطة يومها ضد مرشحي اليسار (كان كامل الأسعد يوعز إلى أجهزة السلطة لتعطيل الأداء الانتخابي لمنافسيه في الجنوب، لكن بعد الانتخابات الفرعية في النبطية، في عام ١٩٧٤، وهزيمة مرشّح الأسعد وفوز مرشح منافسيه، رفيق شاهين، لم يعد هناك مجال لكبت أصوات الجماهير المُعبّأة ضد الإقطاع).
اليسار اللبناني كان يطرح برنامجاً آخر، بعضه تأثّر (مثل إبراهيم حطيط ومرشد شبّو في «الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية») بـ«حرب عصابات المدن». وكانت الفكرة تعتمد، في أصولها، على الإيمان بقدرة أعمال العنف الثوري في المدن على تعبئة الجماهير في الريف (والمدن) للقيام بثورة شاملة. ونمت في أوروبا، في السبعينيّات، نماذج لمنظّمات آمنت بالفكرة (مثل «بادر ماينهوف» في ألمانيا و«الألوية الحمراء» في إيطاليا و«العمل المباشر» في بلجيكا). لكنّ هذه التنظيمات (التي استفادت من تدريب عسكري وتمويل من المقاومة الفلسطينية، مقابل مساعدات لوجستية مهمّة)، لم تؤثّر في المسار السياسي في تلك البلدان، إلا في تجييش اليمين الفاشي وأجهزة الدولة التي استعملت فزاعة الأمن كي تقضي على تلك التنظيمات. وبالسرعة نفسها التي انطلقت فيها هذه التنظيمات، انهارت وانهار معها مناضلوها تحت وطأة التعذيب. وعانى كلّ هذه التنظيمات من قحط في الموارد، فكانت تعتمد على أعمال «السرقة» حيناً، لكن عندما تزداد المصاريف يأتي رعاة خارجيون فيتطوّعون بالتمويل مقابل خدمات لهم.
التمويل: كل حركات اليسار الثوري تبدأ بضرورة الإصرار على التمويل الذاتي، مخافة التأثير من رعاة خارجيين. وكان وديع حدّاد، للأمانة، من دعاة التمويل الذاتي (معتمداً على أساليب مبتكرة تخالف الأنظمة والقوانين في الدول المعنية). لكن البعض في «الجبهة الشعبية» اعترضَ على ذلك، بحجّة أن الأخلاقية الثورية للتنظيم يجب أن تتعارض مع سرقة المصارف، مثلاً، أو مع تهريب، أو ما شاكل. كانت أخلاقيات رفاق وديع حداد بورجوازية التأثير. لكنّ الأخطر في تلك المرحلة: أنه ما إن يصعد تنظيم للقيام بعملية مسلّحة، حتى يتقدّم إليه متطوّعون من كل حدب وصوب عارضين خدماتهم، وذلك لاستيعاب الظاهرة الجديدة واستخدامها لغايات التنظيم المموّل. عندما اغتال الطالب المفصول من الجامعة الأميركية في بيروت، نجم نجم، عميد كلية الهندسة في الجامعة، استدعاه أبو أياد وأهداه مسدّساً، وعرض عليه العمل لصالح «فتح»، لكنّ نجم لم يكن في هذا الوارد، وكان جلّ ما يريده هو إكمال دراسته. «الحركة الاشتراكية الثورية اللبنانية»، مثلاً، اعتمدت على السطو على المصارف كوسيلة تمويل لها، وذلك من باب الحرص على الاستقلالية. وبعض رفاق شبّو، كما في حالة «الجبهة الشعبيّة»، رأوا في الاعتماد على عمليات غير قانونية (بمفهوم الأخلاقيات البورجوازية السائدة)، عملاً غير أخلاقي. لكن عروض التمويل كانت سرعان ما تأتي، وذلك لأنّ «فتح»، بصورة خاصّة، والاتحاد السوفياتي أيضاً، كانا يخشيان فلتان زمام الأمور في الساحة اللبنانية والفلسطينية، وكانا يخشيان انتشار تنظيمات اليسار المتطرّف. السيطرة والإمساك بزمام الساحات، كانا هم ياسر عرفات الأساسي، لأنّه لم يرد لأحد أن يؤثّر في معادلات موقفه من إسرائيل.
