القيادة السيّئة تُنتج معارضة سيّئةجورج حاوي

اندلعت حركة احتجاجية كبيرة في لبنان في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، صُنّفت في بدايتها أنها عفوية وتلقائية. أخذت التحركات في البداية طابع المطالب المعيشية وحقوق المواطنة، ثم راحت المطالب المعيشية تتراجع لتحلّ محلّها أو توازيها مطالب سياسية تعكس طبيعة الصراع القائم في لبنان.
واللافت في الحراك الحالي، هو انخراط قوى تصنَّف تاريخياً بأنها تنتمي إلى محور المقاومة في حركة الاحتجاجات، مقدّمة الخيار الاجتماعي على الخيار السياسي الوطني. ورغم أهمية وأحقية المطالب، تعامل محور المقاومة بحذر مع الاحتجاجات وفصل بين المطالب المحقّة، والمطالبين بها من أحزاب وجمعيات، كما استطاع بحنكة عالية إخراج جمهوره من بنية الحراك وفعّالياته.
في المقابل، ركبت موجة الحراك أحزاب وقوى وشخصيات معادية لمحور المقاومة، وراحت تعمل على نقله من الحالة المعيشية إلى الحالة السياسية، مع بقاء مجموعة قليلة عابرة للطوائف تتمسّك بأصل مطالب الحراك، وهي مجموعة تفتقد إلى البنية الاجتماعية التي تمكّنها من إحداث تغيير حقيقي في البنية الاقتصادية والسياسية، وتحقيق جزء من المطالب المعيشية التي كانت أساس الحراك.
لم يحقق الحراك اللبناني إنجازاً أو مطلباً اجتماعياً أو معيشياً واحداً يؤهّله للتقدم أكثر نحو المشروعية الوطنية. وبعد تصريحات السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان بشأن المصلحة الأميركية من التظاهرات التي تجري في بيروت، تقدّم المستوى السياسي للحراك على العمل المطلبي والمعيشي. ومن حيث الشكل، ظهر الحراك نفسه بصورة تشبه صورة السلطة في لبنان، حيث تصرّف في الانتخابات النقابية بطريقة إعلامية استعراضية وغير واضحة من حيث التحالفات، وليست جليةً من حيث الفوز الصريح والصافي.
تشوب الحراك الحالي كتلة متنوعة وكثيفة من الإفرازات في الشكل والمضمون، والتي هي بالأساس ناتجة عن مجموعة التناقضات والتشظّي الاجتماعي وعدم الوضوح الثقافي التي تغمر المجتمع اللبناني. وتجلّت هذه الكتلة التي سيطرت على الحراك في الأمور التالية:
1ــ السُّباب ولغة الشتائم والاستفزاز، التي كانت طاغية على الحراك، وتم استخدام عبارات سوقية عادة لا تحملها، ولا تتبنّاها المفاهيم التربوية والتعليمية ومعظم الأخلاقيات المنتشرة في المجتمع اللبناني. وهي تؤشّر إلى انحلال بنيوي يتّصل وأصل المفاهيم التربوية، حيث وصلت إليه شريحة اجتماعية تعاملت معه بشكل طبيعي، وتستمد ثقافتها من فعل الخيبات واللامبالاة اللبنانية، والصدمات التي ظهرت بفعل العولمة وتطوّر عملية التواصل، ما دفع ذلك إلى خروج شريحة اجتماعية من الحراك، ترفض استخدام تلك العبارات وتعتبرها تشكّلاً نقيضاً لها، وهي فئة أعادت اكتشاف نفسها ثقافياً، ولها ثقل اجتماعي وسياسي وفكري. كذلك، هي تقدم نفسها بكل ثقة إلى العالم، على أنها تحمل مشروعاً للتغيير الثقافي والإنساني. وهنا، لا أناقش لماذا تقدّمت تلك اللغة ظاهر الحراك، ودفعت بالفئة الثانية إلى الوراء.
يضاف إلى ذلك، الشعارات الاستفزازية التي رُفعت في الحراك، وأساسها «كلّن يعني كلّن»، وهو شعار «ظالم وخبيث»، والإصرار عليه خلق دائرة من الشك والظن لدى شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، وهي شريحة صادقة تنتمي إلى سياسيين نظيفي الكف وغير ملوّثين بالفساد، فدفع أيضاً بهذه الشريحة إلى الخروج من الحراك. ويبقى أن الشعارات والمصطلحات التي تعبّر عن تحرك أو ثورة، تعكس أدبيات وأخلاقيات وتربية أفرادها، وهي بالضرورة مؤشر على العمق الاجتماعي للثورة. وترافق كل ذلك مع طابع التسلية والترفيه الذي طغى على الحراك، وهو أمر يتناقض مع جدية قوى التغيير والثورة وصلابتها.
