ضربت العولمة (Globalization) أطنابها في تعبير موازٍ للهيمنة الأميركية على العالم. طغى الدولار على مختلف دول ومجتمعات العالم، واستُخدم الإنترنت لتكريس هذه الهيمنة، وإعطائها بعدها الثقافي، حتى قيل إن العالم أصبح قرية كونية. وفي فترات طويلة، استخدم الأميركيون جبروتهم العسكري لمزيد من الهيمنة، الأمر الذي لم تكن بدايته قنبلتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945. أصبحت مجتمعات العالم واقعة تحت رحمة الأميركي، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعمل باتفاقية «برتون وودز ــ 1944»، التي أثمرت وحدانية الدولار كعملة عالمية، وبدء تشغيل الإنترنت أواسط الخمسينات، من قبل الاستخبارات المركزية الأميركية، ليتطور لاحقاً، ويغزو العالم.عبر الإنترنت، معطوفاً على الدولار، أمسك الأميركي برقاب البشرية، فاستخدم الأول لفهم مفاصل حياة المجتمعات حيث عجز المستشرقون. ومكّنت التقنية الجديدة ــ الإنترنت ــ الأميركي من حيازة أكبر منظومة معلومات في التاريخ، ليعرف بواسطتها كيف يخترق المجتمعات، ويكرّس سيطرته. بالتوازي، لم يكن ينقص الأميركي إلا سقوط رادعه على المستوى الاستراتيجي، أي الاتحاد السوفياتي، لكي يفلت من عقاله، ويمارس كل طاقته المتوحّشة لإذلال البشرية وإخضاعها. وقد فعل، ولا يزال.
انتهكت العولمة الحدود الجغرافية التي تكرّست عقب الحرب العالمية الثانية، ورعتها الأمم المتحدة، وباتت خصائص الدول والمجتمعات، في حال انتظار. لكن العولمة لم تفعل كما فعلت والدتها الرأسمالية، التي غيّرت المجتمعات الأوروبية تغييرات جذرية ثورية، قضت على الماضي الإقطاعي ــ الملكي ــ الديني، لتحلّ محلّها قيم الحداثة الناهضة على أكتاف الثورة الصناعية. تعايشت قيم العولمة الأميركية مع التقليد، لكنّ تقدمها التقني وضع المجتمعات التقليدية في الصفوف الخلفية من الاهتمام. إلا أنّ شرائح كثيرة من المجتمعات التقليدية، ظلّت تعتبر نفسها خارج سقف العولمة، وتداعياتها، فظلّت تتعاطى في شؤونها كأنها حالات قائمة بذاتها، تعاني معاناتها منفردة، وتغني على ليلاها وفق المدى القصير الذي استطاعت رؤاها بلوغه. بمعنى آخر، ظلّ كثير من المجتمعات، وقواها الاجتماعية والسياسية، معتبراً نفسه في حالة استقلال وطني.
من هذا المنظور، تشهد الساحة اللبنانية تطورات السابع عشر من تشرين الأول / أكتوبر المنصرم، وما بعد. طغت الكيانية اللبنانية على أبعاد هذا التحرّك، وصوّرت الواقع اللبناني المأزوم كأنه حالة قائمة بذاتها، بدأ تأزّمها «منذ ثلاثين عاماً» بحسب ما عبّر عنه كثيرون، ثمّ تفاقمت التطورات، فامتلأ الكوب، ولم تكن تنقصه إلا نقطة واحدة لكي يصب، فكانت أحداث ١٧ تشرين الأول / أكتوبر كأنها هي هذه النقطة. هكذا صوّر كثيرون الحالة اللبنانية الراهنة.
مضى التحرك الاحتجاجي مطالباً بالتغيير ــ طبعاً المحلي ــ وتركزت شعاراته على فساد السلطة، ونهب الأموال، واسترجاعها، ولحق نظام المصرف ما يستحق من «بهدلة»، لأنه مارس «شواذاته» غير المرتقبة على الناس، وراح البعض يحاصر المصرف المركزي. سبق التأزّم اللبناني ما درج الأميركي على فرضه على دول عديدة من العالم ممّا عُرف بـ«الحصار»، وخصوصاً منها ما كان خارج محورها، أو محاولاً التفلّت من هيمنتها بتعزيز أوضاعه الاقتصادية والعسكرية، مثل الصين، وروسيا، وكوبا، وإيران وسوريا، وفنزويلا، وسواها من مجتمعات أبدت بعض عصية على الهيمنة المعولمة المطلقة.
