من لم يعرف جلبير الأشقر قبل 2011، لا يدرك مدى الانعطاف في مواقفه الفكرية والسياسية مع بداية ما اعتبره «السيرورة الثورية الطويلة الأمد»، أي الاحتجاجات الشعبية الحاشدة التي اجتاحت آنذاك العديد من مدن البلدان العربية، وأدت في بعضها إلى سقوط رؤوس هرم السلطات الحاكمة. لا يمكن فهم التحوّلات التي طرأت على مقاربات جلبير الأشقر لقضايا معقّدة، من نوع دور العوامل الداخلية والخارجية والتفاعل بينهما في رسم ملامح التغيير في دول المنطقة، أو في تحديد الأولوية التي ينبغي التركيز عليها في الإقليم، أو في التعامل مع القوى والشخصيات السياسية المختلفة، من دون وعي حقيقة أن السيرورة المذكورة باتت رهانه السياسي الأساسي لإحداث التغيير الجذري المنشود في العالم العربي. وعلى رغم التطوّرات التي تلت انطلاقتها، وما تخلّلها من حروب وأهوال، فإنّ الأشقر ما زال مقتنعاً بأنّها لا تمثل من منظور تاريخي سوى انتكاسة، وقد اختار لكتابه الثاني الصادر عام 2017 عنوان «انتكاسة الانتفاضة العربية ــ أعراض مرضية»، للتأكيد على حتمية تجدّد السيرورة الثورية في المستقبل.هذا الرهان الفكري والسياسي، قبل أيّ اعتبار آخر، هو الذي يفسر تبدلات مواقف الأشقر وتحليلاته. عرفتُ الأشقر منذ ثلاثة عقود تقريباً، والرجل كان يقف بوضوح في الصف المعادي للإمبريالية والصهيونية، كما ساهم بنشاط في الحملات التضامنية مع الشعب الفلسطيني أو تلك المناهضة للحروب العدوانية على أفغانستان والعراق ولبنان، وأيّد علناً المقاومة اللبنانية خلال عدوان تموز ــ آب 2006 في مقالات نُشرت في «الأخبار»، وفي كتاب أصدره مع ميشال وارشافسكي بعنوان «حرب الـ33 يوماً». المواقف التي يعلنها اليوم، والتي يختلف بعضها إلى حدّ التناقض مع تلك التي دافع عنها في الماضي، تعود إلى اعتقاده بأن مرحلة تاريخية بجميع قواها، بما فيها المقاومتان اللبنانية والفلسطينية بفصائلهما الرئيسية، قد سقطت، وأن الانتفاضات العربية قد أسّست لمرحلة تاريخية جديدة ستبرز خلالها قوى ثورية أخرى. وقد نجم عن هذا الاعتقاد النظري شبه الخلاصي، وعن التمسّك به رغم كلّ المتغيّرات والمستجدات، انفصالٌ كبيرٌ عن وقائع ومجريات الصراعات الفعلية الدائرة في المنطقة راهناً، وأحياناً تجاهل متعمّد لها أو حيادية تجاه أفرقائها، وبعضها من قوى المقاومة «القديمة»، التي كان الأشقر يساندها، ما أبعدَه عن الصف الذي انتمى إليه في الجزء الأكبر من مسيرته الفكرية والسياسية.