كان الاتحاد السوفياتي يهبّ لتمويل منظّمات يسارية فلسطينية وتسليحها، ليس من أجل دفعها نحو الكفاح المسلّح، بل لدفعها نحو مسلك أقلّ تطرّفاً. والعلاقة بين «الجبهة الشعبيّة» والاتحاد السوفياتي كانت وراء تنصّل اللجنة المركزية للجبهة من «العمليات الخارجية»، في عام ١٩٧١. في الساحة اللبنانية، كانت حركة «فتح» هي التي تطلّ برأسها من أجل رعاية تنظيمات صغيرة، مقدّمة لها الحماية (وهي قدّمت حماية لشبّو) مقابل شروطها. اليسار الثوري الفلسطيني عانى هو الآخر، لأنه كان يجد دائماً عروض رعاية من النظام العراقي والليبي، ومن قبل الاتحاد السوفياتي عبر الـ«كي.جي.بي»، الذي فتح خطوطاً مع وديع حدّاد بعد خروجه عن قرار الجبهة بوقف العمليات الخارجية (هذه وفق رواية قيادة «الجبهة الشعبية» في ذلك الحين، والتي سمعتها من قائد فيها).
اليسار الثوري اللبناني كان يجد رعاية في «الجبهة الشعبيّة»، لكنّ الجبهة كانت هي، أيضاً، تخضع منذ خروج حدّاد لرعاية خارجية، تجلّت أكثر ما تجلّت بعد تشكيل جبهة الرفض في عام ١٩٧٤. إلّا أن رعاية النظام العراقي هي التي عطّلت إمكانية قيام «الجبهة الشعبية» بما يمكن أن يعطّل مسار الحل السلمي التسووي، الذي قامت الجبهة ضده، لأنّ النظام العراقي والليبي لم يكونا ملتزميْن جديّاً بتعطيل الحلّ السلمي، وهذا ما فسّر تنقّل «أبو نضال» بين النظاميْن البعثيّيْن في سوريا والعراق، ووفقاً لمصالحهما الآنية. وكان بعض أجهزة استخبارات دول أوروبا الشرقية، يتدخّل في تسليح بعض تنظيمات اليسار الثوري وتمويلها، كي يتدخّل في شؤونها، ويحدّ من حماستها (الاستخبارات البلغارية أقامت علاقة مع «حزب العمل الاشتراكي العربي ـــ لبنان»).
التشرذم: سادت حالة فظيعة من التشرذم صفوف اليسار المتطرّف. وكانت هذه الحالة ناشئة عن عوامل ذاتية وموضوعية. كانت الخلافات بين قادة التنظيمات اليسارية حادّة وشديدة، لأنّ معظم قادتها خرجوا من رحم التنظيم نفسه (إمّا «حركة القوميّين العرب» أو «الجبهة الشعبية»). لم يستطع قادة هذه التنظيمات التآلف والتنسيق، لأنّ الخلافات بينهم كانت شخصية أحياناً. لم يكن الأمين العام لـ«حزب العمل الاشتراكي العربي ـــ لبنان»، على وفاق مع قادة الأحزاب اليسارية الثورية المتطرّفة، والعكس صحيح (وهذا الرجل، أي هاشم علي محسن، انفصل عن جورج حبش في الثمانينيات، مع أنه يدين بموقعه القيادي لحبش نفسه). وكانت هذه الأحزاب صغيرة، كما كان يمكن أن يكون عملها أفعل، لو أنها توحّدت، لكنّ بعضها خرج عن بعضها الآخر، مثل خروج «الحزب الديموقراطي الشعبي» عن «حزب العمل»، وخروج «رابطة الشغّيلة» عن «حزب العمل» و«الجبهة الشعبية»، إلخ. ولم تكن كل الانشقاقات عفوية، مثل هذه الانشقاقات المذكورة التي كانت بسبب خلافات عقائدية وشخصية (والشخصانية ونزعة التفرّد في القيادة، شظّت في جسم اليسار الثوري كثيراً). انشقاق «الجبهة الشعبية الثورية لتحرير فلسطين»، بقيادة أبو شهاب، كان (نحن نعلم ذلك اليوم) بسيطرة من مخابرات النظام العراقي، وكان وليد قدّورة (الذي ثبتت عمالته لمخابرات الجيش اللبناني، من خلال عضويّته في اللجنة المركزية لـ«الجبهة»، كما أنّ هناك من يجزم إلى اليوم، مثل هيلدا حبش وبسام أبو شريف، أنه كان أيضاً عميلاً إسرائيلياً ـــ لكنّ ماهر اليماني لم يكن يرى ذلك ـــ وهو اليوم متقاعد بعدما هرب من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي وعمل في الصحافة في دولة الإمارات)، مُحرّضاً على انشقاق «الجبهة الثورية»، وإن أحجم عن الانضمام ربما كي يستمرّ في مدّ مُشغّليه بالمعلومات. بعض هذه التنظيمات المنشقّة، لم يكن يضم أحياناً أكثر من دزّينة، وإن كانت بياناته توحي بأنه ينطق باسم آلاف الجماهير.
