إذا نجح تأليف الحكومة في المدى المنظور وغير المنظور، يمكن المراهنة على شراء بعض الوقت لتأجيل الانفجار الاجتماعي وانهيار الدولة، ولا يُصلح العطار ما أفسده الدهر. لكن ليس من المتوقّع أن تتجاوز الحكومة أبعد من عقبات التأليف، لتلبية شروط «المجتمع الدولي»، وهي جرعة تخدير مؤقتة في سيولة تؤدي إلى زيادة الشيء من الشيء نفسه، الذي أدّى إلى انهيار الدولة منذ انطلاق السياسة الحريرية قبل عقود طويلة. فالذهاب إلى حكومة «اختصاص»، يقع تحت وصاية المؤسّسات المالية الدولية والدول المانحة على لبنان، والتي تطمع بدورها بوصاية سياسية في إطار استراتيجياتها الدولية والإقليمية للصراع في المنطقة. ولعلّ أحزاب سمير جعجع ووليد جنبلاط و«الكتائب»، هي الأكثر اندفاعاً إلى هذه الوصاية الاقتصادية والسياسية استكمالاً لمسار «ثورة الاستقلال» ــ إلى جانب تيار المستقبل ــ والتي كانت قد انقطعت نتيجة هزيمة المشروع الدولي ــ الإقليمي لإسقاط سوريا، وتصفية المقاومة في لبنان.
(مروان طحطح)

في المقابل، يعوّل التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل، على تمرير أزمة السيولة المالية بأقل خسائر سياسية ممكنة، أملاً بتأجيل انفجار الأزمة المالية والأزمة الاجتماعية في الشارع، والتي تهدّد بفوضى أمنية عارمة وبمخاطر سياسية متدحرجة، إلى ما لا تُحمد عقباه. فالتيار الوطني الحر، الذي بنى صرحه السياسي على قاعدة الدعوة إلى «الإصلاح والتغيير»، لا يختلف مع الحريرية في السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية، وفي التبعية الاقتصادية إلى وصايا المؤسّسات المالية والدول المانحة. بل لعلّه أكثر اقتناعاً من تيار المستقبل بأن هذا الاقتصاد ــ الاجتماعي، هو قمّة ما يصبو إليه بلد كلبنان لتحقيق أوهام الازدهار والاستقرار الاجتماعي «العادل»، إذا جرى حسن إدارته «بشفافية وحوكمة رشيدة»، على ما تقول وصايا المؤسّسات الدولية والدول المانحة، وكما يعبّر بمهارة تلميذها النجيب فؤاد السنيورة، وغيره من تلاميذ خبراء النيوليبرالية ذوي الاختصاص بـ«العلم الاقتصادي». لكن في السياسة العامة، يتميّز التيار الوطني الحر عن أحزاب الحريري وجعجع وجنبلاط، بالاتّجاه إلى الحدّ من الوصاية السياسية الغربية في المسألة الوطنية، سعياً منه لحفظ الموقع المسيحي في لبنان والشرق، بالاستناد إلى التحالف مع المقاومة في خضم أنواء البربرية التكفيرية التي ضربت المنطقة، وسقوط المراهنة على الدول الغربية لحماية حلفائها. ولعلّ هذا الهاجس أفقد التيار صدقية «التغيير والإصلاح» المزعوم، بعد مشاركته في الحكم وتبوّئه رئاسة الجمهورية، إذ انخرط بقوّة في لعبة محاصصة غنائم السلطة بدعوى استعادة الحقوق المسيحية، وفق الآليات نفسها التي تؤدّي إلى انهيار الدولة، بحسب ما يُعرف بالميثاقية وبدعة الديموقراطية التوافقية، وغيرها من مسميات محاصصة السلطة في سيطرتها على الدولة.

