بتاريخ الرابع عشر من كانون الثاني / ديسمبر عام 2006، أي قبل سبعة أشهر تقريباً من حرب تموز، وقبل سنتين من حادثة السابع من أيار، قال وليد جنبلاط : «نذكِّر الذين يملكون السلاح ولا يملكون سوى السلاح والغدر والسيارات المفخّخة والمزايدة والولاء لغير الوطن، أن جمهور 14 آذار الذي انطلق من الجبل وبيروت والبقاع والشمال والجنوب، أقوى بكثير من هذه الطغمة». آنذاك، كان حزب الله خارج الحكومة مشغولاً ببناء استحكامات قوة دفاعية على الحدود الجنوبية، ولم يكن قد أطلق خطاب مكافحة الفساد ولا استرداد الأموال المنهوبة. لفهم ما جرى ويجري في لبنان، من المفيد الإطلالة على بعض الأدبيات الاجتماعية والتاريخية التي تدرس حالات مشابهة. يناسبنا الآن في هذه الظروف، ما يعتمده المحلّلون الاجتماعيون، في ما يخص أزمات المجتمعات الحديثة. مفهوم «صناعة الخوف المجتمعي»، يقوم على دراسة تجارب لا تُحصى، قامت خلالها النخب السياسية بإنتاج وهندسة وتنسيق نشر الذعر والهلع والخوف المجتمعي. تقوم النُّخب الرأسمالية والنافذة بتنظيم حملات واعية، لتوليد واستمرار انتشار القلق لدى الجمهور، وذلك تجاه قضية لا تسبب ضرراً فعلياً للمجتمع. يعتبر الباحثان غودي وبني هودا، أن هدف هذه الحملة هو تحويل الانتباه بعيداً عن المشاكل الحقيقية في المجتمع، وكذلك عن الحلول التي تهدّد أو تقوّض مصالح النخبة. يشترط المحلّلون الاجتماعيون أن تمتلك هذه النخب قوة هائلة، فتُهيمن على وسائل الإعلام، تحدّد القوانين التي تضعها وتشترعها الهيئات التشريعية، تسيطر على آلية إنفاذ القانون، وتؤثر بعمق في الرأي العام، وتتحكّم بمعظم الموارد التي تعتمد عليها مجموعات العمل والحركات الاجتماعية، وتتحكم كذلك بالقضايا التي تتناولها هذه المجموعات والحركات.

(هيثم الموسوي)

يستعرض الباحث جايمس هاودون تجربة تطبيقية قامت فيها النخبة باستخدام الخوف المجتمعي، فيذكر خطابات رونالد ريغان عام 1986 حول «الحرب على المخدّرات»، والتي استطاعت إقناع ثلثَي الأميركيين أنّ مشكلتهم الرئيسية والأولى هي المخدرات. ويشير هاودون إلى أن مرحلة الثمانينيات كانت مرحلة تدني انتشار المخدرات في أميركا، لكن ريغان أراد حرف اهتمام الأميركيين عن الأزمة الاقتصادية، آنذاك. تجربة أخرى في بريطانيا درسها الباحث ستيوارت هال، وتتعلّق بحوادث السلب في الشوارع، حيث تحوّلت في السبعينات إلى مصدر للخوف المجتمعي، رغم تدنّي نسبة الحوادث في تلك المرحلة، وقد كان الهدف إغراق وإغفال الجمهور عن أزمة الركود الكبير التي هزّت بريطانيا في تلك السنوات.
الإشكالية التي نريد معالجتها هنا باختصار، هي: هل اصطنعت النخبة المالية اللبنانية قضية الخوف من سلاح المقاومة للتغطية على السرقة والنهب؟ فما أشرنا إليه من تحليلات سوسيولوجية وتجارب تاريخية، يطرح هذا السؤال علينا، ويدفعنا للبحث عن الأدلة التي تبيّن الجواب الصحيح على الإشكالية.