2 ــ شكّل «الإعلام المرئي» ــ خصوصاً بعد تجربة «الربيع العربي» ــ أحد أخطر الشوائب التي أضرّت بالحراك وأثرت على جديته، كون هذا الإعلام يعمل وفق مفهوم المنافسة من دون ضوابط، وزيادة نسبة المشاهدين، أي أنه يعمل وفق العقل التجاري المنفلت. وهو إعلام غير مسؤول ومسيَّس وينتهك باستمرار المعايير الأخلاقية، كما أنه منخرط في الصراع السياسي القائم في لبنان. وقد تبنّى هذا الإعلام نفسه الحراك اللبناني، كما عمل بعضه على توجيهه، فخلق حالة من التوجّس والريبة والشك لدى شريحة اجتماعية واسعة.
3 ــ القوى والأحزاب التي امتطت الحراك ــ غير الأحزاب السياسية التي بدأت الحراك ــ وهي تلك الأحزاب التي بنت ثقافتها وتعاملها مع الدولة على مفاهيم الحرب الأهلية. وهي أحزاب تستمد قوتها من وجودها داخل الدولة، وفي بنيتها سلطوية تشبه مجموعات المصالح والشركات الكبرى التي تعمل على التكاتف الاجتماعي بين أفرادها، فخلقت بيئة اجتماعية خاصة بها. امتطت هذه الأحزاب الحراك، وشاركت في فعّالياته، فظهر الحراك على شاكلة «ميليشياوية» نفرت منه الطبقة الوسطى، والتي هي في الأساس المعنيّة بأي حركة تغيير اجتماعي، فراحت تلك الطبقة تتراجع وتُخلي الساحات. ونفرت منه، أيضاً وبشكل خاص، البيئة اللبنانية التي بقيت على تماس مع ذكريات الحرب الأهلية وهي بيئة ترفض بالضرورة والوعي، العودة إليها.
عدم وضوح الأهداف والبرنامج للحراك عطب بنيوي وخطأ موضوعي لم يُعمل على معالجته


4 ــ التناقض بين شعارات الفقر والحرمان المرفوعة من المتظاهرين، وحقيقة قادة الحراك الاقتصادية والاجتماعية، وقد لاحظ ذلك، بشكل خاص، أبناء الطبقات الفقيرة والمقهورة.
5 ــ مشاركة الشخصيات العامة في الحراك، وهي شخصيات منفصلة أو مفصولة من أحزابها وظهرت وكأنها تريد الانتقام. وبعض تلك الشخصيات انتهازي، جعل من الحراك أكثر هزلاً وجنح نحو الطفيلية والغوغائية، فاندفع يحرّض على تلك القوى مستغلة قضايا عادلة ومحقة وأخطاء أساسية مرتكبة من هذه القوى نفسها.
6 ــ تعامل السلطة القائمة مع الحراك، باعتباره فرصة مناسبة لتصفية الحسابات في ما بينها، وانجرار الحراك إلى ذلك، عبر بعض التصرفات الميدانية ذات الرسائل السياسية، التي أخذ من في الحراك يدافع عنها بغوغائية وصلافة وسذاجة في الوقت نفسه. فوقع الحراك في الشرك السياسي وابتعد عن المفاهيم المطلبية التي انطلق منها.
7 ــ تعامل الحراك مع خطاب السيد حسن نصرالله بالتحديد بعدم مسؤولية، ما دفع قسماً كبيراً من المقهورين اجتماعياً واقتصادياً إلى عدم الثقة بالحراك نفسه، وهو جمهور مسيَّس يقدّم الخطاب الوطني على الخطاب المجتمعي، كما أن للسيد نصرالله تأثيراً كبيراً عليه.
8 ــ الأحزاب التي شاركت في انطلاق هذا الحراك، وهي أحزاب تعاني من فشل ثوري واجتماعي تاريخي وبنيتها مهترئة، وهي نفسها تفتقد إلى مقومات الديمقراطية. وطرح فكرة محاسبة السلطة وأحزابها، منذ ثلاثين عاماً، يطرح فكرة ضرورة محاسبة تلك الأحزاب نفسها منذ أكثر من ذلك بكثير على وجودها، وعلى تقلّب خياراتها السياسية، وطريقة مقاربتها للملفات الاجتماعية والاقتصادية. وهي أحزاب بالضرورة، لها أزمة بنيوية وثقافية وتتعامل مع المجتمع الذي تحيا فيه بأسلوب النكران والرفض والاستهزاء بثقافته، وهي نفسها لم تخلق آلية للتغيير الاجتماعي أو الاندماج الاجتماعي، فراحت تدور حول نفسها وأفكارها. وعندما تصطدم الأفكار بالمجتمع، ويصرّ صاحبها على تبنّيها تخلق من حيث لا يدري، بيئة مجتمعية هامشية منافقة، حيث السلوكيات الاجتماعية لأفرادها لا تستوي والعقيدة والأيديولوجيا التي يحملها. وبالتالي، لا يمكن لكل هذا التناقض أن يقود حراكاً واضحاً وصريحاً.
