«لماذا تدافع عمّن سجنك لخمس سنوات؟». كان ذلك سؤالٌ طارده عبر السنين والعقود، مستغرباً دفاعه، بحماسة بالغة، في أي محفل، وفي كل وقت، عن جمال عبد الناصر. في تصريحاته، كما في أعماله الروائية، لم يتراجع يوماً، ولا غيّر أفكاره بيوم آخر، لكن لم يُتَح له أن يعبّر عن كامل وجهات نظره في الرجل وعصره، كما فعل في روايته الجديدة «1970». الرواية أقرب إلى مناجاة طويلة مع رجل رحل قبل نصف قرن، يخاطبه كأنه يسمع، يراجع معه مواطِن الخلل في تجربته التي أفضت إلى الانقضاض عليها، ينقده بقسوة أحياناً ويعاتبه أحياناً، ولا يخفي محبّته وتماهيه مع عذابه الإنساني في مرضه، الذي لم يتح له فرصة التقاط أنفاس تحت وطأة تدافع الحوادث والأزمات.شأن أغلب روايات صنع الله إبراهيم، فهو يعتني بالتسجيل، كأنه يرسم بالأخبار والوقائع، يوماً بيوم، صورة تلك السنة، أزماتها وتحدياتها والأحوال الثقافية والفنية فيها، تكاليف المعيشة والإعلانات المنشورة، حرب الاستنزاف وشهدائها، المقاومة الفلسطينية والانقضاض عليها في «أيلول الأسود». العمل الروائي يكتسب قيمته من فنيّته، وما ينطوي عليه من فلسفة حياة، ليس هو موضوعاً في التحليل السياسي ولا تأريخاً لمرحلة، غير أن التاريخ بصراعاته وتناقضاته مادة ثرية للدراما.
عندما أُدخل السجن في الثانية والعشرين من عمره، كان يدرس القانون في كلية الحقوق، ويعمل موظفاً في مكتب ترجمة حتى يواصل تعليمه. رأى بعينيه الوقائع المشينة لمقتل المفكر اليساري شهدي عطية الشافعي، تحت الضرب المبرح في معتقل «أبو زعبل»، يوم ١٧ حزيران / يونيو ١٩٦٠. لأسباب تتعلّق بضعف بنيته الجسدية، جرت تنحيته على جنب حتى لا تزهق روحه من أول ضربة. رفض الإدلاء بأقواله أمام سلطات الأمن خشية على حياته، وتحدث بما رأى أمام النيابة العامة بشجاعة. نصوص التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة واطلعت عليها، تروي القصة بأدق تفاصيلها، حيث جرى ضرب شهدي بين صفّين من الضباط والجنود، بالتناوب عليه، حتى فاضت روحه أمام نحو ثلاثين من رفاقه، الذين تلقّوا بدورهم ضرباً قاسياً.
استقرّت التجربة في وجدان صنع الله إبراهيم بكل آلامها، غير أنها لم تمنعه من أن يرى عمق التحوّلات في مجتمعه ولا تناقضات المشروع مع نظامه. وعند استعادته مع عبد الناصر، في روايته، ما حدث داخل المعتقلات من حوارات وتفاعلات، أجاب عن السؤال الذي يستغرب دفاعه عمّن سجنه:
«ما قمت به من إجراءات تجاوزت ما كانوا يطالبون به، وفاقت في أحيان كثيرة أقصى أحلامهم، بل ولم تكن قد خطرت لهم ببال، من أول تأميم الشركات الكبرى وإشراك العمّال في إدارتها، إلى تخفيض إيجارات المساكن ومنع الفصل التعسّفي للعمّال، فضلاً عن تصدّيك بصلابة للأطماع الاستعمارية والمخططات الرجعية، ما دعم اتجاه بعضهم (حدتو ــ بالتحديد)، إلى اعتبارك من الوافدين الجدد إلى معسكر الاشتراكية المتنامي». شيء من المناجاة المماثلة سبقه إليها يوسف إدريس، في قصته القصيرة، «الرحلة»، التي نُشرت في صحيفة «الأهرام»، قبل وفاة عبد الناصر بثلاثة أشهر، كأنه يقرأ في كتاب مفتوح متوقّعاً قرب رحيله. «وداعاً يا سيدي، يا ذا الأنف الطويل، وداعاً». «لماذا كنّا نختلف؟ لماذا كنت تصرّ وتلحّ على أن أتنازل عن رأيي وأقبل رأيك؟ لماذا كنت دائماً أتمرّد؟ لماذا كرهتك في أحيان؟ لماذا تمنيت في لحظات أن تموت لأتحرّر؟ مستحيل أن أكون نفس الشخص الآن الذي يدرك أنه حر، الحرية الكاملة بوجودك معه، إلى جواره، موافقاً على كل ما يفعل». «تصور، يريدونك أنت الحي جثة يدفنونها... مستحيل، يقتلونني قبل أن يأخذوك، ففي أخذك موتي، في اختفائك نهايتي، وأنا أكره النهاية كما تعلم... أكرهها أكرهها».