تساؤلات وإشكالات عدّة ينبغي علينا الإجابة عليها وتفكيكها، قبل الوصول إلى نتيجة مقبولة ومقنعة. السؤال الأول الذي يطرح نفسه: ألم تكن تلك النخبة في أدائها المعادي للمقاومة مستجيبة لقرار خارجي تمليه قوى دولية تمسك بعناصر قوة واستمرار تلك النخبة وأحزابها؟ أم أنها كانت تعمل على صناعة الخوف المجتمعي لصالحها الخاص، وليتيسّر لها القيام بأكبر عملية نهب ممكنة؟ السؤال الثاني هو: هل كانت النخبة فعلاً تريد نزع السلاح؟ هل كان نزع السلاح ممكناً؟ وهل كان تعاون بعض شخصياتها مع إسرائيل خلال حرب تموز، والتكفيريين خلال حرب سوريا، بفعل قرار ذاتي، أم كان ذلك تعاوناً مع حلفاء الخارج في جبهة واحدة، من دون الانخراط في مواجهة؟
في البداية، لم يكن ثمّة سبب لاعتبار أن الحزب يهدد امتدادهم ونفوذهم، لأنه لم يدخل إلى الدولة بالأساس، ولم يكن حتى يحضّر نفسه لذلك، لا داخلياً ولا إعلامياً، ولم يتعرّض لمنسوب السرقة الجاري بانتظام، وحتى عندما دخل إلى الحكومة عام 2005، فقد كان حاضراً لحماية أمن لبنان ليس إلا، وظلّ بعيداً عن المستنقع. لكن لاحقاً، عندما أراد الحزب التدخل في مسألة الفساد والأموال المنهوبة، يمكن القول إن هذه النخب منذ سنتين، أي عندما ظهر خطاب حزب الله حول مكافحة الفساد، أصبحت تشعر بأنّ ثمة تهديداً طارئاً على حصصها ونهبها، وهذا ما يطرح فرضية أن للهجوم على الحزب وسلاحه سببين، الأول إلهاء جمهورهم عن النهب، والثاني منع الحزب من الدخول إلى ملف الفساد.
راجت في السنين الماضية، التحليلات التي تقول بعدم قدرة الأحزاب المدعومة والتابعة أميركياً في لبنان، على خوض مواجهة مع المقاومة، كانت تلك رسائل إلى الخارج والداخل أيضاً، فالمحرّك الدولي كان يريد منهم مواجهة الحزب، إلا أنه كان يعرف محدوديتهم وعدم قدرتهم على ذلك، وهم كانوا يعرفون أنهم عاجزون عن القيام بالمهمة، لكنهم استمروا في العمل، لنيل رضا المحرك الخارجي، وليستفيدوا من القضية المصطنعة في صناعة الخوف المجتمعي.
قبل خطاب الانتخابات النيابية الأخيرة الذي شرّع الباب أمام انخراط حزب الله في الصراع السياسي الداخلي، وفتح ملفات الفساد، كانت هناك عملياً مساكنة مع المقاومة، فهم يشعرون بأن لا ضرورة لمواجهتها، ولذلك لم يندفعوا نحو تحضير البنية التحتية الحقيقية لمواجهة مماثلة، فهم كانوا ينفقون المال على مكاسبهم الخاصة، ويدركون أن ليس ثمة خطر وجودي يهددهم ولا يمنعهم من السيطرة على الدولة، فهم ينهبون كل ما فيها، ويسيطرون على مفاصلها. صحيح أن الحرب الإعلامية مؤثرة، لكنها بقيت من دون استثمار حقيقي ومن دون فعل واقعي في المواجهة، وتمّ استخدامها بشكل كبير في صناعة الخوف المجتمعي، وتمرير عمليات السرقة.
الأميركي من جهته، لم يعتمد عليهم فهو يدرك أنهم غير مستعدين، ولا يريدون بذل موارد حقيقية في مواجهة غير ضرورية بالنسبة إليهم، وغير منتجة كذلك، ولذلك كان الأميركي يصبّ تمويله الكبير في المجتمع المدني. لقد درست قوى 14 آذار الواقع الميداني، وتبيّن لها أن المعركة خاسرة، لكنها وظّفتها في تثبيت مشروعها الرأسمالي والاستمرار في مراكمة المال العام.