9 ــ عدم وضوح الأهداف والبرنامج للحراك، وهو عطب بنيوي وخطأ موضوعي لم يُعمل على معالجته ــ وهذا موضع تساؤل واستهجان ــ والهدف هنا يجب أن يكون واضحاً ومحدداً، كما يجب أن يتم وضع استراتيجيات من أجل تحقيقه، وهو ما كان يفتقر إليه مَن في الحراك. فإسقاط الحكومة ليس هدفاً قائماً بذاته، بل هو عمل يجب أن يدخل ضمن إطار التكتيك الذي يخدم استراتيجية أكبر. لذلك، كان الحراك يفتقد للعقل المنظّم الذي يضع خطة، وفي الوقت نفسه يضع بدائلها ويعمل على مراحل وفترات لتنفيذها، ويدفع ذلك إلى النقاش بشأن طبيعة الأفراد الذين يقودون الحراك وخلفيتهم الثقافية ومفهومهم للثورة.
10 ــ تفاوُت القيم والمفاهيم بشكل كبير بين الحراك وفئات واسعة من المجتمع اللبناني، بحيث تطغى على الحراك ثقافة وآداب الرأسمالية الغربية، في تناقض واضح مع الثقافة والمفاهيم والقيم الاجتماعية السائدة لفئة اجتماعية واسعة من اللبنانيين. فالتغيير الاجتماعي له آلياته ولا يُطرح بشعار جذاب، كالحرية الفردية والمطالبة ببعض الحقوق التي تحتاج لتحقيقها إلى مرحلة انتقالية وبرامج تطاول جوانب المجتمع كافة. وشكّل الترويج لهذه القيم وتبنّيها عملية تحدٍّ قيمي وثقافي لفئات واسعة من المجتمع، الأمر الذي ظهر أيضاً من خلال الطريقة التي قُدمت فيها تلك الأفكار والقيم، من دون أي مراعاة لثقافة وقبول الآخر، بل نفَّذ عملية محاكاة فرض ثقافي.
11 ــ مؤسسات المجتمع المدني، التي شاركت في الحراك مع ما تحمله من خلفية ثقافية وسياسية واجتماعية، وهي موضع توجّس وريبة عند شريحة اجتماعية واسعة داخل المجتمع اللبناني. كذلك، يُنظر إليها باعتبارها مموّلة من الثقافة الليبرالية ــ الرأسمالية، وتهدف إلى التغيير الاجتماعي والسياسي وفق تلك الأجندة، ويُنظر إلى أفرادها بصفتهم أفراداً مدرّبين ومنظّمين وليسوا عفويين.
12 ــ عدم اطمئنان الطوائف اللبنانية إلى روحية الحراك، الذي راح عملياً يطالب بإلغائها(الطائفية) ـــ مع أن رؤساء الطوائف جميعهم تبنّوا مطالب الحراك وهم فعلياً يكرّرونها بشكل دائم ومستمرـــ . وهذا الأمر من الأخطاء الموضوعية في برنامج الحراك وضعف الرؤية السياسية لديه، إذ أن جميع هذه الطوائف هي أقليات في المنطقة، كما أن تجاربها قاسية ومؤلمة في الإقليم. لذلك، فقد الحراك الحاضنة الروحية الذي لو أحسن التعامل معها، لكان تغيّر وجه لبنان وانتقل من الكيان إلى الوطن.
وقع الحراك اللبناني ضحية المجتمع نفسه الذي انطلق ليغيّره، ضحية التناقض المجتمعي والتشويه الثقافي للأفكار والعقائد والمصطلحات. وقع ضحية البنية الهشّة والمتناقضة لهذا المجتمع، وراح يتحول من أداة تغيير وإصلاح بفعل بنية مشوّهة غير منسجمة إلى أداة سياسية يحاول استخدامها الجميع. ولم يستطع حتى الآن أن يحدد هويته السياسية بشكل واضح ودقيق، فيما تتقلّص يوماً بعد يوم مساحته الصادقة لتتوسع أكثر مساحته الزائفة، التي امتطتها الأحزاب اللبنانية والمنظمات غير الحكومية، وصولاً إلى استثماره في الصراع الإقليمي والدولي.
ووفقاً لكل ما تقدم، يتجه الحراك إلى أن يسلك اتجاهاً من ثلاثة؛ الاتجاه الأول، تحوّله إلى حركة عنفية، خصوصاً من خلال الأحزاب التي امتطته. وهو اتجاه ضعيف لأسباب موضوعية تتعلق بالحراك نفسه، وبقدرة محور المقاومة نفسه. والاتجاه الثاني، تحويل الحراك إلى حركة فوضوية، وذلك أيضاً بفعل القوى التي امتطته، وبالتالي شلّ عهد الرئيس ميشال عون، وهو اتجاه نِسبته أفضل من الاتجاه الأول، ونسبة اللجوء إليه واردة. والاتجاه الثالث، احتواء الحراك من قبل النظام السياسي اللبناني، ونسبة هذا الاحتمال هي الأكبر بفعل مجموعة من المعطيات قائمة ويُعمل عليها، وعبّرت عنها وجوه عديدة من السلطة الحاكمة.

*أستاذ جامعي