كان الاتحاد السوفياتي يهبّ لتمويل منظّمات يسارية فلسطينية وتسليحها ليس من أجل دفعها نحو الكفاح المسلّح بل لدفعها نحو مسلك أقلّ تطرّفاً


غياب الخطة: ما هي خطة اليسار الثوري؟ ماذا كانت الخطة التي اعتمدتها فصائل اليسار الثوري اللبناني والفلسطيني؟ مع الرغبة في إضفاء لمسة رومانسية مبرّرة عن تلك المرحلة: لكن لم يكن هناك خطة، موحّدة أو فردية، لفصائل اليسار اللبناني والفلسطيني. لم تكن لجبهة الرفض خطّة، مثلاً، وهي كانت أكثر حالة ثورية واعدة، لأنها أتت بفصائل متباينة العقائد والأهواء والقيادات (وهذه مشكلة في حدّ ذاتها)، كي تُحبط مشروع التسوية التي كان عرفات يمضي بها. هي كانت تطرح ضرورة الكفاح بالعنف الثوري المسلّح، وهذا كان شعار حركة «فتح» أيضاً. لكنّ التنظيمات لم تُعد مشروعاً متكاملاً متماسكاً، إمّا لتحرير فلسطين أو للقضاء على نهج التسوية، مع إخلاص وصدق نوايا وتضحيات الآلاف من المناضلين في كل فصائل المقاومة. لنقارنْ: غزت قوّات أميركية وإسرائيلية لبنان، في عام ١٩٨٢، وكانت قوّتها المُشتركة للحفاظ على نظام أمين الجميّل التابع غير مسبوقة في تاريخ المنطقة. لكنّ مجموعة صغيرة من العقائديّين المتديّنين وضعوا خطة شديدة الطموح والجنون: إذ إنهم قرّروا في عام ١٩٨٢ أن يطردوا القوّات الأميركية والقوّات الإسرائيلية من لبنان. وتسنّى لهؤلاء أن ينجحوا في غضون سنتيْن فقط، في طرد القوات الأميركية، وبالتدريج طردوا قوات العدو الإسرائيلي، ثم أذلّوه على أرض المعركة في حرب تمّوز عندما استسهل، كما كان يستسهل في الماضي، اجتياح لبنان متى يشاء. لكنّ هؤلاء وضعوا خطّة مُحكمة (وعندما يعد حسن نصر الله بخطة لإخراج قوات الاحتلال الأميركي من الشرق الأوسط، فإنّ لوعده مصداقية لم تكن تتوافر لوعود قادة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية). وتنسب جماعة ١٤ آذار، ومعها بعض قادة الحركة الوطنية المتقاعدين، نجاح حزب الله إلى الدعم الإيراني. لكن قادة هذه الحركة الوطنية نفسها، حظوا في زمانهم بدعم سوفياتي وعراقي وليبي وجزائري وبلغاري وألماني شرقي وكوبي ويمني جنوبي وسوري (متقطّع). ماذا فعل توفيق سلطان وأمثاله بكل هذا الدعم؟ نعلم ماذا فعلوا به، ولم يكن تحريراً ولا خطط مواجهة. لكن نحن نتحدّث عن اليسار الثوري لا عن هؤلاء. إلا أنّ اليسار الثوري بحكم استظلاله بمنظمة التحرير أو الحركة الوطنية (لم يكن من فصائل اليسار اللبناني الثوري في إطار الحركة الوطنية إلا «حزب العمل» فقط)، تلقّى دعماً كبيراً أيضاً، لكنه لم يضع خطّة أو مشروع لتحقيق آماله. كان اليسار الثوري يريد تثوير الوضع واستنهاض الجماهير وخوض حرب شعبية، لكنه لم يفعل، أو لم ينجح في ذلك. ويرجع غياب الخطة إلى عوامل مختلفة، منها أنه لم يكن لديهم رؤية مشتركة تتخطّى الرغبة في إحياء الكفاح المسلّح. قامت الفصائل الثورية اليسارية بعمليات عديدة، وفجّرت مكاتب ومصارف وسفارات وشركات طيران، لكن لم يكن ذلك من ضمن خطة أبعد من اللحظة. وكان «حزب العمل الاشتراكي العربي» يأخذ على الحزب الشيوعي و«منظمة العمل» إصلاحيّتهما، لكن من دون تقديم بديل