تبقى أمامنا قضية السابع من أيار عام 2008، حين تطرفت جماعة 14 آذار، لتستفيد من تداعيات حرب تموز، واستشهاد القائد العسكري للمقاومة الحاج عماد مغنية، وتنفذ مطلباً أميركياً ضرورياً يقضي بإضعاف البنية العسكرية للمقاومة، من خلال استهداف شبكة الاتصالات. لكن كان من الواضح أنها فوجئت برد فعل الحزب، ولم تكن تحسب أنها ستدخل معه في مواجهة، وكون البنية التحتية لقوى 14 آذار غير حقيقية وغير جاهزة، فقد انهارت بسرعة، فليس هناك استثمار حقيقي في بنية المواجهة مع الحزب.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، والعقول المركبة، لقد أوجدت قوى 14 آذار، الحريرية السياسية ومتعلّقاتها، كقضية بديلة عن الفساد والإفقار، لإشغال الرأي العام. وليُتاح لها أن تنهب بهدوء، خلقت وضخّمت عدواً خارجياً حتى تنسى جماهيرها السرقات الجارية ليلَ نهارَ.
صحيح أن القوى التي تميل مع الرياح الأميركية، ترى في تعاظم قوة حزب الله ونجاحاته انكساراً في التوازن الداخلي، لكنها ترى كذلك مدى تحفّظ الحزب عن تصريف تلك القدرة في الداخل، فلم يقتحم المؤسسات بالمطالبة بحصص تساوي وزنه المحلّي أو الإقليمي، ولم يذهب نحو مواجهة لتعديل التوازنات بما يكافئ التضخّم الديموغرافي الشيعي، وقد تعرّض لاختبارات قاسية، سقط له فيها شهداء أبرياء في الشارع، من دون أن يقوم بردة فعل متناسبة.
بنظر تلك القوى، فإن إنجازات المقاومة المفاجئة وغير المتوقعة، منذ عام 1985 وحتى عام 2018، تشكّل مادة قابلة للاستخدام الداخلي المؤثّر، وبدلاً من أن توظّفها المقاومة في السياسة وتنقل كفاءتها ومصداقيتها من الجبهة العسكرية إلى بناء الدولة، كما يفترض بكل مقاومة منتصرة، فقد قام خصومها باستثمار انتصاراتها لإنتاج القضية المفتعلة، وباحتراف يمنع التسبب بمواجهة، اعتماداً على حرص المقاومة، المعلن والمثبت في الواقع، على السلم الأهلي وعدم الاقتتال.
السؤال الذي يترتب على كل ما تقدم هو: ما الذي يحصل الآن؟ هل تسبّبت 17 تشرين بتوقف عملية إنتاج الخوف من المقاومة؟ ولماذا لا نسمع بكثافة تلك المواقف المعادية للمقاومة التي نعرفها؟ لا شك في أننا في مرحلة انتقالية ومفصلية، يفترض أن تغيّر التوازنات الداخلية وتحدث إعادة ترتيب في الأولويات، ولو مؤقتاً. الجهد سيتوجه نحو استثمار الظرف الجديد والتكيّف مع المتطلبات الخارجية، الأميركية تحديداً، التي أملت شكل الصراع وطبيعة الأدوات والوسائل والطرق.
