ليست أزمة الليرة اللبنانية مجرّد مشكلة اقتصادية، بل هي أساساً أزمة تتعلق بسيادة الدولة. فالتحليل الاقتصادي الصرف للواقع النقدي، اليوم، ليس كافياً إطلاقاً كي يشرح لنا طبيعة المأزق الذي يمر به لبنان، لا بل إن الاكتفاء بالمقاربة الاقتصادية هو بحد ذاته وسيلة من أجل إخفاء الطابع السياسي للمشكلة.ارتبطت ظاهرة الدولة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم السيادة، لا بل إن بروز هذا المفهوم في القرن السادس عشر يعتبر المؤشر الحاسم على ولادة المفهوم الحديث للدولة. وليس من المستغرب أن المفكر الفرنسي والفقيه القانوني الكبير، الذي وضع الأسس النظرية للسيادة جان بودان (1529-1596)، تطرّق بشكل مسهب إلى النقد، معتبراً أن صلاحية ضرب النقود هو امتياز حصري للدولة ويشكل علامة من علامات سيادتها. ففي زمن نافست فيه النقود التي كانت تسكّها السلطات الإقطاعية المتعدّدة، كان لا بدّ من تحصين سلطة الملك عبر جعل اختصاص سك النقود يدخل تحت ولاية السلطة المركزية دون غيرها. وقد اعتبر بودان أن النقد هو وجه من أوجه سلطان الدولة التشريعي، وبما أن سيادة الدولة أكثر ما تتجلّى في حصرية سلطتها التشريعية، كان من المنطقي الاستنتاج أن كل ما يتعلق بالنقد يجب أن يتم تنظيمه عبر القوانين المختلفة التي تصدرها الدولة. فمبدأ حصرية السيادة يستتبع حكماً حصرية تنظيم الدولة للنقد داخل إقليمها.
تكرّس هذا الواقع مع انتشار الدساتير كظاهرة قانونية تتحدّد من خلالها علاقة الدولة مع المجتمع واقتصاده. فقد طرحت إشكالية الطبيعة الدستورية للنقد كوسيلة حصرية تفرضها الدولة على سكانها، من أجل دفع ما يترتب عليهم خلال ممارستهم لنشاطهم الاقتصادي المعتاد. وقد اعتبرت مثلاً المحكمة العليا الأميركية في قرار لها عام 1871، أن سلطة تنظيم النقد كانت دائماً من مميزات السيادة:
“the clause enabling Congress to coin money) …) was intended to confer upon Congress that general power over the currency which has always been an acknowledged attribute of sovereignty in every other civilized nation than our own” (Knox v Lee, 79 U.S. 457).
طرحت الإشكالية نفسها مع إنشاء الاتحاد الأوروبي، عقب التوقيع على «معاهدة ماستريخت»، إذ اعتبر المجلس الدستوري الفرنسي في قرار له بتاريخ 9 نيسان 1992، أن إبرام هذه المعاهدة من شأنه المساس بالشروط الأساسية لممارسة السيادة الوطنية، كونها تنص على جملة من التدابير من بينها إنشاء عملة موحّدة ما يتطلّب تعديل الدستور بغية السماح بإقرار مثل هذه التدابير.
مع إنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920، عرف لبنان أول مرة مدى ارتباط النقد بالسيادة. فقد اتخذ المفوض السامي الفرنسي غورو القرار رقم 129 تاريخ 31 آذار 1920، بحيث نصّت مادته الثانية على استحداث عملة جديدة هي الليرة السورية، ومن ثم منح امتياز إصدارها لبنك فرنسي عرف بـ«البنك السوري». وهكذا، فرضت السلطات الفرنسية التداول بالعملة الورقية الجديدة في كل المناطق الخاضعة لها (لبنان وسوريا اليوم)، علماً بأن صكّ الانتداب الذي تم توقيعه في 22 آب 1922، جاء خالياً من أي إشارة إلى حق الدولة المنتدبة في إصدار تشريعات تتعلّق بالنقد.
تداركت فرنسا هذا الأمر، فقرّرت السماح للمجلس التمثيلي المنتخب عام 1922، التفاوض مع «البنك السوري» كي يتم منح هذا الأخير امتياز إصدار النقد، لكن باسم الدولة اللبنانية هذه المرة. وبالفعل، تمّ توقيع هذه الاتفاقية في 23 كانون الثاني 1924، بحيث جرى تبديل تسمية البنك كي تصبح بنك «سوريا ولبنان الكبير»، مع منحه صراحة امتياز إصدار النقد الورقي لفترة 15 عاماً. وقد اعتبرت المادة الثانية من الاتفاقية، أن العملة المُنشأة بمقتضى قرار المفوض السامي عام 1920 «تبقى العملة القانونية الوحيدة في مناطق لبنان الكبير وسوريا جبل الدروز. وهي دون سواها تستعمل في تحديد الأسعار وفي إجراء كل تصفية بين الدائنين والمدينين سواء أكان ذلك في الإدارات العامة أم في مشاريع خاصة»، علماً أنه جرى أيضاً تعديل العملة كي تصبح الليرة اللبنانية السورية بدل الليرة السورية.
وقبيل انتهاء الامتياز، دخلت الدولة اللبنانية في عهد رئيس الجمهورية إميل إده في مفاوضات مع البنك، بحيث تمّ التوقيع على اتفاقية جديدة في 29 أيار 1937، نصّت على تمديد الامتياز لمدة 25 عاماً. وبما أن لبنان وقّع منفرداً هذه الاتفاقية، من دون سوريا، فقد أعلنت المادة الثانية من الاتفاقية استحداث عملة جديدة هي الليرة اللبنانية. وهكذا، أبصرت الليرة اللبنانية النور من الناحية القانونية، وقد شدّدت المادة الثانية على أن «العملة اللبنانية (...) هي العملة القانونية الوحيدة في لبنان، أو وحدة النقد هي الليرة اللبنانية وهي تعادل عشرين فرنكاً فرنسوياً وتقسم إلى ماية قرش«.