(Obey street art campaign)

عام 1999، صدر لجلبير الأشقر كتاب مهمٌّ بعنوان «الحرب الباردة الجديدة: العالم بعد كوسوفو» أشار فيه، قبل الكثير من الباحثين المتخصّصين في العلاقات الدولية، إلى عودة التوتر بين أطراف ما أسماه «الثلاثي الاستراتيجي»، أي الولايات المتّحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، نتيجة اعتماد الأولى استراتيجية احتواء حيال هذين البلدين، وسعيها لزعزعة استقرارهما وإضعافهما. ومن اللافت أن هذا الكلام قيل قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، في أواخر العام نفسه، واتّباعه سياسة أكثر حزماً تجاه الولايات المتحدة. كانت الولايات المتّحدة بنظر الأشقر، هي المسؤول الأساسي عن التوترات الدولية، وعن غالبية الحروب والنزاعات، أي كانت العدو الرئيسي لجميع شعوب العالم، وفي مقدمتها شعوب الجنوب، وهو ما أعاد التأكيد عليه في مقالاته وكتبه اللاحقة (مثل كتابه «صدام البربريات» الصادر عام 2002). وقد أكدت الأحداث المتتالية صحة الخلاصات التي توصل إليها الأشقر، فالإدارات الأميركية، منذ جورج بوش الابن ووصولاً إلى باراك أوباما، استمرّت بعملها لنشر الدرع الصاروخي في الدول المجاورة لروسيا، وفي محاولات توسيع «الناتو» شرقاً، وصولاً إلى حدودها، وفي الانتشار عسكرياً في جوار الصين، ما حدا بالبلدين لتبنّي خيار المواجهة معها، بعد إصرارهما لسنوات طويلة على السعي للتفاهم. لكن هذا الأمر لم يثنِه عن التراجع عن هذه الخلاصات، وهو بات اليوم يساوي بين الولايات المتحدة وروسيا، من حيث «السياسات الإمبريالية». فهو رأى، في مقابلة مع موقع «جاكوبين» عام 2016، أن «أفعال موسكو تتبع المنطق ذاته الذي تسلكه واشنطن. فتنظر روسيا إلى سوريا كقيمة استراتيجية تماماً كما كانت الولايات المتحدة تنظر إلى فيتنام في الماضي، أو إلى أيّ نظام كانت واشنطن مستعدة لدعمه عبر التدخل العسكري المباشر». عندما شنّت الولايات المتّحدة حربها الإجرامية على فيتنام أو على العراق أو على غيرهما من البلدان، لم تفعل ذلك لأنّها كانت تتعرّض للاحتواء والتطويق من قبل قوة دولية أخرى، كما كان حال روسيا عندما تدخلت في سوريا. هي تدخلت من أجل الخروج من التطويق والعودة إلى الساحة الدولية، ومنع الولايات المتّحدة من إسقاط نظام جديد، بعد العراق وليبيا، وإعادة صياغة الإقليم وفقاً لمصالحها. لن أدخل في نقاش حول طبيعة الدولة الروسية، أو الصينية، فهذا أمر يطول، لكن الأكيد حتى اليوم هو أن أميركا هي من تنشر قواتها في جوارهما، وليس العكس، في محاولة لتأبيد هيمنتها المتراجعة. هل من الممكن تجاهل دور حلف «الناتو» المحوري في حسم الحرب لصالح «الثوار» في ليبيا؟ سمعنا أصواتاً عديدة، بينها الأشقر، تجزم بأنّ من سيتحكم بمآلات «الثورة» في هذا البلد هم في نهاية المطاف أهله وثواره. نظرة سريعة إلى ما أصبح عليه وضع ليبيا اليوم، بعدما تحوّلت إلى ساحة صراع بين عصابات حاكمة محلّية متحالفة مع قوى إقليمية ودولية تكفي لدحض أطروحة غلبة الديناميات المحلّية في تحديد وجهة الأحداث في أيّ بلد تتفكّك فيه الدولة ويتعرّض لتدخّل دوليّ كبير يستغل الانقسامات الداخلية لتنفيذ أجندته الخاصة. الأمر نفسه ينطبق على سوريا، التي تحوّلت أزمتها منذ الأسابيع الأولى إلى صراع محلّي/ إقليمي/ دولي، مع السعي المحموم لأطراف في المعارضة ودول كفرنسا وقطر والولايات المتّحدة إلى استنساخ السيناريو الليبي، وإفشال ذلك بفعل تدخّل حلفاء الدولة السورية، لكن الأشقر بقي مصرّاً في البداية على أنّنا أمام ثورة شعبية، ومن ثم انتقل إلى إدانة تدخّل هؤلاء الحلفاء والتقليل من شأن تدخّل رعاة المعارضة الإقليميين والدوليين.
