في السادس من كانون الأول / ديسمبر عام 1917، وُلد كمال جنبلاط الذي اغتيل مظلوماً بعد ستين عاماً في 16 آذار / مارس 1977. وكما في كل عام، يزداد شعورنا بافتقاد تلك القامة الوطنية الكبيرة، التي شكلت مع قامات مماثلة على امتداد الوطن صورة بهية للبنان أمام أبنائه وأشقائه وأحرار العالم.واليوم، مع دخول الانتفاضة الشعبية المباركة ــ رغم بعض الشوائب ــ يومها الخمسين، يفتقد اللبنانيون كمال جنبلاط أباً روحياً للكثير من انتفاضاتهم المتعدّدة، من أجل العدالة والكرامة والالتزام بقضايا الأمة. اليوم، يفتقد اللبنانيون والعرب قامة جسّدت في فكرها وسلوكها ونضالها جملة قيم وفضائل. يفتقدون الأداء الوطني الجامع، والالتزام القومي الساطع، والسلوك الأخلاقي الرفيع، والرؤية السياسية الثاقبة، والشجاعة الأدبية الواضحة، والشفافية الإنسانية الرفيعة، والثقافة العالمية العميقة. بل يفتقد اللبنانيون، وشبابهم بشكل خاص، تلك القدرة الخاصة التي مكّنت زعيماً «تقليدياً» من أن يجمع من حوله قوى وأحزاباً وشخصيات تقدمية ووطنية وديموقراطية من مشارب وبيئات فكرية وعقائدية متنوعة من كل لبنان، في إطار حركة وطنية جامعة عابرة لكل العصبيات البغيضة في لبنان.
ولعل ذكرى ميلاد كمال جنبلاط فرصة لكي نستعيد معه حواراً قد يكون مفيداً اليوم لتصويب الشعارات وتصحيح المسارات. في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، أي قبيل الحرب المشؤومة في نيسان 1975، كان الشارع اللبناني يغلي بالتظاهرات الوطنية والمطلبية والمدافعة عن حقوق المعلمين والعمال والمزارعين والمقاومين ضد العدو الصهيوني. وكنا في كل تظاهرة تصل إلى مجلس النواب، نردّد بحماسة هتافاً معروفاً لمن عاش تلك المرحلة: «12...12...12 لص... و99 حرامي»، فقد كان عدد الوزراء آنذاك 12 وعدد النواب 99. أذكر أنه في لقاء جمعني مع رفاق لي بالراحل الكبير في تلك المرحلة، وكان لنا دور رئيسي في تلك التظاهرات مع إخواننا ورفاقنا في الأحزاب الوطنية والتقدمية، سألنا جنبلاط بطريقته المهذبة واللياقة: «هل تعتبرونني أنا لصّاً وحرامياً بحسب هتافكم... هل تعتبرون رشيد كرامي، وريمون إده، وعبد المجيد الرافعي وعلي الخليل وفريد جبران من اللصوص والحرامية... هل تعتبرون زاهر الخطيب، ونجاح واكيم فاسدين؟». (لم يكن يومها الشهيد معروف سعد نائباً)...
أطرقنا رؤوسنا، خجلاً، وتعلّمنا يومها درساً لم ننسه طيلة حياتنا النضالية، وهو خطأ التعميم، وعظمة تلك الآية القرآنية: «لا تزر وازرة وزر أخرى». وأدركنا أنه رغم طغيان طابع الفساد والمحسوبية على مجمل الطبقة السياسية والممارسة السياسية، إلا أن هناك دائماً داخل الندوة النيابية والحكومات والرئاسات شخصيات نظيفة ووطنية قاومت قدر الإمكان الفساد المستحكم في الدولة، وقد دفع بعضهم ثمن ذلك، إخراجه من «نادي الحكم» في لبنان.
تذكرت الوزيرين الراحلين إميل بيطار وجورج أفرام، تذكرت الأخ والرفيق بشارة مرهج وأستاذه في الاقتصاد إلياس سابا، وتذكرت استقالة شربل نحاس، كما تذكرت العديد من الوزراء الذين خرجوا من السلطة نظيفين وأنقياء محترمين، وتذكرت طبعاً رؤساء جمهورية وبرلماناً وحكومة سابقين يفتخر بهم لبنان، وما زال اللبنانيون يذكرونهم بكل خير.
لم يكن ذاك هو الدرس الوحيد الذي تعلّمناه من كمال جنبلاط بالتأكيد، لكن تعلّمنا منه كيف يكون التزام القائد الوطني بالعروبة التحررية المعادية للأحلاف الاستعمارية والمشاريع الصهيونية، في ظل اختلال واضح في موازين القوى يومها لمصلحة أعداء لبنان والأمة.
رحم الله كمال جنبلاط في يوم ميلاده.
ولتكن قامته منارة تُهدي أجيالنا سواء السبيل.

* سياسي لبناني