ثوري (باستثناء أسبقيّة هذا الحزب في تقديم مشروع مقاومة مسلّحة ضد احتلال إسرائيل، في عام ١٩٧٨، وإن كانت تجربته وتجربة «جمّول» لا تُقارن من حيث المستوى والفعالية والتأثير والحجم بمقاومة حزب الله). حاول «حزب العمل» تقديم بديليْن ثوريّيْن في حرب السنتيْن: ١) الثغرة في جبهة الشياح ـــ عين الرمّانة، في أواخر ١٩٧٦، وتأميم أملاك كاظم الخليل في صور. لكنّ التجربة الأولى لم تتطوّر، وأصبح الحزب مثل غيره ملتزماً بالحفاظ على خطوط التماس، لأنّ الأوامر العليا من ياسر عرفات ارتأت ذلك، والتزم الجميع. والتجربة الثانية باءت بالفشل، لأنّ التأميم تحوّل إلى تلزيم الأراضي واقتطاع الأرباح لصالح مالية الحزب. وقد أراد تنظيم وديع حدّاد أن يفعِّل العمل العسكري، لأنّه افتقر إلى الدعم الجماهيري، ذلك أنّ انفصال الجبهة عنه حرمه هذا العمق البشري، فأصبحت عمليّة التجنيد أصعب له.
لم يكن لليسار اللبناني الثوري خطة لإسقاط النظام اللبناني. كان على حق في أنّ هذا النظام عصيّ على التغيير، وأنه لا يسقط إلا بالقوّة، ولم يسقط النظام اللبناني إلا بقوة انتفاضة ٦ شباط في عام ١٩٨٤. كذلك، كان اليسار الفلسطيني على حق في أولوية الكفاح المسلّح، وفي عبثيّة الحلول السلمية وضررها، لكنّه لم يقدّم بديلاً عسكريّاً لمشروع حركة «فتح» (العمليات الموسمية غير المرتبطة بخطة تحرير شاملة، كانت سمة كل التنظيمات).
السريّة: تميّزت تجربة حزب الله بطابع السريّة، وإن حاول خصومه التعيير عليه بسبب اكتشاف الحزب لبضعة جواسيس. لكن: الحزب اكتشفهم. تقارن ذلك بالاختراق الكبير الذي يحلّ بالحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة. كان معنا في الجامعة الأميركية مناصر لـ«الجبهة الشعبيّة»، وكان هناك شكوك حوله. ومرة رآه شاب فلسطيني في دورة تدريبية، وصاح: لا يمكن أن أخضع لهذه الدورة مع هذا، لأنني عرفته زميلاً في المدرسة لسنوات وكان كتائبيّاً متعصّباً. لم تأخذ الأحزاب اليسارية السريّة على محمل الجد، وربما كان ذلك نزعة ذكورية من الاعتداد الرجولي، وكان الذي يحرص على السريّة يُقابَل بالسخرية أو الاتهام بالجبن، إذا كان لا يريد تعريض وجهه في مهمّات علنية في الجامعة أو غيرها. وفي معسكر تدريبي في جنوب لبنان، جاء مسؤول حزبي من بيروت وصرخ في الرفاق: مَن فلان (ذاكراً الاسم الكامل، لا الحركي، للرفيق، وكان اسمه مجهولاً من أكثرية الحاضرين). فرفع الرفيق يده. فما كان من المسؤول إلا أن أعلمه، أمام الجميع، أنّ عمّته تسلّم عليه وقد اشتاقت إليه. غياب السريّة عرّض الأحزاب اليسارية للاختراق. تقارن ذلك بتجربة حزب الله، حيث لا يملك العدو صوراً لمن يطاردهم في المقاومة، إلا ما تجود لهم به عناصر في أجهزة الأمن اللبنانية (زاهي البستاني، حمل معه ملفات كاملة من الأمن العام). وحتى وديع حداد الذي يحرص على السريّة، أكثر من غيره، والذي لم تُنشر له صور إلا بعد موته (الوحيد من قادة المقاومة الذي لم تكن له صور منشورة عند اندلاع الحرب، هو أحمد جبريل، إضافة إلى حداد وأبو نضال)، تعرّض للاختراق، من حركة «فتح» على الأقل، وبتوكيل من «أبو جهاد».