هل يستطيع أيّ معنيّ بالقضية الفلسطينية، أو حتى مناصر لها، أن يتجاهل الحرب الهجينة المستمرّة والمتصاعدة بين محور المقاومة والتحالف الأميركي ــ الإسرائيلي ــ السعودي، والتي تتمحور حول نموّ القدرات العسكرية والصاروخية لقوى المحور، وما ينتج عنها من تعديل لميزان القوى العسكري لغير مصلحة إسرائيل؟ لقد أظهرت المواجهات العسكرية الأخيرة بين جيش الاحتلال وقوى المقاومة في غزة، مدى تطوّر قدرات الأخيرة، خصوصاً الصاروخية، وهي قدرات كان لأطراف محور المقاومة دور حاسم في توفيرها، بحسب قادة فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع. ليس سراً أنّ التهويل الأميركي بالحرب على إيران، وسياسة الضغوط القصوى التي تتعرّض لها، ترتبط جميعها أولاً وأساساً بدورها المحوري في عملية بناء ومراكمة القدرات العسكرية في مواجهة إسرائيل، وأنّ الأخيرة وحلفاءها في إدارة دونالد ترامب والدولة العميقة الأميركية، كانت المحرّض الأول والمشارك بفعالية في الدفع نحو سياسة حافة الحرب مع إيران وحلفائها. مئات الغارات على مواقع في سوريا، سرعان ما اتّسعت لتشمل العراق، آلاف الهجمات بحسب رئيس الأركان الإسرائيلي السابق غادي أزينكوت، وبعضها نُفّذ على الأرض في قلب سوريا (بالشراكة مع فصائل «الثورة السورية»)، تصريحات متزايدة عن ضرورة اللجوء إلى الحرب، وآخرها توقّع «معهد القدس للدراسات الاستراتيجية والأمن»، والذي يضمّ بعض كبار المسؤولين كاللواء احتياط يعقوب عميدور، بأن «ثمة معقولية متزايدة لحدوث استفزازات من جانب إيران، وبدءاً من منتصف عام 2020 هناك احتمال حدوث مواجهة جرّاء ازدياد النشاط الإيراني لتجميع مواد انشطارية. وهذا ما يفرض استعداداً عسكرياً إسرائيلياً لمعالجة مستقلة. المطلوب الاستعداد لأسوأ السيناريوهات بما فيها قرار إسرائيلي للمبادرة إلى حرب وقائية ضدّ حزب الله».
يحلّق الأشقر فوق جميع هذه المعطيات، لا يأتي حتّى على ذكرها، ويرنو بنظره إلى البعيد، حيث ستستأنف «السيرورة الثورية» بمعزل عن القوى القديمة «المضادة للثورة»، حتى ولو كانت على حافة الحرب مع أميركا وإسرائيل. ولكن أيّة ثورة هي تلك غير المعنيّة بالصراع مع إسرائيل والهيمنة الأميركية على المنطقة وشعوبها ومقدراتها؟
لا بدّ لمن قرأ نصوص جلبير أشقر الأولى، وعرف حدّة تصنيفاته للقوى السياسية التي تقف مبدئياً على الأقل في المعسكر نفسه في مواجهة أميركا وإسرائيل أن يندهش من تعاطفه مع خصوم أيديولوجيين ودعاة تدخّل أميركي في لبنان والمنطقة، كلقمان سليم ومكرم رباح. الرجلان لا يخفيان قناعاتهما، ولم يتردّدا في تقديم مداخلات في ندوة لـ«مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، المعروف بكونه مركز اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتّحدة، طالَبا فيها واشنطن بتكثيف ضغوطها على حزب الله وحلفائه. من صنّف الحزب الشيوعي على أنه «ستاليني»، والتنظيمات القومية العربية على أنها «بورجوازية صغيرة ومتذبذبة» والحركات الإسلامية باعتبارها رجعية جوهرياً، أضحى اليوم يتضامن مع أيتام رامسفيلد وبولتون في مواجهة من يطالب بالتصدي لأطروحاتهم!