إنه إلهام الأدب وروح التراجيديا، التي تتوقع شيئاً ما غامضاً يحدث فجأة والتوحّد مع بطله. بالتكوين السياسي، لم يكن يوسف إدريس ناصرياً، تماماً مثل صنع الله إبراهيم. وبالتجربة الإنسانية، فقد عارضه ودخل سجونه، قبل أن يعاود النظر في تجربته ويدافع عنها، وهو ما حدث مع صنع الله إبراهيم الأحدث جيلاً.
باعتراف إدريس، في قصته القصيرة، فقد كان يتمنّى أن يموت عبد الناصر حتى يتحرّر ويجاهر بأنه كان يكرهه، فإذا به قرب ما استشعر أنها النهاية يتوحّد معه، ويعلن استعداده للقتال حتى لا يصلوا إليه. الموقف ذاته تبنّاه أدباء كثيرون، انتسبوا بدرجة أو بأخرى إلى اليسار، مثل الشعراء صلاح عبد الصبور، وفؤاد حداد، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، الذين أدخلوا السجون لفترات من حياتهم.
بأي نظر موضوعي، فإنّ الفارق بين الكراهية المقيتة والمحبة الغامرة هو حجم الإنجاز الاجتماعي، الذي تحقّق بين عامي ١٩٥٤ و١٩٧٠، وحجم ما حلّق في الأفق العام من آمال وأحلام لامست عمق اعتقاد جيل الأربعينيات الذي ينتسب إليه إدريس. على الطريق ذاته، مضى صنع الله إبراهيم، ابن جيل الستينيات، في الدفاع عن عبد الناصر، من دون أن ينسب إليه مرة واحدة أي تعبير يُشتمّ منه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أيّ كراهية.
كانت أزمة مارس 1954 ذروة الصدام بين رجل يوليو القوي وتنظيم «حدتو»، الذي انتسب إليه صنع الله مطلع شبابه. بعدها راجع أغلب كوادره مواقفهم، وتسامى أغلبهم عن مرارة تجربة السجن، والتحقوا بتجربة «يوليو»، ودافعوا عنها بعد غروبها. لم يجرِ الصدام بين «يوليو» و«حدتو»، في فراغ سياسي، ولا تلخّصت أسبابه في «أزمة مارس» وسؤالها عن الطريق الذي يجب أن تنتهجه مصر: الديموقراطية أم الثورة؟ عودة القوى القديمة أم المضيّ قدماً في تغيير المعادلات الاجتماعية والاستراتيجية؟ كانت هناك أزمات أخرى استدعت الصدام، بينها الموقف من القضية الفلسطينية: هل هي قضية وجود تخصّ العرب جميعهم ويرتبط بها المصير العربي، أم أنه يمكن حلّها بوحدة الطبقة العاملة في فلسطين المحتلة بين العمال اليهود والعرب؟ خضعت تلك النظرة لتأثير اليهود المصريين، الذين ساعدوا في تأسيس التنظيمات الشيوعية، وتصدّروا مراكزها القيادية، كما لنفوذ الاتحاد السوفياتي عليها. جرت صدامات وصراعات وانشقاقات داخل التنظيمات الشيوعية حول هذه النقطة بالذات. وفي نهاية المطاف، حُسمت التوجهات لصالح الرؤية التي تبنّتها «يوليو» بالانحياز إلى عروبة فلسطين، وحق شعبها في التحرّر الوطني.
جرى استدعاء الصدام مرات ثالثة ورابعة، على خلفية الموقف من الوحدة السورية ــ المصرية، التي ناهضها الحزب الشيوعي السوري، والصراع بين القوميين العرب والشيوعيين على السلطة في العراق، وقد كان دموياً. وباختلاف المواقع والمواقف، تصاعدت المواجهات وجرت اعتقالات في مصر.
ومع بدء التحوّل الاشتراكي، اختلفت البيئة العامّة، فحلّت الأحزاب الشيوعية نفسها، واندمج أفضل مفكريها وكوادرها في بنية «التنظيم الطليعي»، وهو جهاز سري أنشئ داخل الاتحاد الاشتراكي بهدف تطويره وفرز عضويته. لم يتسنّ لذلك الهدف أن يتحقق بالصورة التي راهن عليها عبد الناصر. فكأي حزب سلطة، مفتوح أو طليعي، إنه مطمع لكل أصحاب المصالح.
في المناجاة مع عبد الناصر، تبنّى صنع الله إبراهيم رؤية «حدتو» مع شيء من المراجعة، انتقد وعاتب، لكنّه في آخر جملة من روايته لخّص قسوة الدراما في تجربته، وعمّق أمله في المستقبل: «خذلت نفسك وخذلتنا... ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها... إلى حين!».

*كاتب وصحافي مصري