تكامل المقاومة الوطنية والمقاومة الاقتصادية ــ الاجتماعية
على خلاف التيار الوطني الحر، يقرأ حزب الله المسألة الوطنية بمقاربة من العام الدولي ــ الإقليمي، إلى الخاص المحلّي في لبنان، أبعد من الزاوية الضيقة التي تحجب الرؤى. فهذه المقاربة الواقعية، هي التي سلّحت الحزب باستراتيجية مقاومة لمواجهة السيطرة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي على مستوى الاستراتيجيات الحربية والأمنية والسياسية. لكن الحزب، ولأسباب عامة تتخطاه وتتخطى محور المقاومة والمعارضات الوطنية، يقع ضحية إشاعة خبراء النموذج الأميركي المعولَم، من كلّ حدب وصوب، بأن اقتصاده هو علم مطلق من دون صلة باستراتيجيات سيطرة الدول الغربية ومؤسساتها المالية على عصب الحياة والكرامة والسيادة. لكن الأهم في هذا «العلم الاقتصادي»، هو استراتيجية حرب صلبة ضد الشعوب والدول المناوئة للسيطرة والاستغلال، وضد حركات المقاومة لإخضاعها وتطويعها. ولم يتنامَ إلى مسامع الحزب ومداركه، من مقاومات أميركا اللاتينية وحركات مناهضة النيوليبرالية في أوروبا وشرقي آسيا، مقاومة اجتماعية لإنتاج بدائل اقتصادية تعبّر عن تكامل المقاومة الوطنية والمقاومة الاقتصادية ــ الاجتماعية على مستوى تكامل استراتيجيات المقاومة في مواجهة تكامل استراتيجيات السيطرة الأميركية وحلفائها. والحال، بقي الحزب يقاوم عموداً واحداً من منظومة السيطرة الأميركية الاستراتيجية المبنية على عامودين، أضخمهما وأصلبهما العمود الاقتصادي ــ الاجتماعي. ويتخلّى بذلك عن سلاح بيد المقاومة، بات في مقدمة أولويات المتغيّرات نتيجة ظروف تغليب أميركا سلاح الحرب الاقتصادية ــ الاجتماعية على الأسلحة الأخرى.
المنصّات التي تزعم أنها تعبّر عن مطالب الحراك في المسألة الاقتصادية تتناول الأزمة المالية بحلول تقنية منفصلة عن الاقتصاد السياسي


وخلافاً لاعتماد الحزب رؤية استراتيجية حربية يعمل على ضوئها من دون كلل لمشروع المقاومة الوطنية الفاعلة، ينأى عن بحث رؤية استراتيجية لمشروع التغيير السياسي وبناء «الدولة القوية العادلة القادرة» بحسب شعاره. فهو يعتمد، منذ مشاركته في السلطة، أساليب إدارة الأزمة وفق مبادئ أخلاقية عامة، تحت إبط دستور متقادم ينخره السوس وتحت خيمة مؤسّسات دستورية مهترئة يعشش فيها الخراب والفساد. ففي سياق إدارة الأزمة تناول الحزب، مثلاً، الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي، لكنه سحب الدعوة من التداول حين تبيّن له أنّها ملف في مشروع تغيير متكامل، ينبغي العمل من أجله طويلاً لتحضير تجهيزات تنفيذه في ظروف ملائمة. وفي هذا الإطار، يعوّل الحزب على مؤسسات دستورية بالية لمكافحة نهب المال العام وفساد الطبقة السياسية وإدارات الدولة، ويعوّل عليها وحدها أملاً بتخفيف وطأة الانهيار المالي والاقتصادي ومآسي الأزمات الاجتماعية المتراكمة. ولعلّ هذه المراهنة هي ما حدا بالحزب لحظة انفجار الأزمة الاجتماعية الخانقة وأزمة أمراض النظام السياسي في الشارع، إلى إخلائه وهو ما وفّر الفرصة أمام الجماعات الباحثة عن التسلّق على ظهر الحركة الشعبية لاحتلال الفراغ واستخدام نتائج المنظومة النيوليبرالية الأميركية والغربية، سلاحاً لإعادة إحيائها بأوجه جديدة من الجماعات الداعية إلى حلول تقنية لمواجهة فكرة المقاومة من أساسها إلى رأسها بأساليب «الاختصاص العلمي». وبدورها، لم تتقن بيئة الحزب من الشباب والطلاب والروابط المهنية...إلخ، أسلوب المنتديات الاجتماعية في الأرياف والمدن للارتقاء بالحراك الشعبي إلى تبنّي سياسات بديلة للمنظومة الفاسدة في النبع الخارجي والمصب المحلّي، فوق أحادية أساليب الاعتصامات الفولكلورية وفوضوية قطع الطرقات وفوق مطالب المنصّات الحالمة بتغيير شكلي فوقي، يعبّر عن طموحاتها الرمزية الخاصة بالحظوة والمكانة على ظهر مآسي الفئات الشعبية المهمّشة.