هناك عدة متغيرات أساسية فرضت تأجيل المعركة السياسية المباشرة تجاه المقاومة، فسلكت المواجهة طريقاً ملتوياً ومنسقاً ضمن مراحل ومستويات، ما أدى إلى تغييب الهجوم العلني الواضح. أولاً، لقد دخل الحزب في مرحلة المطالبة بالأموال المنهوبة بقوة، ما أعطى دعماً نفسياً لجمهوره وكثير من اللبنانيين، فهو القوّة الأكبر في لبنان التي تعلن أننا على شفا الانهيار بصوت عالٍ وواضح. ثانياً، لقد أصبح الفساد هو القضية ذات الأولوية بعد التردّي والتدهور، إذ لم يبقَ من المال العام شيء لكي ينهبوه، وأصبحت الحاجة ملحّة إلى الحصول على دعم خارجي. إذن، وصلت عملية إنتاج الخوف المجتمعي من سلاح حزب الله إلى نهاية فاشلة بعد شحّ المال، وبدء الأزمات المعيشية الخانقة الناتجة عن هذا الشحّ، وهذا ما جعل الفاسدين في مواجهة الشارع، ولم يعد ممكناً إسكات الجائعين عبر خلق القضايا والمطالب الوهمية.
تقاطع هذا التعقيد الذي واجهته 14 آذار، مع الرغبة الأميركية بإخراج وزراء حزب الله من الحكومة، والتي عبّر عنها وزير الخارجية مايك بومبيو خلال زيارته لبنان في آذار / مارس الماضي. وجدت هذه الرغبة الأميركية عند الآذاريين دافعاً إضافياً لإخراج الحزب من الحكومة. فحكومة تكنوقراط يرأسها الحريري أو نواف سلام وأمثالهما، ستعني أن النهب سيجري بسلاسة مع وصول المال الدولي، ولن يكون هناك من يعكر صفو السارقين. إخراج حزب الله والتيار الوطني سيسهّل لهم القيام بما يمليه عليهم نمطهم الرأسمالي تجاه المال العام، واحتيازه بكل ما أمكن من طرق ووسائل، لكن بصمت.
وصلت عملية إنتاج الخوف المجتمعي من سلاح حزب الله إلى نهاية فاشلة بعد شحّ المال وبدء الأزمات المعيشية الخانقة الناتجة عن هذا الشح


في الفترة التي سبقت الانتخابات، لم يكن حزب الله قد دخل حلبة الصراع الحقيقي، كان مشغولاً بسوريا، أما الآن وقد بدأت معركة مكافحة الفساد، ويتلقّى الحزب ضغوطاً كبيرة من شارعه وشوارع أخرى، تطالبه بالتدخل وتوظيف مصداقيته وقدرته للتخلص من الفساد. فحضور الحزب في الحكومة سيشكل عائقاً كبيراً، وخصوصاً أن المال الآتي يدخل طازجاً إلى ماكينة النهب والاستيلاء، وهو ليس سندات خزينة، أو معاملات بنكية بين البنك المركزي والبنوك الشريكة. هو مال يأتي من الخارج، وكل العيون تراقب حركته، فربما يحتاج سعد الحريري إلى مجلس وزراء موالٍ وتابع له، لكي يستطيع تحويل الوزارات إلى مزاريب تصب في بيت الوسط.
جاء بومبيو وحدّد لهم الالتزامات التي ينبغي عليهم تأديتها، وتم رسم الطريق الدقيق لهذه المواجهة المعقدة: الفاسدون سيشاركون في المعركة ضد الفساد، ليكون الحل بالحياد والتكنوقراط، فيأتي المال الدولي الذي يستخدم جزء منه لتخفيف الأزمة، وكما حصل طوال العقود الثلاثة الماضية، يذهب أغلب المال إلى الجيوب الناهبة.
خلال هذه العملية الدقيقة والحساسة، لن يكون حزب الله في حالة راحة تخوّله المشاركة في الاحتجاجات ضد الفاسدين. فإن شارك ستستفيد قوى 14 آذار من ذلك في استنفار واستدراج جمهورها بشعارات طائفية، ونذهب إلى صراع سياسي، وتخرج مفردات مكافحة الفساد من التداول كلياً. وإن قرر عدم المشاركة إلى حين الوقت المناسب، فستكون التهمة جاهزة بانتظاره: سلاح المقاومة أداة لحماية الفساد.

* باحث لبناني