ياسر عرفات: يتهمني بعض الأصدقاء بأنني أُضفي لمسة رومانسية على مرحلة ١٩٧٥ ـــ ٧٦ من الحرب الأهلية. وهؤلاء على حق، ولو أنني كنت أتوقّع المعجزات الثورية من استمرار العمليات العسكرية التي أوقفها تدخّل النظام السوري. إنّ قيادة ياسر عرفات وكمال جنبلاط لا تولّد ثورة. كان ياسر عرفات يقف بقوة ضد الحسم العسكري، وكانت قيادات «فتح» العسكرية (مثل أبو صالح وأبو خالد العملة) تنتظر سفر عرفات كي تزيد من الدعم العسكري للقوى الوطنية في الحرب. أمّا كمال جنبلاط، فقد بدأ الحرب بالشكوى من «اليسار المغامر»، ثم تطوّر موقفه (المشوب بنزعة طائفية ضد الموارنة عبّر عنها في كتابه «الوصيّة») نحو الإصرار على الحسم العسكري، والذي أدّى إلى الصراع بينه وبين النظام السوري. لكن هل كان لنصر القوات المشتركة، لو تم، أن يشكّل جمهورية يسارية ثورية بقيادة عرفات وجنبلاط؟ طبعاً لا، إذ إن القيادتيْن كانتا محافظتيْن، وكانتا ستعارضان الاتجاهات الثورية. لكنّ اليسار اللبناني والفلسطيني رضخا لقيادة عرفات ولم يحاولا طرح مشروع بديل من طرح عرفات. نجح هذا الأخير في شراء قيادات فلسطينية في كل التنظيمات الفلسطينية. كان له مندوب، على الأقل، في كل قيادة تنظيم فلسطيني. كان ياسر عبد ربه، مثلاً، نائب الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، لكنّ ولاءه لعرفات كان أقوى من ولائه لقائد تنظيمه، الذي انشقّ عنه بعد أوسلو. عرفات لم يسيطر، أو يؤثّر، على مسار التنظيمات الفلسطينية، فقط من خلال شراء قيادات فيها، بل هو أغدق المال على كل التنظيمات التي أصبحت تتغذى على المال العرفاتي (الذي كان في أكثره خليجي المصدر، وبدوافع معادية للثورة). رضخت التنظيمات، لأنّها كانت منتفعة من خيرات المال الخليجي المتدفّق في حينه. ليبيا وحدها كانت تمنح ما يعادل ١٠٠،٠٠٠ دولار لكل أمين عام تنظيم في الحركة الوطنية اللبنانية. لم يكن القرار في المقاومة والحركة الوطنية مستقلّاً، بل كان مرتهناً للمال الخارجي.
لكن لم تكن كل تنظيمات اليسار الثوري تنعم بهذه الخيرات (كان «حزب العمل» يتلقّى مساعدات من جراء عضويته في الحركة الوطنية، كما كانت الجبهة الشعبية تتلقّى المساعدات من عضويّتها في منظمة التحرير). كان يصل للأحزاب اليسارية الثورية بعضٌ من هذا المال، بطرق غير مباشرة، إذ إن الجبهة الشعبية كانت تساعد بعض هذه التنظيمات. لكن كل هذه الفصائل لم تتعامل مع قيادة عرفات على أنها قيادة معادية للثورة التي تطرحها. أصيب كل هذه التنظيمات بحالة من التراخي الثوري والتكلّس البيروقراطي، وكان انتظار حدوث شيء ما في الجنوب سيّد الموقف، من دون الإعداد الدقيق له. كان عرفات يتوقّع باستمرار اجتياحات إسرائيلية للبنان، من دون أن يكون، هو أو غيره، يعدّ العدّة لمواجهة هذا العدوان. إنّ المواجهة الفذّة لحزب الله في معركة تمّوز، تشكّل إحراجاً فظيعاً لكل فصائل المقاومة في لبنان، لأنّها طرحت بديلاً لما كانت الحالة عليه في عام ١٩٨٢، من تراخ وتكاسل وبرودة.
هذه لمحة عن تجربة سبقت وفشلت. لعلّ الذين يطمحون إلى مشروع تغيير ثوري (ولا أعني هنا هؤلاء الذين يصيحون بشعارات «ثاو، ثوا ثورة»، ويتحالفون مع «القوات» و«الكتائب» ووليد جنبلاط وسعد الحريري)، يتعلّمون من أخطاء الماضي، ولهم اليوم فرصة لإحياء ذكرى علي شعيب، لكن على طريقة علي شعيب.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)