كرّست اتفاقية عام 1937 الانفصال الرسمي بين الليرة اللبنانية والليرة السورية، لكن الواقع كان خلاف ذلك، لأن الليرة السورية كانت مشابهة تماماً لنظيرتها اللبنانية إذ تتمتع بسعر الصرف ذاته، ويتمّ التداول بها في لبنان بحرية تامّة، حتى إن «بنك سوريا ولبنان» أعلن أنه يقبل في كل فروعه المنتشرة على الأراضي اللبنانية تبديل النقد السوري بالنقد اللبناني من دون أي تمييز.
إن هذا الانفصام بين الواقع القانوني والحقيقة الاقتصادية سينتهي بعد توقيع لبنان في 24 كانون الثاني 1948، منفرداً، الاتفاق مع فرنسا في باريس، ما أدى إلى الانفصال النقدي بين لبنان وسوريا كون الليرة اللبنانية باتت تخضع لنظام نقدي مختلف عن الليرة السورية، ما أوجد اختلافاً في سعر صرف الليرة السورية مقارنة مع نظيرتها اللبنانية. وهكذا، أصدرت وزارة المالية في 2 شباط 1948 بياناً، أعلمت فيه الجمهور بضرورة استبدال الأوراق السورية المتداولة في لبنان بأوراق لبنانية، أي أن الليرة اللبنانية أصبحت واقعياً العملة الوحيدة الرسمية التي تتمتع بقوة إبرائية في لبنان. وقد تكرّس استقلال لبنان النقدي مع انضمامه إلى صندوق النقد الدولي، وصدور قانون الوحدة النقدية في 24 أيار 1948، الذي نصّت مادته الأولى على التالي: «إن الوحدة النقدية هي الليرة اللبنانية التي تساوي قيمتها 405,512 مليغراماً من الذهب الخاص، وهو المعدّل المصرح به لصندوق النقد الدولي وتقسم الليرة اللبنانية إلى مئة قرش».
وقبيل انتهاء امتيار «بنك سوريا ولبنان»، صدر قانون النقد والتسليف عام 1963، وقد أكدت المادة العاشرة منه صراحة على التالي: «إصدار النقد امتياز للدولة دون سواها. ويمكن الدولة أن تمنح هذا الامتياز لمصرف مركزي تنشئه». وبالفعل، أعلنت المادة 12 من القانون ذاته إنشاء مصرف لبنان، ومنحته امتياز إصدار النقد الذي ما زال يتمتع به حتى اليوم.
يُظهر هذا السرد التاريخي السريع، الارتباط الوثيق بين سيادة الدولة وإصدار النقد. فالليرة اللبنانية هي العملة الوحيدة الرسمية وتتمتع تباعاً بقوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية. وقد نصّت المادة 192 من قانون النقد والتسليف على معاقبة من يمنتع عن قبول العملة اللبنانية بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات.
يتيبّن لنا جلياً مدى فداحة الواقع الاقتصادي الذي تم تأسيسه في لبنان بعد عام 1992، إذ تمّ القضاء عملياً على سيادة الدولة النقدية، عبر دولرة الاقتصاد الوطني بشكل شبه كامل. ولا بدّ لنا أن نتذكر تصريح حاكم مصرف لبنان في مؤتمره الأخير، الذي أعلن فيه جهاراً أن الاقتصاد اللبناني مدولر «ففي حال فقد الدولار لا يوجد اقتصاد» في لبنان.
يشكل هذا التصريح إدانة كاملة لكل النهج الاقتصادي والمالي الذي تمّ اتّباعه خلال ثلاثين عاماً، من ضرب كلّ المقوّمات الإنتاجية وتحويل لبنان إلى اقتصاد ريعي قائم على توازن مصالح بين الطبقة الحاكمة والمصارف. وهو يعني أساساً أن سيادة الدولة النقدية الحقيقية لا تكفلها النصوص القانونية فقط، بل هي تحتاج إلى اقتصاد سليم وقوي يعطي الثقة محلياً ودولياً بالليرة اللبنانية. فسيادة الدولة النقدية، تتطلّب وجود سلطة سياسية تتمتع بالشرعية، أي القدرة على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية الاقتصاد الوطني. النظام السياسي القائم اليوم، هو المسؤول مباشرة عن ضرب سيادة لبنان، ليس فقط بسبب ارتهان زعماء الطوائف إلى الخارج بل أيضاً لأن هؤلاء تخلّوا عن سيادة الدولة النقدية، عبر سنين طويلة من الضرب الممنهج لمناعة الاقتصاد الوطني من خلال تهجير الشباب وتحويل لبنان إلى سوق استهلاكي كبير.
إن أزمة الليرة اللبنانية هي في الحقيقة أزمة نظام سياسي فاقد للشرعية، وغير قادر على بناء دولة فعلية تمارس سيادتها من أجل الدفاع عن المجتمع، لذلك، لا يكمن الحل بإدخال إصلاحات جزئية أو تبنّي خطوات قانونية محدّدة، كون المشكلة في لبنان ليست تقنية بل هي في جوهرها أزمة سياسية تتطلّب بناء شرعية جديدة لجمهورية جديدة.

*أستاذ جامعي