يستغرب أصدقاء أعزاء انشغالنا بقضايا الأمة، وفلسطين في مقدّمها، في حين يعيش لبنان منذ أسابيع انتفاضة شعبية غير مسبوقة لن تقلّل من شأنها محاولات البعض ركوب موجتها وتغيير وجهتها...والاستغراب نفسه هو موضع استغراب، لأن بعض أصحابه يربط بين بعض ما يشهده الشارع من شعارات انقسامية، وممارسات مسيئة، وبين ما يستهدفه أعداء لبنان من خيار وطني مقاوم للبنان، متجاهلين جملة حقائق تتّصل بالانتفاضة نفسها وبمآلاتها ونتائجها.
أول هذه الحقائق أنه لا يجوز فصل منظومة الفساد أو الاستبداد أو التبعية المهيمنة على مجتمعنا عن رعاية استعمارية وصهيونية، تسعى منذ عقود إلى زرع بذور التفرقة العنصرية والطائفية والمذهبية في كلّ مجتمعاتنا، وعن تغذية صهيونية واستعمارية لكلّ آليات الفساد وشخوصه وبمختلف الوسائل.
فهل هي صدفة أن يتفشّى الفساد في لبنان بعد حرب 1982 وما نجم عنها من احتلال وتغذية وتشجيع للحروب الداخلية بدءاً من حرب الجبل وما تلاها؟
هل هي صدفة أن يصل الفساد في العراق إلى مستوى غير مسبوق في العالم بعد الاحتلال الأميركي عام 2003؟
هل هي صدفة أن يعمّ الفساد قطراً عربياً كبيراً كمصر بعد خروجها من النهج التحرّري الذي قاده جمال عبد الناصر، ودخولها في نفق كمب ديفيد؟
وهل هي صدفة أن يترافق الفساد في فلسطين والأردن مع مرحلة أوسلو ووادي عربة، وما أفرزته من جماعات وآليات تنشر الفساد؟
بل هل هي مجرّد صدفة أن يعمّ الفساد بلادنا العربية عموماً، لا سيما تلك الواقعة تحت القبضة الاستعمارية، المباشرة وغير المباشرة، منذ أن عشنا تداعيات نظام عالميّ أحادي القطبية، تقوده واشنطن وحلفاؤها الغربيون، وأثار سياسات نيو ليبرالية أفرزتها الرأسمالية المتوحشة، وهي تحاول مواجهة مرحلة أفولها واحتضارها.
أما ثاني هذه الحقائق، هل يمكن للبنان، أو لأيّ قطر عربي أن ينهض اقتصادياً، ويتحرّر سياسياً ومالياً ونقدياً، بعيداً عن منظومة تكامل اقتصادي عربي وآليات تشبيك بينه وبين أقطار عربية أخرى، بل بين نهوضه وبين تحرير الأمة كلّها من أثار المشروع الصهيو ــ استعماري في المنطقة ومطامعه، والذي يستنزف العديد من مواردنا، ويُغرقنا في حروب داخلية أو خارجية تشلّ قدراتنا وطاقاتنا... وتسعى لمصادرتها.
وثالث هذه الحقائق، هل يمكن فصل الصحوات الشعبية المتلاحقة في أقطارنا العربية عن بعضها البعض، بل هل يمكن فصل المحاولات المشبوهة لتجويف هذه الانتفاضات وحرفها عن وجهتها الأصلية، كما رأينا في عدة دول عربية، عن مخططات صهيو ــ استعمارية تستخدم أدوات محلية ونعرات عنصرية ومذهبية لتمرير غاياتها وسمومها.
لذلك، رغم خصوصية كلّ انتفاضة في قطرها، إلّا أنها تشترك جميعها في مواجهة واقع فاسد متشابه، تماماً كما تشترك في مواجهتها لعدو واحد متربّص باستقلال الأمة ووحدتها ونهضتها.... لذلك ينبغي على كلّ مهتم بما يجري في لبنان، أو غيره من أقطار الأمة أن يقرأ المشهد كلّه لا جزئياته، وأن يدرك أنّ المعنى الحقيقي لهذه الانتفاضة في لبنان، أو غيره من أقطار الأمة، يبقى في إدراك البعد الشعبي القومي، والإقليمي، والعالمي لها لأن الأعداء يخطّطون لمواجهتنا كأمة واحدة، وبالتالي فلا يجوز مواجهتهم كأجزاء متفرقة ومتناحرة.
الاهتمام مثلاً بقضية فلسطين ليس ابتعاداً عن روح الانتفاضة بوجه الفساد والاستبداد والمحاصصة الطائفية، بل هو في القلب منها، لا بل يمكن القول إنّ الجهد الأكبر لكلّ من يحاول تشويه الانتفاضة أو ركوب موجتها، إنما ينصبّ على وضعها بوجه كل جهد مقاوم أو سياسة مناهضة في الأمة للمشروع الصهيو ــ الاستعماري، الذي هو أصل الفساد والتخّلف والتفرفة الطائفية والمذهبية.
ومن حقنا في هذا المجال أن نستغرب استغراب البعض، بل أن ندعوه لقراءة أكثر تعمقاً لما يجري حولنا.

* سياسي لبناني