نحو فصل براثن السلطة عن الدولة
المنصّات التي تزعم أنها تعبّر عن مطالب الحراك في المسألة الاقتصادية، تتناول الأزمة المالية بحلول تقنية منفصلة عن الاقتصاد السياسي. بل هي في معظمها منحازة إلى اقتصاد الفساد الأكبر في منبعه الدولي المسبّب للفساد الأصغر في المصبّ المحلّي. وفي جانب التغيير السياسي لمواجهة فساد الطبقة السياسية تلتزم المنصّات، ولا سيما منصّات المعارضة الوطنية، بحلم إصلاح المؤسّسات الدستورية، لتغيير ما تراه المحاصصة الطائفية سبباً وحيداً لفساد النظام والطبقة السياسية وانهيار الدولة. ولا تحيد عن تصوّراتها للحل عبر انتخابات خارج القيد الطائفي لتلبية «مطالب الثورة» في انتخاب سلطة مدنية أو حتى «علمانية». وفي هذا السياق، تذهب منصّة «مواطنون ومواطنات» إلى وهم اقتلاع الانتماءات الدينية والطائفية في المجتمع، عبر قانون انتخابات جديد تعوّل عليه لحلّ أزمات الفئات الشعبية في العمل والتعليم والطبابة والسكن... والمواطَنَة، وربما أيضاً حلّ أزمات السياسة المالية والاقتصادية والعجائب الأخرى.

على خلاف التيار الوطني الحر يقرأ حزب الله المسألة الوطنية بمقاربة من العام الدولي ــ الإقليمي إلى الخاص المحلّي في لبنان


آفة انهيار الدولة وفساد المؤسسات والطبقة السياسية، لا حلّ لها بتنظيف إفرازات المنظومة في محاصصة أجهزة الدولة والثروات العامة، عبر تغيير أشخاص مجلس النواب الطائفي بأشخاص غير طائفيين. إنما العمل على حلّها، يقتضي تغيير الأسباب والمقدمات بفصل الدولة عن السلطة، سواء كانت طائفية أم غير طائفية وتعددية، كما هي حال بلد مثل سويسرا وبلجيكا وغيرهما، حيث جرى بناء أجهزة الدولة في سياق حقلها الإقليمي الأوروبي، وقت نهضة دور الدولة الديموقراطية قبل سيطرة النيوليبرالية، مستقلّة عن تدخّل السلطة ومسلّحة بآليات تصحّح نفسها بنفسها حين يختلّ دورها بتدخل طارئ من السلطة. فهذا المسار، الذي يمكن التعويل عليه لتغيير مسار انهيار الدولة في لبنان وفساد الطبقة السياسية والمنظومة الدستورية، يتطلّب مشروعاً ورؤية سياسية للعمل على إعادة بناء الدولة بدءاً من جمعية تأسيسية. وعلى أساس هذا المشروع، يمكن خوض الانتخابات وغيرها من المعارك السياسية، ويمكن بلورته في منتديات اجتماعية بين القوى الاجتماعية المتضرّرة من الانهيار، تحمل بدائل لسياسات الانهيار الاقتصادي من منبعه الدولي إلى مصبّه المحلي، وبدائل لحفظ الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي في العمل والتعليم والطبابة والسكن والبيئة النظيفة... وأيضاً المواطَنَة القائمة على حق القرار في نماذج العيش الآدمي الكريم والسياسات العامة والخاصة، أبعد من حرية الاختيار في السوق السياسية وفي سوق العبودية للمال والاستهلاك البذيء. فدور الدولة ثابت في أجهزة وهيئات وآليات عمل إدارية، للاضطلاع بمهام ووظائف تحقيق السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية الضامنة للمصلحة الوطنية العليا، على قاعدة توازن المصالح بين الفئات الاجتماعية المتضاربة المصالح. وفي سبيل تحقيق هذه الضمانة، تتكفّل الدولة بإرساء سياسة خارجية ثابتة وسياسة دفاعية أكثر ثباتاً. ولا يخضع أيّ من ثوابت دور الدولة لأهواء وتدخّلات السلطة المتحوّلة، من دون أن تتعرّض الدولة والمجتمع لأزمات تهدّد بالانهيار والفوضى، كما يتّضح من نتائج التحوّلات النيوليبرالية في الدول الديموقراطية الأوروبية. فالحراك الشعبي في لبنان والبلدان الأخرى، الذي ترى المنصّات مطالبه حلولاً فوقية شكلية لإصلاح أداء السلطة، ينتفض من أجل أحوال المعاش والعمران في تغيير أرضية الانهيار وجذورها. فهو مسار تغيير دولة المزارع إلى مسار بديل في مشروع ورؤية لإعادة بناء دور الدولة المستقل عن تدخل السلطة وتغيير اتجاه التبعية إلى المنظومة الفاسدة حيث تغيب الشمس إلى اتجاه تبادل المصالح والعلاقات المتكافئة نحو مشرقها.
* باحث لبناني