سبق التأزّم اللبناني ما درج الأميركي على فرضه على دول عديدة من العالم ممّا عُرف بـ«الحصار»


إن الذي يرى بعينين اثنتين، يستطيع تلمّس شكل الهيمنة الشامل، والذي يرى بعين واحدة، ينزوي في رؤيته لأزمته على أنها كيانية خاصة به. وبين الرؤيتين: واحدة بالصراع والمواجهة وصولاً إلى حل قد يكون بعيداً، لأنه شمولي؛ والثانية، تتخبّط في صراعاتها الكيانية كالتحركات الاحتجاجية اللبنانية بكل عناصرها، ومكوّناتها، متراوحة في موقعها، غير قادرة على الوصول إلى حل لأن الواقع اللبناني ليس منفصلاً عن واقع الهيمنة الأميركية المعولمة على العالم، ولا عن تداعياتها الإقليمية.
المشاركون في الاحتجاجات اللبنانية لا يريدون التوقف عند التطورات التي حدثت في المنطقة، وبلغت ذروتها، وخصوصاً في المواجهة العالمية في الساحة السورية، وقد انعكست هذه التطورات على لبنان حالة شدّ وجذب قسرية، كونه جزءاً من حالة شاملة إقليمية لا تستطيع خطوط «سايكس ــ بيكو» منع تفاعلها، وتواصلها، فانزوى المشاركون في تحركاتهم اللبنانية المحلية، كأنّ لبنان «العظيم» ليس دولة صغيرة، ربما الأصغر في العالم، وكأنه يملك مقوّمات صمود أمام العواصف التي كانت تندلع دائماً، فراحوا يلعبون لعبة «الثورة» المحلية التي تبغي قلب السلطة، وإقامة حركة ثورية ربما وصل الوهم عند بعض أصحابها إلى اعتبارها «كومونة» أشبه بكومونة باريس 1871.
لم يتنبه كثيرون إلى لحظة اندلاع التحركات الاحتجاجية، يوم تمّ الاتفاق على توجه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إلى سوريا، وفي طيات ذلك الموقف الانجذاب الحتمي على وقع تداعيات الأحداث السورية، وما وصلت إليه من نتائج بات الجميع يعترف معها بهزيمة المحور الأميركي، وتقدم محور الدول الشرقية وتحالفها. وبذلك، يمكن القول إن الاحتجاجات وقعت منعاً لاستكمال أهداف الزيارة، وهي فتح باب الاتفاق مع المحور المنتصر سورياً، والانضمام إلى المنظومة التي باتت تتشكل وتتظهّر، موضوعياً، وبالتدريج في المنطقة. بعد ذلك، تقع واقعة اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو المهدي المهندس وصحبهما، لتسقط قناع أية محاولة للمناورة، أو اللجوء إلى التسويات. لم يكن أمام قوى المحور الشرقي إلا الرد بقساوة موازية لوحشية وصفاقة الاغتيال، فكانت الصواريخ الإيرانية على عين الأسد خير دليل على بدء انقلاب موازين القوى، ذلك أنها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، التي تمارس فيها دولة باسمها الرسمي والعلني عملية دكّ لمعقل من معاقل الولايات المتحدة الأميركية، لتعلن مبادرة غير مسبوقة بطرد هذه الأخيرة من العراق، والمنطقة.
وبالنسبة إلى لبنان، سيدرك عاجلاً أم آجلاً أنّ الحل لمشكلته، هو بالتعاون والتكامل مع الدول المجاورة في المحور الشرقي، والمشاركة في تشكّل منظومة الدول الساعية للاستقلال عن العولمة، ليكون جزءاً منها، فيقطف، على غرارها، ثمرة استقلاله الوطني، وكلّما تأخّر زادت خسارته، ودفع المواطنون اللبنانيون المزيد من الأثمان، وهدر الطاقة، وتفويت الوقت، والفرص.

*كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية